حكايات الأطفال .. محاولة لفهم العالم | ||||||||||||||
معالجة الموت والفراق من أصعب الموضوعات التي يمكن معالجتها وتقديمها للأطفال ولكن محمد عاشور هاشم ينجح في ذلك. | ||||||||||||||
ميدل ايست أونلاين | ||||||||||||||
بقلم: أحمد طوسون | ||||||||||||||
تبدو الحكاية في مجموعة "جنة الحكايات" لمحمد عاشور هاشم محاولة من الكاتب بمشاركة الطفل الموجه إليه نصوص المجموعة لفهم العالم، من خلال إلقاء الضوء على القيم الأساسية كالخير والعدل والجمال مقارنة بنقائضها والتوافق مع الحقائق والمسلمات الكبرى كالحياة والموت. • مفتتح دال: ولعل الكاتب حرص أن يقدم مجموعته بمفتتح دال يقول فيه: "يُحكى أن.. كانت هناك جنة على جانب الطريق يقصدها ذوو الأسفار البعيدة يجلسون تحت أشجارها يعيرونها آذانهم فتأخذها وتملؤها بالزاد والزواّد الذي يعينهم في سفرهم البعيد..". فالمفتتح الذي استهل به الكاتب مجموعته يؤكد على هوية النصوص فنيا وانتمائها لموروث الحكاية العربية المستمد من حكايات ألف ليلة وليلة ومع التراث السردي العربي بعامة والتي تبدأ نصوصه عادة باستخدام المفتتح "يحكى أن..". أما على المستوى التربوي فهو يكشف عن رؤية الكاتب للحكاية وقيمتها في تشكيل شخصية الطفل (الإنسان عامة) وإعداده لفهم العالم والتعامل مع مواقف الحياة المختلفة. فالحكاية بمثابة المعلم الذي نتعلم منه الدروس والعبر ونفهم من خلاله أمورا قد يستعصى علينا استيعابها والتعامل مع صدماتها إن لم نكن تزودنا بالزاد الذي يعيننا على محاولة التكيف ومواصلة الحياة. بهذا المنطق يمكننا أن ندخل إلى عوالم قصص وحكايات المجموعة لنستجلي بعض القيم الهامة داخل إطارها الفني: • "العصفور الصغير" قيمة العمل ودور الجماعة في تقويم الفرد: في قصة العصفور الصغير تتولى العصفورة الأم صغيرها بالحب والرعاية.. وهو دور هام وأساسي للمجتمع تجاه الفرد لكنه ليس كافيا لنخلق شخصية نافعة لنفسها ومجتمعها فكان لا بد للأم أن تغرس قيمة أساسية موازية للحب والرعاية قيمة العمل والاعتماد على النفس لمواجهة الأخطار.. "أنت كبرت الآن بما فيه الكفاية، فعليك أن تتعلم الطيران.. لكي تصبح عصفورا قويا.. تسعى على رزقك وتحمي نفسك". لكن العصفور الصغير الذي اعتاد أن يحصل على ما يريد بسهولة أصبح كسولا لذا لم يرضخ لرغبة أمه ورفض تعلم الطيران. والكسل كقيمة سلبية سيمتد أثره ليدفع بالعصفور إلى قيمة سلبية أخرى هي "الكذب" لتبرير إحجامه عن الطيران أمام أمه.. "فتظاهر بالبكاء وغمغم: أنه لا ذنب له في ذلك، فهو - خلق على ما يبدو - لا يستطيع الطيران". وكان لا بد لجماعة الطيور أن يبذلوا محاولاتهم لتقويم العصفور الصغير، فنصح أبوقردان الأم: "أن تتركه بلا طعام أو شراب حتى يدفعه الجوع والعطش إلى الخروج من العش والطيران بحثا عنهما". وحاول الغراب والهدهد والببغاء وأبو فصاده، لكن القيم السلبية كالكسل والكذب والاعتماد على الغير جعلت العصفور يضر نفسه ويصاب بالضعف والهزال وآلام الجوع ولا يستجيب لتعاليم جماعة الطيور. فكان لا بد من جزاء لخروج الصغير على تعاليم الجماعة وتعلم الطيران والاعتماد على النفس، فيتعرض العصفور الصغير لهجوم قوى شريرة (الثعبان) لم يستعد لمواجهتها بتعلم الطيران. فالطيران الذي كان الكاتب يقدمه في بداية القصة على أنه وسيلة تعين العصفور في الاعتماد على نفسه في تدبير طعامه وشرابه يتحول في مواجهة الثعبان إلى سلاح ضروري لمواجهة خطر اعتداء الثعبان. وهنا تكثيف عميق لفكرة العمل والاجتهاد التي لا ترتبط فقط بسد الاحتياجات الضرورية من مأكل وشراب ولكنها تمتد لتصبح نهج حياة ضروري لدفع ومواجهة مخاطر الحياة واعتداء المعتدين. وفي النهاية تتدخل الأم لإنقاذ صغيرها قبل أن يلتهمه الثعبان.. وهو الدور الذي من المفترض على كل أم أن تقوم به تجاه أولادها مهما لعبت برؤوسهم القيم السلبية، فالرعاية الاجتماعية والاهتمام بالمشكلة والتجربة الحياتية قادرون معا على إعادتهم إلى الطريق الصواب كما حدث مع العصفور الصغير الذي خرج من تجربة المواجهة مع الثعبان بدرس لن ينساه أبدا كما لن ننساه نحن أيضا كبارا وأطفالا. • " الدجاجة والبطة" و"ثورة الحصى" المقاومة كقيمة مطلقة: الوقوف في وجه الظلم والغطرسة قيمة يحرص الكاتب على غرسها في قصتي "الدجاجة والبطة" و"ثورة الحصى". والكاتب حريص أن يجعل قيمة المقاومة خيار ضروري يتوصل إليه الطفل مع الدجاجة الصغيرة في مواجهة البطة المتسلطة التي تداوم الاعتداء على الدجاجة في دخولها وخروجها من الحظيرة، بعد أن حاولت الدجاجة تفادي الاصطدام لكنها تكتشف أن عدم مقاومتها للبطة المتغطرسة سيؤدي إلى حرمانها من الأمان والبقاء في الحظيرة كباقي الدجاجات. والكاتب يعي مع بطلة قصته أن المقاومة قرار وإرادة حتى وإن لم تتكافأ القوى كما في حالة الدجاجة الصغيرة والبطة المتغطرسة. يقول الكاتب: "لكن الدجاجة الصغيرة قررت أن تقف في وجهها وأن تجعلها تتوقف عما تفعله معها.. ولكن كيف؟!". السؤال هنا موجه للقارئ قبل أن يكون موجها من الدجاجة لنفسها، ستكون الإجابة المفترضة "إذا توافرت الإرادة لا بد أن تتوفر الوسيلة لصاحب الحق". وتستخدم الدجاجة الحيلة (بودرة العفريت) فتعاني البطة المتغطرسة من الهرش ويطردها البط من الحظيرة بعد أن أقلقت راحته، حينها تشعر بالآلام التي كانت تعانيها الدجاجة، وهي لا تستطيع العودة إلى حظيرتها.. "وخطر في بالها ما كانت تفعله مع الدجاج، فقالت: يبدو أن هذا هو السبب!." وعندما قررت الامتناع عن إيذاء الدجاج والوقوف أمام عتبة الحظيرة توقفت عن الهرش، لكن البط لم يستطع أن يدعوها إلى العودة للحظيرة وقامت بذلك دجاجة صغيرة امتلكت إرادة المقاومة فانتصرت على غطرسة القوة وامتلكت نبل الفرسان بالعفو عند المقدرة "فاقتربت منها وقالت في ود: عفا الله عما سلف.. أنت واحدة منا.. فلماذا لا تعودين إلى حظيرتنا؟!" وإذا كانت المقاومة ضرورة لصد الاعتداء المباشر كما في قصة الدجاجة والبطة، فمقاومة الظلم عامة قيمة أكبر وأسمى كما هو الحال في قصة "ثورة الحصى".. فالأمير الظالم "تسلين" عندما يفكر في ترشيح نفسه ملكا يحدث اعتراض كبير وإن كان غير علني خوفا من الأمير الظالم تمثل في دق الأرض بالأقدام اعتراضا، ولأن الظلم آفة لا يقتصر ضررها على من توجه له مباشرة بل يضر بالمجتمع كله ويتأذى منه الجميع بما فيه حصى الأرض، ومقابل الأمير الظالم الذي يطمع أن يصبح ملكا، نجد أنفسنا أمام ملكة عادلة هي ملكة الحصى الحريصة على حماية شعبها ورعاياها من الظلم الذي لا بد أن يطالهم لو أصبح "تسلين" ملكا خاصة وأن اعتراض الناس بدقهم الأرض أصاب الحصى بأذى كبير. ورغم أن الكاتب يقدم مبررا لثورة الحصى في بداية القصة، وتعدد وسائل المقاومة التي استخدمتها الحصاة إلا أننا نكتشف في نهاية القصة أن الحصى يصيبهم نفس الضرر مع تحقيق أهدافهم وتنازل الأمير عن سعيه لحكم المملكة.. "فرحت الحصى لهذا الخبر الذي سيرفع عن عاتقها ذلك الخطر الذي كان يتهددها.. لكن فرحتها لم تدم طويلا! فمع انتشار خبر تخلي (تسلين) عن الحكم.. كان الناس في أنحاء المملكة يفرحون ولا يجدون ما يعبرون به عن فرحتهم إلا دق الأرض". فالنتيجة وإن كانت واحدة بالنسبة للحصى إلا أن قيمة مقاومة الظلم تستحق أن نعمل جميعا من أجلها.. "لكن الملكة ضحكت كثيرا ثم قالت: لا عليكم فلن يستمر هذا الوضع كثيرا، فلن تلبث فرحة الناس بذهاب تسلين أن تهدأ وحينها سيكفون عن دق رءوسكم.. وحتى إن لم يكفوا.. فأنا .. كفيلة .. بهم" • "وردة وزهرة صبار", "العيد مبارك" التكيف مع المسلمات والحقائق الكبرى: معالجة الموت والفراق من أصعب الموضوعات التي يمكن معالجتها وتقديمها للأطفال، لكن الكاتب نجح أن يحاول مع الطفل تفهم حقيقة الموت والفراق والتعامل معهما في قصتي "وردة وزهرة صبار", "العيد مبارك". في القصة الأولى يخاطب الطفل أمه ويناجيها مناجاة تفيض بالشجن لحرص الطفل على الطاعة المطلقة لأمه ليسبب لها السعادة والراحة من خلال إرضائها والتأكيد على أنها نجحت في تعليمه وتربيته.. "لا تقلقي لا تدعي الخوف ينتابك، فأنا ابنك.. أنا ابنك، وقد علمتني ولن يذهب تعليمك هباء". ويبدو التصرف الوحيد للسارد غير المتفق عليه مع أمه هو أن يروي الزهرة التي وضعها إلى جوار صورة أمه.. "ولكن هل تسمحين لي بأن أفعل شيئا واحدا أنهي به يومي؟ هل تسمحين؟.. تلك الوردة التي أضعها بجانب سريري أمام صورتك.. هل تسمحين لي بأن أرويها كل يوم قبل أن أنام؟! هل تسمحين يا أمي أن أفعل ذلك؟ هل تسمحين؟!". أما العلاقة التي نشأت بين هشام وبين صديقه (الخروف صادق) والتي عشناها جميعا مع خروف العيد، ولم نتفهم في لحظتها مشاعر الفراق عند ذبح الأضحية بعد أن ربطتنا به صداقة وحب.. نفهمها مع الكاتب في قصته "العيد مبارك" حين تتجلى قيم العطاء وصلة الرحم والتضحية التي ارتبطت بالأضحية وما تسببه الأضحية من سعادة لآخرين. قيم برع الكاتب في تسريبها لنفس المتلقي دون تلقين مباشر منفر أو شعارات جوفاء وقدم منسكا من المناسك الإسلامية الهامة للطفل بحرفية يحسد عليها. • "صرة البلح"، " العيد مبارك" وقيمة العطاء: في قصتي "صرة البلح"، "العيد مبارك" يحرص الكاتب على تقديم قيمة العطاء للأطفال وأن للعطاء قيمة كبيرة الأثر حتى إن لم نكتشفها في حينها كما حدث مع خالد في قصة "صرة البلح" وضرورة أن تكون العطية تناسب المحتاج كما دار في ذهن خالد، الذي يكتشف في نهاية القصة أن نتيجة العطاء تظهر في نهاية اليوم في إشارة واضحة للثواب الذي يتلقاه المحسن عند الحساب. أو كما اكتشف هشام في قصة "العيد المبارك" أثر العطية على المسكين وإدخال السعادة عليه وعلى أهله، وأثر الهدية على تعميق علاقات الأهل وتفتيت الجفوة بينهم. فهناك أثر مباشر وآخر غير مباشر يتمثل في الثواب الذي يناله المحسن جزاء إحسانه. • "الحذاء الهراب" والوجه الآخر للحياة: يتناص الكاتب في قصة "الحذاء الهراب" مع تراث الحكاية في قصة "حذاء الطنبوري" وكتبت أيضا ضمن "حكايات جحا" ولكن عكس الحكاية الأصلية بدلا من أن الشخص هو الذي يريد أن يتخلص من الحذاء، يحاول الحذاء هنا في قصة "الحذاء الهراب" أن يهرب من صاحبه بعد أن اشتكى من إصرار صاحبه على استخدامه ووزنه الثقيل. وكما في القصة التراثية كلما يحاول جحا أو الطنبوري التخلص من الحذاء يعيده أحدهم إليه، أيضا هنا كلما حاول الحذاء الهرب أعيد إلى صاحبه. ومع تكرار محاولات الهرب والعودة يكتشف الحذاء الهراب وجها ايجابيا لما رآه سلبيا طيلة القصة، أن صاحبه يفضله على كل إخوته من الأحذية فاستطاع التكيف مع حياته وبخاصة أن صاحبه شرع في إنقاص وزنه. وتبدو قيمة نصوص المجموعة في أنها تتعامل مع الطفل دون تعال ككثير من النصوص الموجهة إليه ولا تعتمد على التلقين المباشر باعتبار أن الكبار وحدهم يمتلكون حقائق الحياة، رغم أننا جميعا نظل نتعلم دائما كما علمتنا نصوص المجموعة. أيضا نجح الكاتب في أن يسرد قصص المجموعة في شكل فني يعتني بالحبكة ليشد إليه الطفل ويصل إلى عقله دون عوائق تقف أمام انسجامه مع العمل واستيعابه للأفكار التي تمرر من خلاله. ونجح أن يحرك وجدان الطفل ويجعله يتعايش مع شخصيات العمل وأبطاله ويشاركهم في مواقفهم الإيجابية ويرفض ويستنكر المواقف السلبية المضادة. كما نجح أن يبث مجموعة من القيم الإسلامية والأخلاقية والاجتماعية وتأكيد مفاهيم القيم السامية في نفس الطفل بصورة غير مباشرة لترسخ في وجدانه. واستخدم الكاتب في معالجته أسلوبا سهلا يفيض بالحيوية ليشد انتباه الطفل ومتسقا يبعد عن التعقيد والغموض ويراعي الخواص السنية وما يرتبط بها من خواص نفسية لطفل المرحلة التي يتوجه إليها بكتابته. ومن خلال لغة فصيحة سليمة تخلو من الأخطاء وواضحة تخلو من الألفاظ المبهمة والغريبة، وإن حرصت على أن تنمي معجم الطفل وتضيف إليه وتعتني بالصورة التي تعلق بمخيلته. |
الأربعاء، 2 فبراير 2011
"حكايات الأطفال .. محاولة لفهم العالم" قراءة نقدية بقلم أحمد طوسون
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق