حكايات المدينة
فاطمة حامدي
ينتهي المطبخ بشرفة تطلّ على المدينة مدينة لا يرى منها سوى سطوح منازل تسابق في علوّها أشجار السّرو المتاخمة لها وأينما وجّهت البصر فإنّه يقع على سطوح العمارات .هي سطوح بدت بلون العشب وهو عشب به حنين إلى التّراب ...سطوح تعلوها أجسام شابهت في حجمها وشكلها الصّناديق ولئن اختلفت مهامّها ،فمنها ما كانت محرّكات مكيّفات و أخرى سخّانات شمسيّة تحوّل الإشعاع الشّمسي إلى طّاقة حراريّة وأمّا ما تبقّى من السّطح ،فقد شذّت إليه هوائيّات وهي أيضا محوّلة لطّاقة كهرومغناطيسيّة للبثّ التّلفزي، هوائيات ولئن اختلفت في حجمها واتّجاهها فإنّها قد اتّفقت في استقبال البثّ التّلفزي والإذاعيّ بجودة عالية ،يسلّيان من ألمّ به ضيقان :ضيق المكان وضيق النّفس .
جلت ببصري في كلّ الاتّجاهات في الشّرق و وفي الغرب وما بينهما في الشّمال والجنوب وما بينهما ، ولكني عبثا أردت تغير المشهد .فالجدران تحاصرني و السّطوح. واخترق سكون الصّبح عصيف’ زوبعةِ ولولا أصوات’ منبهاتِ بعض السيّارات لخلتها عاصفةٌ هوجاء تعصف بالمكان.
واستمالني صوت منبّه سيّارة أحد السكّان وهو يقاسمنا العمارة يستحثّ أتباع السّائق وسرعان ما التحقت بالسيّارة سيّدة يرافقها ولدان قد تفاوتت أعمارهم ،أحدهم قصير القامة يلبس معطفا ودسّ رأسه داخل قلنسوّة أخفت عنّي تفاصيل علامات وجهه،يتبعه شابّ يبدو لي هو الابن البكر يتأبّط’ حاسوبا فكأنّي به طالب بإحدى الكلّيات بتونس العاصمة .وتلتحق بهم طفلة صغيرة متباطئة الحركة تلبس معطفا أحمر قاني وظهرت منه خصلات شعرها الأسود الفاحم الطّويل فبدت كزهرة شقائق النّعمان.ركب الجميع وانطلقت السيّارة انطلاقة أعلنت توتّر السّائق.....
"هذا هو حالهم كلّ يوم ولن يعودوا إلاّ في ساعات النّهار الأخيرة ..إنّ جيراني مازالوا يوصلون رحلة الصّراع مع الحياة العمليّة بجهاد ،فهم يستأنفون يومهم بصراع مع حركة المرور والبحث عن مأوى يركنون فيه سيّاراتهم بعد أن يوصلوا أبناءهم إلى روضة الأطفال والمدارس والجامعات.قلت " الحافلات والمترو وسائل نقل عموميّة فلماذا لا يركبها الأبناء فهم بذلك يعتمدون على أنفسهم ؟" قالت" هروبا من المصروف فميزانيّة العائلة محدودة ولولا القروض البنكيّة لذاق كلّ الموظّفين الويلات فكما ترى أرتفاع مشطّ في الأسعار و في معالم الكراء واستخلاص الفاتورات فالكلّ يلهث وراء التّسديد والدّفع
قطعت حديثنا أصوات أطفال فاستفزّتني للبحث عنهم وأسرعت إلى الشرفة المعلّقة وبي حنين إلى الحركة...وصرت أرقبهم وأتابع حركاتهم مستمتعا ومؤنسا....أطفال في مثل سنّي فرّوا من ضيق الشّقق إلى فضاء لم يكن أرحب ...لقد احتضن الرّصيف كرتهم البرتقاليّة ولم يطل بهم الرّكض وراءها لقد توارت واختفت تحت سيّارة راكنة أمام باب العمارة وقتها ليس لهم من خيار سوى ان يلعبوا لعبة التسابق ,,,أو الغميضة فأرى أحدهم مغمض العينين الآخرون يتنادون عليه من كلّ جهة وتراه موزّعا بين الجهات يحاول أن يقبض على أحدهم وعندما يمسك به يحلّ محلّه .كذلك نلعب نحن في قريتنا وفي بطحاء الحيّ الواسعة نجري ونتسابق وأرجلنا تداعب الرّمل ويداعبها .
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق