أبي في بيت ... وأمي في بيت
عواطف بصيص أبو حيّة
عُدْتُ مِنْ مَدْرَستي ذاتَ يَومٍ، دَخَلْتُ إلى الْبَيْتِ، كانَتْ أُمّي جالِسَةً وَالْحُزْنُ يَبْدو عَلى وَجْهِها، وَكانَ أَبي يَقِفُ عابِسًا، وَقَدْ تَفاجَأْتُ مِنْ وُجودِهِ في مِثْلِ هذِهِ السّاعَةِ مِنَ الْيَوْمِ.
قُلْتُ «مَرْحَبًا»، وَأَنا أَتَفَحَّصُ وَجْهَيْهِما بِقَلَقٍ.
«شَيْئًا ما حَدَثَ!» قُلْتُ في نَفْسِي.
جَلَسْتُ عَلى الْكَنَبَةِ، وَلَمْ أَعْرِفْ ماذا أَقولُ.
فَفي بَيْتِنا تَكْثُرُ الْخِلافاتُ بَيْنَ أُمّي وَأَبي.
يَعْلُو صَوْتُهُما أَحْيانًا، وَيَخْرُجُ أَبي أَحْيانًا مِنَ الْبَيْتِ، وَأَحْيانًا أُخْرى عِنْدَما يَحْتَدُّ الْخِلافُ، وَتَكونُ الْـمُشْكِلَةُ بِحَجْمِ الْجِبالِ كَما تَقولُ أُمّي، أَذْهَبُ أَنا وَأُخْتي مَعَها إلى بَيْتِ جَدّي، لكِنْ هذِهِ الْـمَرَّة كانَ الْأَمْرُ مُخْتَلِفًا، أَخافَني صَمْتُهُما كَثيرًا.تَوَجَّهْتُ نَحْوَ أُمّي، وَسَأَلْتُها: ماذا حَدَثَ؟
أَجابَتْني: والِدُكَ سَوْفَ يُخْبِرُكَ!
نَظَرْتُ إلى أَبي، وَسَأَلْتُهُ: ما الْأَمْرُ يا أَبي؟ ما بِكُما؟
اِقْتَرَبَ والِدي مِنّي، وَقالَ لي: لَقَدْ صِرْتَ كَبيرًا يا رامي، إنَّ ما سَتَسْمَعُهُ الْآنَ سَيَكونُ صَعْبًا عَلَيْكَ، لكِنَّكَ سَتَتَفَهَّمُ الْأَمْرَ.
لَمْ يَكُنْ لَدَيَّ الصَّبْرُ الْكافي لِسَماعِ الْـمَزيدِ مِنَ الْـمُقَدِّماتِ، فَقُلْتُ لَهُ: ماذا حَدَثَ؟ أَخْبِرْني بِسُرْعَةٍ.
أَجابَني: أَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّنا، أَنا وَوالِدَتُكَ، نُعاني مِنَ الْـمَشاكِلِ بِصُورَةٍ دائِمَةٍ، وَخِلافاتُنا لا تَنْتَهي، لِذلِكَ قَرَّرْنا أَنْ نَنْفَصِلَ؛ سَوْفَ يَعيشُ كُلٌّ مِنّا لِوَحْدِهِ؛ هذا هُوَ الْحَلُّ الْأَفْضَلُ لِلْجَميعِ.
سَأَلْتُ بِغَضَبٍ: ماذا يَعْني هذا؟
أَجابَتْ أُمّي بِصَوْتٍ حَزينٍ: يَعْني هذا أَنَّ الْـمُشْكِلاتِ سَتَنْتَهي مِنَ الْبَيْتِ، أَنا سَأَبْقى مَعَكُما أَنْتَ وَأُخْتُكَ هُنا، وَوالِدُكَ سَيَتْرُكُ الْبَيْتَ وَيَعيشُ في مَكانٍ آخَرَ.
لَمْ أَسْتَطِعْ تَحَمُّلَ الْـمَزيدِ، وَبَدَأْتُ أَبْكي، كَيْفَ يَقولانِ هذا؟ أَنا ما زِلْتُ صَغيرًا لِأَتَحَمَّلَ كُلَّ هذا الْكَلامِ.
حاوَلَ أَبي التَّخْفيفَ عَنّي، وَقالَ: لا تَقْلَقْ يا بُنَيَّ، سَأَكونُ دَوْمًا قَريبًا مِنْكَ، تَسْتَطيعُ الاتِّصالَ بي مَتى شِئْتَ، وَسَتزورُني كُلَّما أَرَدْتَ، فَأَنا سَأَظَلُّ والِدَكَ الَّذي يُحِبُّكَ كَثيرًا.
رَكَضْتُ إلى غُرْفَتي مُسْرِعًا.
كانَتِ الدُّموعُ تَنْهَمِرُ مِنْ عَيْنَيَّ بِغَزارَةٍ.
أَخَذْتُ أَسْأَلُ نَفْسي الْكَثيرَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ: أَيُّ حَياةٍ تَنْتَظِرُني بَعْدَ الْيَوْمِ؟ كَيْفَ سَأَتَمَكَّنُ مِنَ الْعَيْشِ بِدونِ والِدي؟ مَنْ سَيَأْتي إلى الْـمَدْرَسَةِ لِيَسْتَلِمَ شَهادَتي عِنْدَ نِهايَةِ السَّنَةِ الدِّراسِيَّةِ؟ كَيْفَ سَأَحْتَفِلُ بِعيدِ ميلادي بِدونِهِ؟
ماذا سَأَفْعَلُ عِنْدَما أَقْلَقُ لَيْلًا أَوْ أَسْتَيْقِظُ فَزِعًا مِنْ حُلُمٍ مُرْعِبٍ؟ فَكَّرْتُ في نَفْسي كَثيرًا، وَفَكَّرْتُ بِهِما... لِـماذا لا تَنْتَهي مَشاكِلُ الْكِبارِ بِسُرْعَةٍ وَسُهولَةٍ مِثْلَما تَنْتَهي مَشاكِلُ الصِّغارِ؟ أَلا تَكْفي كَلِمَةُ «آسِف» لِيَعودَ الْكِبارُ عَلى عَلاقَةٍ حَسَنَةٍ مَرَّةً أُخْرى؟ يا إلهي! كَيْفَ سَتَكونُ حَياتي مِنَ الْيَوْمِ وَصاعِدًا؟
تَرَكَ أَبي الْبَيْتَ، وَأَخَذَتْ تُراوِدُني مَشاعِرُ الْخَوْفِ وَالْقَلَقِ دَوْمًا... لكِنْ وَعَلى عَكْسِ ما كُنْتُ أَظُنُّ، كانَ أَبي عَلى اتِّصالٍ دائِمٍ بِنا، كَانَتْ أُخْتي قَريبَةً دَوْمًا مِنْ أُمّي، وَأَنا تَعَلَّمْتُ أَنْ أَحْيا مَعَ الْحَقيقَةِ الصَّعْبَةِ: أُمّي وَأَبي مُطَلَّقانِ.
حاوَلْتُ أَنْ أَرى الصُّورَةَ الْإيجابِيَّةَ لِلْمَوْضوعِ... انْتَهى الصُّراخُ في بَيْتِنا، وَحَلَّ مَكانَهُ الْهُدوءُ.
كانَتْ أُمّي تُكْثِرُ مِنَ اللَّعِبِ مَعَنا، وَتُعَلِّمُنا، وَتَقْضي مَعَنا أَجْمَلَ الْأَوْقاتِ... كُنّا نَشْعُرُ بِسَعادَةٍ دائِمَةٍ مَعَها.
اِعْتَدْنا عَلى الْوَضْعِ الْجَديدِ، كُنْتُ أَتَحَدَّثُ إلى والِدي تَقْريبًا كُلَّ يَوْمٍ، وَكُنّا، أَنا وَأُخْتي، نَذْهَبُ لِزِيارَتِهِ في نِهايَةِ الْأُسْبوعِ. وَعِنْدَما كُنْتُ أَقْلَقُ أَوْ أَخافُ، كُنْتُ أَتَسَلَّلُ إلى سَريرِ وَالِدَتي الدَّافِىءِ أَحْضِنُها وَأَنامُ.
أَمّا في عيدِ ميلادي، فَكُنْتُ أَحْظى كُلَّ سَنَةٍ بِاحْتِفالَيْنِ؛ مَرَّةً مَعَ والِدي، وَمَرَّةً مَعَ والِدَتي، وَكُنْتُ أَحْصَلُ عَلى هَدِيَّتَيْنِ مِنْهُما.
صَحيحٌ أَنَّني كُنْتُ أَتَمَنَّى أَنْ يَسْتَمِرَّ وَالِدايَ في الْعَيْشِ مَعًا، لكِنَّهُما اخْتارا الْانْفِصالَ عَنْ بَعْضِهِما، أَمّا حُبُّهُما لي، فَقَدْ بَقِيَ كَبيرًا كَما كانَ دَوْمًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق