مركوب أبي القاسم
فؤاد قنديل
أبو القاسم تاجر عربي, كان يعيش في بغداد قبل ألف عام تقريباً, باع كثيرا واشترى, وجمع مالا لم يعد يستطيع أن يحصيه, بل لقد أصبح يتجنب أن يحصيه, خشية أن يحسده, وهو يرى أن كثرة النظر إليه, واستمرار حصره وعدّه يدفع إلى الإعجاب المتزايد به, ومن ثم حسده, وأول من يحسد المال هم أصحابه.
المال هو روحه وحياته ومستقبله, ووجوده معه يطيل عمره, ويحقق له السعادة التي لا تتحقق بأي وسيلة أخرى, وفي أحيان كثيرة يشعر بأنه مطمئن تماماً ولا يخشى شيئاً حتى الموت لأن المال يستطيع أن يفعل أي شيء وكل شيء, ولذلك فهو لا يهتم بأن يأكل أو يشرب, أو يغير ملابسه أو يجددها, ولا أن يرتفع بنيان بيته لطوابق عالية, ولا أن يدهن الجدران التي تساقط طلاؤها, كل هذا لا يهمه ولا يشبع رغبته, لأن وجود المال هو الذي يشبع ويرضي ويسعد, وهذا الشعور يرضيه جدا لأنه لن ينفق درهماً واحداً إلا في التجارة ومن أجل الربح, حتى أنه أبى أن يتزوج كي لا يضطر أن يعول زوجته وأولاده, بل إنه غير مستعد لشراء حصان أو جمل لنقل حاجياته وبضائعه لأن ذلك سيتطلب إطعام الحيوان الذي لابد أن يأكل كثيراً, ويحتاج إلى نفقة كبيرة, وخروج درهم من البيت معناه بالضبط خروج روح أبي القاسم من جسده.
- لو كان لديَّ مال كاف, ما كان هذا حالي.
فهو يرتدي ثياباً قديمة تغيرت ألوانها مرات عدة, وتمزقت أطراقها, ومركوبا (نعلا) قديما, ويعتمد على عصا, كانت يوما غصنا في شجرة أسقطتها الريح.
لكن الناس برغم إيمانهم بحجته ومنطقه, يدهشون لحاله, بينما يعلمون أنه يعقد صفقات تجارية كثيرة ويكسب مالاً وفيراً, فأين يذهب كل هذا؟!
مرت سنوات وسنوات دون أن يجدوا إجابة عن السؤال, وفي أحد الأيام, كان أبو القاسم مقبلاً على إتمام صفقة لبيع كمية كبيرة من الزجاج, ستحقق له ربحا لم يربح مثله من قبل, ووعد نفسه
- إذا نجحت الصفقة !
أن يحتفل احتفالا كبيرا, ويدخل على قلبه السعادة, ورأى أن يذهب إلى الحمام العمومي ليستحم, ولم يكن قد استحم منذ عام.
صحيح أنه أخذ يفكر عدة أيام في الدراهم العشرة التي سيفقدها أجرة الحمام, لكنه بعد طول مناقشة مع نفسه صمم على قراره.
في الحمام ترك ثيابه وحذاءه في ركن بالقاعة الخارجية وتوجه إلى القاعة الداخلية, وقبل أن يعبر الستارة الملوّنة المصنوعة من عقود الخرز, التقى بصديقه عمارة الذي حيّاه وعاتبه على تمسكه بمركوبه البالي, وكيف أنه لا يتناسب مع مهنته كتاجر كبير, وكذلك لا يتلاءم مع سنه, لكن أبا القاسم أكّد لصديقه أن المركوب مازال قادراً على حمله والتنقل به إلى كل مكان. يدهش عمارة لأنه يرى المركوب في هذه اللحظة ممزقاً ومعوجاً وبائساً, فيتعجب إلا أنه لا يجد مبررا لمواصلة نصائحه, فيمط شفتيه ويمضي بعد أن يضرب المركوب بقدمه.
يدخل أبو القاسم الحمام, وبعد لحظات يصل قاض كبير, ويخلع ثيابه الفخمة غالية الثمن ويتركها إلى جوار ملابس أبي القاسم, ويختفي في البخار, ينتهي أبو القاسم من حمامه شاعراً بالرضا عن نفسه وعن بدنه الذي أصبح خفيفا ورشيقا, يرتدي ملابسه ولا يجد مركوبه, ويعثر إلى جواره على حذاء لامع وجديد, فيظن أن عمارة أشفق عليه وأهداه هذا الحذاء, فينتعله ويخرج, وعندما ينتهي القاضي من حمامه يفاجأ باختفاء حذائه, فيتفقده في أركان المكان, فلا يجد سوى المركوب البائس, يغضب القاضي ويسأل عن صاحبه, فيقول له الخدم بكل ثقة:
- لابد أنه مركوب أبي القاسم.
يؤتى به إلى المحكمة ليمثل أمام القاضي, ويحكم عليه بغرامة باهظة, عندئذ يشعر أبو القاسم بتعاسة شديدة لأنه حاول الإفلات فلم يفلح.
لذلك يقرر التخلص من المركوب اللعين, ويلقيه من النافذة فيسقط في نهر دجلة, ويشعر براحة غريبة, لأنه قوّى قلبه وأنهى العلاقة التي كانت تربطه بهذا الحذاء طوال سنوات عدة, وأنه ما كان ليفعل ذلك لولا الخسارة التي مُني بها.
يعتزم وبلا تردد أن يشتري حذاء جديدا في الغد, يليق بتاجر كبير ومحترم بعد أن يبيع كميات الزجاج التي اشتراها منذ أيام, وبعد العصر يعثر أحد الصيادين في شبكته على مركوب أبي القاسم, فيعرفه, ويجد أنه بمساميره البارزة وجلده المتحجر قد مزق شبكته وهرب منها السمك, فيلقيه بقوة وهو مملوء بالطين من النافذة فيسقط فوق الزجاج ليتكسّر معظمه.
تحطم قلب أبي القاسم, وحار ماذا يفعل, وظل يفكر ويفكر حتى اكتشف الحل النهائي لمشكلته, سوف يحفر حفرة عميقة في حديقة البيت, ويدفن فيها المركوب الذي جلب له المصائب, وهكذا تنتهي سيرته وتغلق صفحته السوداء, سوف يرتاح أبو القاسم ويرتاح الناس أيضاً.
تقع عين جاره عليه وهو يحفر بالمجرفة, ويدس في أعماقها كيساً به شيء ما, فيقول في نفسه:
- أخيراً.. هاهو الكنز الذي يخفيه أبو القاسم, لقد كان دائماً يشتكي الفقر, واليوم فقط انكشفت الحقيقة, إنه يدفن الأموال في الحديقة الجرداء وراء بيته, تلك الحديقة التي لا يكلف نفسه عناء رشها ببعض الماء, ولماذا يرشها وهي التي يخبئ فيها كنوزه؟! ذلك التاجر البخيل الكذاب, بغداد كلها ستعرف حكايتك يا جاري العزيز, بل الخليفة أيضاً يجب أن يعرف.
كانت القوانين تقضي بأن أي كنز يكتشف في البلاد فإنه يصبح ملكاً للخليفة, وهكذا حمل الحراس أبا القاسم حملا إلى قصر الحكم حيث سأله الخليفة عن الكنز الذي دفنه بالحديقة.
يدهش أبو القاسم ويقسم أنه لم يدفن إلا مركوبه البالي وتضحك الحاشية ويضحك الحاضرون جميعا, فمن غير المعقول أن يدفن رجل حذاءه, ويؤكد أبو القاسم للجميع أنه لا يملك كنزا ولم يخف مالاً, بل ذلك المركوب الذي سبّب له المشاكل.
عندئذ يغضب الخليفة لأن أبا القاسم يستهين به ويستهزئ ويحكم عليه بغرامة كبيرة, يحاول أبو القاسم دفع العقوبة عنه بلا جدوى ويرجع إلى بيته وهو يشعر بقدر كبير من التعاسة والضيق.
جلس وحيدا وحزينا, يلوم نفسه لأنه لا يعرف كيف يتخلص من مجرد مركوب تافه وقذر, ثم أخذ يفكر من جديد في وسيلة يتخلص بها منه, ومن مشاكله حتى اهتدى إلى الحل المثالي, نعم, ليس غيره سوف يمضي إلى خارج المدينة تماما ويلقيه في البحيرة, وبعد أن نفذ الفكرة عاد ونام قرير العين.
أشرقت الشمس وصحا الخلق ومضى كل منهم في سبيله, إلا أن أبا القاسم استيقظ على قرع شديد على بابه, وجد الشرطة تجرّه إلى الخليفة, وهناك عرف السبب, لقد عثر العمال على مركوبه وقد سد أنابيب المياه التي تسقي المدينة, واشتكى الناس منذ الفجر من انقطاع المياه, وأسرع حرس الماء للبحث عن السبب, وتفقد العمال كل المنافذ حتى أمسكوا بالمركوب متلبسا بسد الأنابيب, وكان يسيرا أن يعرفوا صاحبه.
كان سخط الخليفة شديدا لأن ما فعله أبو القاسم لم يضر واحداً أو عشرة وإنما أضر سكان المدينة جميعا.
لم يبق أمام أبي القاسم بعد الغرامة إلا أن يفكر في حرق المركوب, وفي هذه الحال سيتفحم ويصعد دخانه إلى السماء ولا يبقى منه إلا الرماد, ويمكن أن ينثره في الفضاء فتذروه الرياح.
تهيأ للمهمة ومضى متحمّساً, فأمسك بالمركوب وهو يراه عدوّه الأول في الحياة, فوجئ به مبتلا تماما, فقد ظل طوال الليل يشرب الماء من البحيرة, بينما كان يحجز المياه عند فوهة الأنبوب الرئيسي, وضعه أبو القاسم فوق السطح على حافة السور حتى يجف.
كان كلب الجار العزيز فوق السطح ورأى المركوب فحسبه قطة صغيرة تغط في النوم, قفز ليداعبها ويتسلى بمنظرها وهي خائفة منه ومرعوبة, دفع المركوب بقوة فسقط فوق امرأة كانت تمر تحته وفوق رأسها قفة بها حبوب وكانت حاملا, فزعت وسقطت وفقدت حملها, صرخت وتجمّع الناس.
وصل زوجها وغضب غضباً شديداً وأبلغ الخليفة الذي أعلن عن عظيم سخطه, وقرر أن يسجن الرجل الذي يوزع مشاكله وأذاه على العباد في كل مكان, بحيث يرافقه مركوبه وتستولي الشرطة على منزله.
جلس أبو القاسم في سجنه يبكي ويتحسّر على حاله وماله وأمامه مركوبه, وقد بدا عليه الحزن أيضاً والندم, ولم يتنبّه أبو القاسم إلى الحراس وهم يقولون:
- لم نشهد وفاء من قبل مثل وفاء مركوب أبي القاسم.
http://3arabimag.com/Little/WriterArticle.asp?ID=661
هناك تعليق واحد:
متابع للمدونة، عمل جميل ومثري، لكم كل التقدير.
إرسال تعليق