رواية " الأبناء لهم أجنحة " وتغيّر الوعى الجمعى
دراسة بقلم : د. محمد هندي
تُمثـِّل رواية " الأبناء لهم أجنحة "(دار المعارف- 2007م) للكاتب الكبير " يعقوب الشارونى" ، إحدى الروايات التى أفرزها التطورُ التكنولوجى الذى وصلتْ إليه البشريةُ فى الألفيّة الثالثة ، فهى من الرواياتِ الأولى فى أدبِ الطفلِ ، التى حرصتْ على تقديمِ أفكارٍ أيديولوجيةٍ عصريةٍ بلمساتٍ فنيةٍ تتناسبُ مع طفل التكنولوجيا الرقمية ، الذى يختلفُ فى إدراكِهِ ، وتصوراتِهِ ، واهتماماتِهِ عن طفل مرحلة ( ما قبل الرقمية ) ، ويستطيعُ الطفل إدراك ذلك بصورة مباشرة من خلال تفاعله مع غلاف الرواية ، الذى تشكَّل فنيًا من رسومات تصويرية تُحِيل مباشرةً إلى عالم الكمبيوتر ، بصورة تعطى انطباعًا أوليًا لدى القارئ بأنّ العالم الرقمى سيكون له دورٌ مؤثرٌ فى صناعة الأحداث وتحريكها فنيًا.
من هنا قد يتساءلُ القارئ الطفل (فى حالة كونه قارئًا إيجابيًّا) : هل لشاشة الكمبيوتر الموجودة على غلاف الرواية علاقةٌ مباشرة بهؤلاء الأطفال الذين يحيطون بها ، ويجلسون أمامها ؟ وما طبيعة الأجنحة التى سعت القصة إلى تقديمها دلاليًّا وفنيًّا ؟ بمعنى آخر: هل هناك دلالات إيحائية تمّ تضمينها فى هذا العنوان لتحقيق هدف ما ، يسعى الكاتب إلى ترسيخه فى عقل قارئه الصغير ؟ وهل الأمر له علاقة مثلاً بالحرية الإبداعية التى تتاح للطفل حاليًّا فى عصر التكنولوجيا الرقمية ، تلك التى تجعله يسبح فى فضاء مفتوح لا نهاية له ؟ ..
تُعَدّ هذه التساؤلاتُ التخيّليّةُ لونًا من ألوانِ التفاعلِ القرائِى الذى يحرصُ القارئُ على إيجادِهِ للوهلة الأولى أثناء رؤيتِهِ لعتبتىْ الغلاف والعنوان ، ولا يمكن الوصول إلى إجابات مقنعة لهذه التساؤلات الافتراضية ، وغيرها التى تختلفُ باختلاف زوايا القراءة ، إلا بعد الاشتباك فعليًّا مع المتنِ الداخلى للرواية المقدّمة ، التى تجمعُ فنيًّا بين أسرتيْنِ تتباينانِ من حيث المستوى الاجتماعى: الأسرة الأولى ممثلة فى أفراد عائلة " مروان الدهشان " : " الأم بثينة " ، والأبناء " انتصار، وممدوح، وفكرى " ، أما العائلة الأخرى ، فتتمثَّل فى أسرة " فريد الدهشان " ، مدير شركة الدهشان للاستيراد والتصدير، والأخ الأصغر لـ" مروان"، وزوجته " رجاء " التى ورثت عن والدها مصانع السروجى الشهيرة.
يقدم الساردُ فنيًّا ، حادثة سقوط منزل فى حى السكاكينى ، وذلك لإيجاد التفاعل والتقارب الاجتماعى بين هاتيْنِ الأسرتيْنِ ، هذا التقاربُ الذى سيتحقَّقُ من خلاله هدفُ القصةِ الأساسى ، هذا الهدف الذى تم اختزاله بصورة غير مباشرة فى جملة : " الأبناء لهم أجنحة " ، حيث تنتقلُ أسرةُ " مروان " للعيش مؤقتًا مع أسرة " فريد " ، نتيجة إخلاء الشارع الذى يسكنون فيه ، إثر سقوط مفاجئ لإحدى العمارات ، الأمر الذى تسبّب فى غضب "رجاء" زوجة فريد ، التى كانت دائمًا ما تصف أبناء " مروان " بأنّهم شياطين .. يصف السارد حالتها النفسية عند سماعها الخبر : " بينما كانت تهمسُ فى غضب لنفسها : لا يسقطونَ فوقنا إلا صباح هذا اليوم الذى أستقبل فيه لأول مرة أهم شريك لمصنعى الجديد؟!" (ص17). وفى موضع آخر، تقول فى لهجة حادة : " بيتنا لا يتسع لاستضافة أحد " (ص13).
وفى ثنايا هذا الخط القصصى ، يوظّفُ الساردُ موضوعيًّا تفاعل الأطفالِ مع عالم الكمبيوتر ، هذا العالمُ الذى جعلَهُ النصُّ مرتبطًا بشخصية الطفل " ممدوح " ابن مروان ، وقد تجسّد هذا التوظيفُ فى ثلاث صور فنية:
الصورة الأولى : (الصورة النفسية) التى تظهرُ أثناء حدوث هزة للعمارة التى يسكن فيها "مروان" وعائلته ، ففى الوقت الذى يفكّرُ فيه الجميعُ فى النجاة ، نجد " ممدوح " يفكرُ فى حاسوبه الذى يمثِّلُ أنيسًا له ، يقول: " كيف أتركُ جهازَ الكمبيوتر وأسطواناتى ؟! ستضيع كل برامجى ؟!" (ص8) ، ولذلك عندما انتقل للعيش فى شقة عمّه " فريد " ، ورأى حاسوب "هيثم" ، حدَّث نفسَّهُ قائلا : " هذا هو الجهاز الذى حلمت دائمًا أن يكون عندى" (ص20).
الصورة الثانية: (الصورة الإبداعية) التى تجسّد فيها عالمُ الكمبيوتر من خلال استغلال فضائه فى تشكيلِ أعمالِ إبداعيّةِ (رسومات وتصميمات فنية) ، يقومُ الأطفالُ بتنفيذها من خلال برامج إلكترونية معينة يوفرها الكمبيوتر ، كما فى الفصل المعنون بـــ" مواهب غير عادية ".
أما الصورة الثالثة : (الصورة النفعية) التى تتجسّد فى (توظيف الكمبيوتر فى حلّ المشكلات التى قد نتعرض لها فى حياتنا) ، وهذا ما تكفلتْ بعرضه الفصولُ الأخيرة من الرواية: " يتواضع..لكنه يعرف الكثير"، و" الجهاز الذى تخلى عنهم"، و" كيف حدث هذا الخطأ"، و" مهما كانت مهارتك"، و" كيف توصلت إلى هذا؟!"، و" هذا الولد المعجزة"، و" ما فعلتَه شىء مستحيل".
لقد كان الكمبيوترُ ، كما تُبيّن هذه الفصولُ ، سببًا أساسيًّا فى توطيد العلاقات الاجتماعية بين العائلتيْنِ فيما بعد ، خاصة فى تغيّر حالة "رجاء" ونظرتها إلى أبناء "مروان" ، وذلك عندما نجح "ممدوح" فى حلّ الأزمة التى تعرضت لها من فَقْد حسابها البنكى ، الأمر الذى كان سيمثّل لها عائقًا فى تحقيق مشروعاتها المستقبلية ، لولا تدخل " ممدوح " ونجاحه فى اكتشاف الخطأ من خلال استعمال برامج إلكترونية سرية تمكنّه من الدخول على المواقع المختلفة، وكان نتيجة ذلك أن وصفته بقولها : " هذا الولد معجزة..إنه معجزة حقيقية " (ص81).
كانت هذه هى الصور الرئيسيّة التى رسمت الحالةَ التفاعليةَ التى جمعتْ بين الأبناء والكمبيوتر ، بوصفه إحدى التقنيات الرقمية المهمة التى أفرزها الواقع المعاصر . وقد تمّ تقديم هذه الصور فى صيغة سردية لها حضورها فى قصة الطفل ، ألا وهى صيغة السرد الموضوعى ، الذى يتكئ فنيًّا على استعمال ضمير الغائب فى تقديم الأحداث القصصية .. يقول السارد : " وحَانتْ من فريد التفاتةٌ إلى شاشة الكمبيوتر .. كان ابن أخيه ممدوح هو الذى يجلس أمامه.. وفوجئ فريد بصورة مُجسّمة ثلاثية الأبعاد تُطِلُّ من الشاشة لتلك اليمامة، وحولها رسومٌ واضحة بخطوط دقيقة تُبيِّنُ خُطوات صنعِها عن طريق التشكيل بالورق ، الذى يعرفه الصغار باسمه اليابانى الأورجامى" (ص39-40) .
مثل هذه المفردات السردية ، تبرهِنُ على أنّه على الرغم من تضمينِ القصة موضوعات ومفردات رقمية جديدة لم تعهدْها قصةُ الطفلِ من قبل ، إلا أنّ الكاتبَ حرص على تقديم الصور والمفردات السردية بلغة تتناسبُ مع الطفلِ، ومعجمِهِ اللغوى الذى أصبح أكثرَ ثراءً عن ذى قبل ، نتيجة تطعيمه بمفردات جديدة أوجدتها التكنولوجيا الرقمية ، كتلك التى تم تطعيمها فى نسيج الرواية ، مثل : ( الفأرة، شاشة الكمبيوتر، برامج ثلاثية الأبعاد ، مؤشر الفأرة ، أسطوانة .. إلخ ).. تلك المفردات التى أصبح لها حضورٌ قوى فيما بعد ، فى النصوص التى تنتمى فنيًّا إلى ما يسمى بأدب الطفل الرقمى ، هذا الأدب الذى يحاول الإفادة مما يتيحه العالم الرقمى من تقنيات، فى تقديم أفكار وتصورات تتلاءمُ مع اهتمامات الطفل المعاصر ، من خلال نصوصٍ تُراعى الفئات العمرية المختلفة.
وبهذا يمكن القول بأنّ روايةَ " الأبناء لهم أجنحة" ، تُعَدّ من الروايات الأولى الرائدة ، التى حاولت الاقتراب فنيًا من هذا الأدب التفاعلى (فى وسيطه الورقى) ، فى محاولةٍ لترسيخِه فى بيئتنا العربية.
- وهكذا يتضحُ للقارئ أنّ مفردةَ " أجنحة " ، التى تمّ تضمينها فى عنوان الرواية الرئيسى، تُحيل دلاليًا إلى فئة الأبناء الذين تمّ تقديمهم فى القصة ، خاصة أبناء مروان ، وعلى رأسهم ممدوح ، وأنّ النص لا يقصد من وراء توظيف هذه المفردة المعنى الواقعى ، إنما غلَّفها بدلالة جديدة أكثر إيحاءً وإشارة إلى المعنى المراد ، وذلك من خلال إحالتها إلى العوالم الإبداعية والمواهب الفنية التى يُجيدها أطفال الألفية الثالثة " أطفال العوالم الرقمية" ، الذين تمّ تجسيدهم فى شخصية الطفل " ممدوح " ، هؤلاء الأبناء الذين وصفتهم " رجاء " فى نهاية الأمر بقولها : " كنتُ أُطلق عليهم الشياطين ، لكننى اكتشفت أنهم شطار بأجنحة ملائكة، يحلقون عاليًا بقدراتهم المتميزة !! " (ص85).
يؤكد هذا المقطع أنّ الكمبيوتر قد أسهم فى تشكيل مسار الأحداث وتطورها ، كما فى تغيير طريقة تعامل" رجاء " مع أبناء "مروان " ، وهذا يؤكد أيضًا أنّ توظيف الكمبيوتر فى الرواية لم يكن حشوًا أو أنّه من باب مسايرة الواقع المعاصر على المستوى الشكلى ، إنما هو فى حقيقة الأمر عنصر محورى فى تشكيل الأحداث القصصية واكتمالها موضوعيًا وفنيًّا.
وفى هذا الإبداع السردى الحداثى ، إشارة واضحة من الكاتب إلى أنّنا مقبلون على عصر جديد بمفاهيم وأدوات غير مسبوقة ، سواء على مستوى التقنيات الفنية أو الأفكار والقضايا الأيديولوجية ، وهى أدوات ينبغى إدراكها وفهمها جيدًا إذا أردنا مخاطبة طفل العصر الرقمى بصورة مقنعة أيديولوجيًا وفنيًّا، وقد اتضح هذا بصورة جليّة فى تعبيرات "فريد " الموجّهة إلى "رجاء ": " وأنتِ تقولين دائمًا إن الجيل الجديدَ يعرف أكثر من الكبار كيف يتعامل بنجاح مع هذه الأجهزة الحديثة " (ص62).
عندئذ يمكن لنا فى هذه الحالة ، الانتقال من ثقافة الاستهلاك فى تعاملنا مع التقنية الرقمية ، إلى ثقافة الإبداع والابتكار التى لن تتحقّق إلا من خلال فهْمِ أبعاد التقنية الرقمية وتجليّاتها المختلفة، ومن ثَمّ تطويعها فنيًّا فى إنتاج نصٍّ قصصى يتناسبُ فى دلالته الموضوعية والفنية مع الفئة العمرية الموجّه إليها الخطاب الإبداعى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق