حكايتان شعبيتان للأطفال
روتهما لي أمي
بقلم: طلال حسن
" 1 "
ـــــــــــــــــــــ
حكت لي أمي ..
ـ إنني
رأيتُ الدامية ، رأيتها بعينيّ هاتين ، اللتين " سيأكلهما الدود غداً "
.
هذا ما قالته لي أمي ، وطبعاً صدقتها ، صدقتُ أنها
رأت الدامية ، ومن منا لا يصدق أمه ، وخاصة إذا كان في حدود الخامسة من العمر ؟
لا أذكر بالضبط ، ربما كانت الليلة شتائية ، وبيني
وبين أمي منقل مليء بجمر الفحم الدافىء ، عندما روت لي ما رأته ، ولابد أنني فتحتُ
عينيّ على سعتهما ، وقلبي يخفق رعباً ، وكيف لا وأمي تتحدث عن الدامية ، التي
رأتها بعينيها ، اللتين " سيأكلهما الدود غداً " ؟
كان بيت أهلي ، يقع في حي الميدان بالموصل ،
القريب من نهر دجلة ، هكذا بدأت أمي حكايتها ، وكان لي صديقة مسيحية في عمري ،
ألعب معها أحياناً في بيتهم ، الذي يطل على النهر مباشرة .
وذات يوم ، كنتُ ألعب وصديقتي ، في غرفة بالطابق
الثاني من البيت ، تطل إحدى نافذتيها على النهر ، وتطل الأخرى على سلم حجري ،
ينحدر إلى شاطىء النهر مباشرة .
ولسبب ما نهضتُ ، ونظرت عبر النافذة ، وسرعان ما
تراجعتُ ، وأنا أشهق خائفة ، فأسرعت صديقتي إليّ ، قائلة : لا تخافي ، ما الأمر ؟
وأشرت إلى النافذة ، بأصابع مرتعشة ، وقلتُ بصوت
يشي بخوفي : أنظري .
ونظرت صديقتي ، حيثُ أشرتً ، ثم ابتسمت ، وقالت :
لا تخافي ، هذه الدامية .
وبدل أن " لا أخاف " ازداد خوفي ، وشهقت
قائلة : الدامية !
وقالت صديقتي : نحن نراها هنا ، بين حين وآخر ،
ويكفي أن ننقر على النافذة ، لتهبّ من مكانها ، وتلوذ بالفرار ، تعالي انظري .
وتقدمت من النافذة ، وقلبي مازال يخفق خوفاً ،
ودققتُ النظر فيها جيداً هذه المرة ، يا للهول ، كانت امرأة ضخمة الجسم ، عارية ،
شعرها الأسود الكث يغطي صدرها ، و ..
ونقرت صديقتي بإحدى أصابعها على زجاج النافذة
، فهبت الدامية من مكانها مذعورة ، وألقت
نفسها في الماء ، وسرعان ما اختفت في أعماق النهر .
هذه هي الدامية ، التي تقول أمي أنها رأتها
بعينيها ، عندما كانت صغيرة ، وقد صدقتُ أمي ، وشعرت بالخوف من الدامية ، وتمنيتُ
بيني وبين نفسي ، أن لا أراها كما رأتها أمي في صغرها .
وتحققت أمنيتي ، إذ لم أرَ الدامية ، وبالتأكيد لن
أراها ، فهي لم ولن تكون موجودة إلا في حكايات الأطفال ، التي ترويها الجدات ، في
ليالي الشتاء الباردة ، ولا أعتقد أن أحد الأطفال ، يمكن أن يصدق بوجودها الآن ،
كما كان بعضنا يصدق ذلك في طفولته .
" 2 "
ــــــــــــــــــ
أبو داهي والدامية
أبو داهي رجل في حوالي الأربعين ، شهم ، شجاع ،
طيب القلب ، لا يتردد في غوث الآخرين ونجدتهم ، ولاسيما الأطفال والنساء ، مهما
كانت الظروف ، وهذا للأسف ما أوقعه في حبائل الدامية .
يعمل أبو داهي ، وخاصة في أشهر الصيف ، في نقل
الرقي والخيار والبطيخ ، من القرى الشمالية القريبة ، إلى مدينة الموصل ، بواسطة
طوف " كلك " ينحدر به مع التيار ، في نهر دجلة .
وذات يوم ، قبيل غروب الشمس ، كان ينحدر بطوفه مع
النهر ، في محاذاة الغابة ، فتناهى إليه من بين الأشجار ، صوت امرأة تستغيث به
قائلة : دخيلك ، يا أبا داهي ، يا أبا الشهامة والغيرة ، إنني امرأة وحيدة ، أغثني
.. أغثني .
ولأن أبا داهي " شهم ، وشجاع ، وأبو غيرة
" ركن طوفه عند الشاطىء ، القريب من الغابة ، وأسرع إلى مصدر الصوت ، وإذا هو
وجهاً لوجه مع امرأة ضخمة ، منفوشة الشعر ، شبه عارية ، ترى من تكون ، هذه ليست
امرأة عادية ، يا للويل إنها ..الدامية .
واتسعت عيناه رعباً ، وخفق قلبه كعصفور تحاصره
أفعى ، فابتسمت الدامية ، ومدت يديها نحوه ، وهي تقول : أهلاً بقسمتي ونصيبي ،
أهلاً بزوجي .
وتراجع أبو داهي قليلاً ، وقال : لكن لي زوجة ،
وهي تنتظرني في البيت مع الأولاد .
وتقدمت الدامية منه ، ويداها مازالتا ممدودتين
نحوه ، وقالت : زوجتك الأولى في البيت ، وأنا زوجتك الثانية ، هنا في الغابة .
وهمّ أبو داهي أن يستدير ، ويلوذ بالفرار ، لكنه
فجأة وجد نفسه أسير ذراعين قويين كأنهما الفولاذ ، وسرعان ما طرحته الدامية على
الأرض ، ولحست أسفل قدميه بلسانها الخشن ، حتى صار لا يستطيع الوقوف ، أو الهرب من
الغابة .
ورغماً عنه ، استسلم أبو داهي " للقسمة
والنصيب " ، وصارت الدامية زوجته الثانية ، تسهر عليه ، وترعاه ليل نهار ،
وتوفر له كلّ ما يحتاجه من طعام وشراب ، لكنه ظلّ يحن إلى بيته وأولاده وزوجته
وأهله وأصحابه وجيرانه ، وراح يتحين الفرص للإفلات من الدامية ، والهرب إلى الموصل
.
وذات ليلة مقمرة ، تمددت الدامية كالعادة إلى جانب
" أبو داهي " ، وسرعان ما استغرقت في نوم عميق ، وراحت تشخر بصوت مرتفع
، واغتنم أبو داهي هذه الفرصة ، فزحف ببطء إلى الطوف ، وحلّ الحبل الذي يربطه
بالشاطىء ، ثم انطلق به بسرعة ، منحدراً مع التيار إلى الموصل .
وأفاقت الدامية ، وكأن قلبها أعلمها بهربه ، فجن
جنونها ، وبحثت عنه فيما حولها ، دون جدوى ، وعلى ضوء القمر ، رأت الطوف من بعيد ،
ينحدر وسط النهر مع التيار ، وفي مقدمته يقف أبو داهي .
وعلى الفور ، راحت تركض على امتداد النهر ، وهي
تصيح بصوت مذبوح : أبو داهي ، زوجي ، تمهل ، لا لاتتركني هنا وحيدة ، تعال ، إنني
لا أحتمل الحياة بعيداً عنكَ .
لم يتمهل أبو داهي ، وواصل انحداره مع التيار
بعيداً عنها ، فتوقفت غاضبة ، وراحت تهدد قائلة : لن تفلت مني ، أنت قسمتي ونصيبي
، وسأعيدك لتعيش معي في الغابة ، مهما كلفني الأمر .
لم ينسَ أبو داهي هذه التجربة ، التي عاشها في
الغابة مع الدامية ، وظلّ طول حياته بعيداً عن الطوف والنهر ، خشية أن تفاجئه
الدامية ، في مكان ما ، وتخطفه ليعيش معها في الغابة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق