الهندي الصغير والبوا
بقلم: طلال حسن
" 1 "
ــــــــــــ
نهضت الأم قبل شروق الشمس ،
وأعدت طعام الفطور ، من خبز المانيوكا ، وبيض السلاحف ، وقليلاً من العسل .
وأيقظت زوجها قائلة : انهض ، الشمس استيقظت ، وأنت ما تزال تغط في النوم .
واعتدل الأب ، وقال متثائباً : لمْ
أنم مرتاحا ليلة البارحة ، فقد كان الكوخ شديد البرودة .
وردت الأم قائلة : هذا أمر طبيعي ما دمت تركت النار تخمد في الموقد .
ونهض الأب ، وقال : لو سمعتك أمي لقالت ، هذه مهمتك أنت يا امرأة .
والتفتت الأم ضاحكة إلى صغيرها ، وقالت : بنيّ انهض ، الفطور جاهز .
ونهض الصغير ، وهمّ أن يمضي إلى
الخارج ، وهو يقول : سأذهب إلى الحظيرة ، وأتفقد الخشف .
فاعترضته الأم ، وقالت : دعه الآن ، أجلس وتناول فطورك أولاً .
وجلس الصغير بين أمه وأبيه ، يتناول الطعام على عجل ، ونظر أبوه إليه مبتسماً ، فقالت الأم : لا
تستعجل يا بنيّ ، كل جيداً ، فالخشف لن يطير .
ونهض الأب ، وفمه ما زال مملوء بالطعام ، وأخذ قوسه وسهامه ، وقال : سأذهب
اليوم إلى النهر .
وهبّ الصغير واقفاً ، وكأنه يستعجل ذهاب أبيه ، ونهضت الأم ، وقالت :
سنتغدى اليوم سمكاً إذن .
واتجه الأب نحو الباب ، وهو يقول : أو بطاً .
وأسرع الصغير في إثر أبيه ، وقال : السمك ألذّ من البط ، أريد سمكة .
وخرج الأب من الكوخ ، يتبعه صغيره وزوجته ، وقال : سآتيك بسمكة كبيرة ،
وستأكل منها حتى تشبع .
والتفت إلى الحظيرة ، وأنصت قليلاً ، ثم قال : أنصت ، الخشف يناديك .
واحتج الصغير قائلاً : لم يعد خشفاً ، لقد نما له قرنان حادان .
وضحكت الأم ، وقالت : لكنه ما زال يشرب الحليب .
واحتج الصغير قائلاً : بابا أيضاً يشرب الحليب .
ومضى الأب ، وقال وهو يضحك : هذا أمر طبيعي ، فأنا ما زلت خشفاً .
وهتفت الأم ضاحكة : لا تتأخر .
ولوح الأب بيده ، دون أن يردّ بكلمة ، وسار بخطواته القوية الثابتة ،
والقوس والسهام بين يديه ، حتى غاب بين الأشجار ، ومضت الأم إلى الداخل ، لتنظف
الكوخ ، وترتب أثاثه ، وانطلق الصغير إلى الحظيرة ، وهو يقول : خشفي يناديني ،
لابد أنه جائع ، سأذهب إليه .
" 2 "
ـــــــــــــــ
دخل الصغير الحظيرة ، واخذ
الخشف إلى الخارج ، وأبقى العنزة في مكانها ، واحتجت العنزة ، ومأمأت عالياً
وحاولت اللحاق بهما ، لكن الصغير دفعها ، وأغلق باب الحظيرة .
وجلس الصغير تحت الشجرة ، وراح يطعم الخشف ، وهو يحدق في قرنيه الصغيرين ،
وحرمه هذا اليوم من تناول الحليب ، بحجة أنه كبر ، رغم أن أباه نفسه ، كان يشرب
الحليب كلّ يوم .
ورفع رأسه ، الجو رائق ، والشمس دافئة ، ونهض متطلعاً إلى البعيد ، ، وكأن
الغابة نادته ، فأسرع يبحث عن أمه ، والخشف يهرول ممأمئاً وراءه .
وعرف أن أمه ، ما زالت تعمل في الداخل ، فتوقف عند الباب ، وهتف : ماما .
وردت أمه قائلة : نعم بنيّ .
فقال الصغير : سآخذ الخشف ، وأتجول قليلاً .
وتوقفت أمه عن العمل ، وقالت : اذهب ، يا بنيّ ، لكن لا تبتعد كثيراً .
وهزّ الصغير رأسه ، وقال : نعم ماما .
وأضافت أمه ، وهي تعود إلى عملها : حذار، فالغابة مليئة بالوحوش .
وسار الصغير مبتعداً ، وهو يقول : سأتجول في الجوار ، فأنا أخاف على الخشف
.
ومنذ البداية حاول الصغير في جولته ، أن يتجنب النهر ، فقد عرف من أمه
وأبيه ، أن تماسيح هذا النهر لا يمكن التكهن بحركتها ، فقد يعرض تمساح نفسه للشمس
، في بقعة رملية ، فيبدو وكأنه كتلة من الخشب جرفها التيار ، لكن ما يقترب منها
أحدهم ، حتى تدب الحياة فيها ، فتنقض عليه في سرعة مذهلة .
وبالإضافة إلى التماسيح ، فقد حذره أبواه من سمك البيرانا ، والسمك الكهربي
وأفعى البوا ، وهي أكبر أنواع الثعابين في العالم ، ويبلغ طولها أحياناً تسعة
أمتار وربما أكثر .
وجلس الصغير تحت إحدى الأشجار ، وجعل الخشف يجثو إلى جانبه ، فهو لا يريد
أن يتوغل أكثر في الغابة ، خوفاً من وحوشها ، التي لا تعد ولا تحصى .
ومن بعيد ، تناهت ضوضاء وصخب ، وخفق قلب الصغير خوفاً وقلقاً ، ذلك هو
القرد الأحمر العواء ، ومن يدري ، لعله
أبصر النمر ، الذي قال أبوه ، انه يتجول في الجوار .
وتلفت الخشف ، وهو يتململ قلقاً ، فنهض الصغير ، ودفعه برفق أمامه ، ومضى
عائداً به إلى الكوخ .
" 3 "
ـــــــــــــــ
كلما شكت الأم ، من وجود
الفئران داخل الكوخ ، وفي الحظيرة ، يقول لها زوجها : صبراً ، سأخلصك منها في
القريب العاجل .
وتصمت مكرهة ، دون أن تعرف كيف ومتى سيخلصها زوجها من الفئران .
واليوم ، عند منتصف النهار ، عندما عاد صغيرها من جولته ، برفقة الخشف ،
وجد أمه تطارد بمقشتها فأرة داخل الكوخ ، تريد قتلها ، أو طردها إلى الخارج ، دون
جدوى .
وتوقف الصغير عند الباب ، والخشف إلى جانبه ، وهتف : ماما .
وردت الأم ، دون أن تتوقف عن مطاردة الفأرة : مهلاً يا بنيّ ، دعني أتخلص
أولاً من هذه الفأرة .
وتوقفت ، وسط الكوخ ، لاهثة ، وقالت وهي تتلفت : أين اختفت هذه اللعينة ،
سأجن إذا استمر الحال على ما هو عليه الآن .
ورمت المقشة متذمرة ، وقالت : سأخلصكِ من الفئران ، هذا ما يقوله لي أبوك دائماً
، وهاهي الفئران تزداد في الكوخ يوماً بعد يوم .
وصمتت الأم ، ثم نظرت إلى صغيرها ، ولم تتفوه بكلمة واحدة ، وتلفت الصغير
حوله ، ثم قال : يبدو أن بابا لم يعد بعد .
وخرجت الأم من الكوخ ، وتوقفت إلى جانبه ، وقالت بصوت هادئ : سيأتي ، هذا
وقته .
واحتج الصغير قائلاً : إنني جائع .
فمدت الأم يدها ، ومسدت شعره برفق ، وقالت : مهلاً يا صغيري ، سيأتي أبوك ،
ويجلب لك سمكة و ..
وهنا هتف الصغير ، وهو ينظر إلى البعيد : ها هو بابا ، لقد جاء .
ونظرت الأم حيث ينظر ، ثم قالت : نعم ، إنه هو ، لكن أهي سمكة ، تلك التي
يحملها؟
ودقق الصغير النظر ، ثمّ هزّ رأسه ، وقال : كلا ، لا توجد سمكة بهذا الشكل
.
واقترب الأب ، فقالت الأم : أنت محق يا صغيري ، هذه ليست سمكة بل أفعى .
وشهق الصغير : أفعى !
فردت الأم قائلة : البوا
وما إن رأى الخشف أفعى البوا ، بين يدي الأب ، حتى انتفض مذعوراً ، وفرّ
نحو الحظيرة ، فانطلق الصغير مسرعاً في إثره .
وتوقف الأب مبتسماً أمام زوجته ، وأفعى البوا تتلوى بين يديه ، وقال : جئتك
بمن يخلصك من الفئران .
واستدارت الأم ، ودخلت الكوخ ، وهي تقول : مهما يكن ، لا أريدها أن تبقى
معنا ليلاً في الكوخ .
ولحق الأب بها ، وقال : اطمئني ، سأبقيها ليلاً في الحظيرة .
" 4 "
ـــــــــــ
قبل حلول الليل ، أخذ الأب أفعى
البوا ، إلى الحظيرة ، وما إن رأتها العنزة ، تتلوى بين يديه ، حتى راحت تمأمئ ،
وتتململ بقلق ، فوضعها في زاوية بعيدة ، وغطاها بإحدى السلال .
وعندما حان وقت النوم ، حاول الصغير أن يبقى الخشف معه ، داخل الكوخ ، واحتجت
أمه ، وقالت بإصرار : كلا ، خذه إلى مكانه .
وحاول الصغير إقناعها ، فقال متوسلاً : ماما ..
لكن أمه قاطعته قائلة : لا تحاول ، الخشف لن يبقى هنا ، انهض .
ونهض الصغير على مضض ، وحمل الخشف ، ومضى به إلى الحظيرة ، ووضعه إلى جانب
العنزة ، التي لم تكف عن المأمأة ، والتململ بقلق .
ونام الأب ، وبعده نامت الأم ، لكن الصغير لم ينم ، فقد كان ثغاء الخشف
ومأمأة العنزة ، يأتيانه من الحظيرة ، ويمنعانه من النوم .
وعند منتصف الليل ، وربما بعده بقليل ، لم يعد يسمع غير مأمأة العنزة ،
وخيل إليه أن الخشف قد اطمأن ونام ، فأغمض عينيه ، وسرعان ما نام هو الآخر .
وفي اليوم التالي ، أفاق الصغير باكراً ، قبل أن يفيق والداه ، ونهض بهدوء
، وتسلل إلى الحظيرة ، ليتفقد الخشف .
وهب الوالدان من النوم ، على صغيرهما يصيح من الحظيرة بصوت باك : بابا ..
ماما .
وأسرعا إليه ، وإذا هو وسط الحظيرة ، وقد غرقت عيناه بالدموع ، وأخذته أمه
بين ذراعيها ، وقالت متسائلة : ما الأمر ، يا بني ّ ؟
ورد الصغير من بين دموعه : خشفي ، أكلته البوا .
ونظر الأب إلى السلة ، وقال : لا يمكن ، البوا في مكانها ، تحت السلة
.
وتساءل الصغير منفعلاً ، ودموعه تسيل على خديه : أين هو إذن ؟ أين هو ؟
ونظرت الأم إلى زوجها ، وقالت : لعله هرب خوفاً من البوا .
وتطلع الصغير إلى أبيه ، كأنه يستغيث به ، فربت الأب على رأسه ، وقال : لا
عليك ، سأبحث عنه في الغابة ، حتى أجده .
" 5 "
ــــــــــــــ
انطلق الخشف ، دون توقف ، حتى
تنفس الفجر ، مؤذناً اقتراب شروق الشمس ، عندئذ يتباطأ في سيره ، وقد أنهكه التعب
.
لم يغف في الحظيرة ، والبوا على بعد خطوات منه ، تتمدد ملتفة تحت السلة ،
وتراءت له أمه ، التي فاجأتها البوا العاصرة ، والتفت حولها حتى أهلكتها ، ثم
ابتلعتها بأكملها .
وتوقف عند شروق الشمس ، وتناول بعض الأعشاب الندية ، لعله يسكت جوعه ، وشعر
بالعطش ، لكنه خاف أن يذهب إلى النهر ، رغم أن مياهه العذبة ، كانت تلوح من بين
الأشجار ، فالتماسيح تتربص بكل من يقترب من الماء ، وتفتك به .
وقد يتمدد أحدها على الرمال ، ويبدو كأنه كتلة من الخشب ، جرفها التيار ،
لكن الحياة تدب فيها ، عندما تقترب منها إحدى الفرائس ، فتنقض عليها بسرعة مذهلة ،
وجثا تحت إحدى الأشجار ، وأغمض عينيه متثائباً ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .
وهبّ الخشف مذعوراً ، حين هزه ضوضاء وصخب النسناس الأحمر العواء ، لابد أن
المسكين رأى النمر ، أو أفعى البوا ، أو ..
.
وجمد منصتاً وقلبه يخفق بشدة ، فقد ندت حركة مريبة من بين الأعشاب المرتفعة
، وفجأة برز النمر ، بجسمه الضخم ، وأنيابه ومخالبه الفتاكة ، وأنطلق نحوه .
وعلى الفور ، انطلق الخشف ، وقد طاش صوابه ، حتى أنه لم يدرك أنه متجه إلى
النهر ، واعترضه ما بدا له جذع شجرة ميتة ، فقفز من فوقه ، لكن الحياة دبت في هذا
الجذع ، وإذا هو تمساح ، انقض عليه ، لكنه أخطأه ، كما أخطأ النمر ، عندما قفز من
فوقه أيضاً .
وهنا ، واجه الخشف ما لم يكن في الحسبان ، ففي حين كان النمر منطلقاً في
إثره ، ويكاد يمسك به ، وجد النهر في مواجهته ، وبدون تردد ارتمى في النهر ، ومن
حسن حظه أن المياه لم تكن عميقة ، فتقافز بجنون ، حتى وصل ، وبأعجوبة ، الضفة
الأخرى .
وارتفعت ضجة من النهر ، وتطايرت المياه بفعل جسم ضخم ، إنه النمر ، والويل
له لو أدركته ، والتفت خلفه مرعوباً ، يكاد يستسلم لمصيره ، وإذا مئات من أسماك
البيرانا ، تهاجم النمر ، وتمزقه وتلتهمه ، وخلال دقائق ، لم يبق من النمر ، سوى
هيكله العظمي .
" 6 "
ــــــــــــــــ
عاد الأب قبيل المساء من
الغابة ، ونظرت إليه زوجته متسائلة ، دون أن تتفوه بكلمة ، فأعاد قوسه وسهامه إلى
مكانها ، مبتعداً بعينيه عن عيني صغيره الغارقتين بالدموع ، وقال : بحثت عنه في
كلّ مكان ، لكني لم أعثر له على أثر .
وانفجر الصغير بالبكاء قائلاً : إنها البوا اللعينة .
ونظر الأب إلى زوجته ، وخاطبها قائلاً : البوا صغيرة ، وهي عادة لا تأكل
غير الفئران والسحالي .
وردت زوجته بشيء من اللوم : هذا صحيح ، لكن الخشف لا يعرف إلا أنها أفعى
بوا .
وانهمكت الأم في إعداد طعام العشاء ، دون أن تتفوه بكلمة ، وحين انتهت من
ذلك ، نظرت إلى زوجها وصغيرها ، وقالت : الطعام جاهز ، لنتعشَ .
لم يردَ الأب ، وتمدد الصغير في فراشه ، والدموع تغرق عينيه ، فمالت الأم
عليه ، وقالت : بنيّ انهض ، وتعشَ .
وبصوت تخنقه الدموع ، ردّ الصغير : لن أتعشى ، دعيني أنم .
والتفتت الأم إلى الأب ، وقالت : أنت لم تأكل طول النهار ، انهض وكل .
وردّ الأب قائلاً : لا أشتهي ، كلي أنتِ .
ووقفت الأم حائرة ، لا تدري ماذا تفعل ، ثم اتجهت إلى فراشها ، وهي تقول :
سأنام أنا أيضاً .
وهنا دفع الباب بهدوء ، ورفع الصغير رأسه ، وصاح مذهولاً : الخشف .
والتفت الأب ، وتمتم فرحاً : حقاً إنه الخشف .
وتوقفت الأم ، ومن خلال دموعها ، رأت الخشف يدلف إلى الداخل ، وهبّ الصغير
من مكانه ، ومدّ يديه نحو الخشف ، وضمه إلى صدره ، وابتسمت الأم ، وقالت : لنتعشَ
ما دام الخشف قد عاد .
ونظر الأب إلى صغيره ، وتقدم من الطعام ، وقال : بنيّ ، تعال نأكل .
وقال الصغير ، والخشف في حضنه : بابا .
وردّ الأب قائلاً : نعم بنيّ .
فقال الصغير : البوا .
ووضع الأب اللقمة في فمه ، وقال : إنها طعام لذيذ ، هذا ما تقوله أمك .
وهزت الأم رأسها مبتسمة ، فقال الأب : سنتغدى بها غداً ، هيا انهض .
وقال الصغير ، دون أن ينهض : سيبقى الخشف هذه الليلة معنا داخل الكوخ .
لاذ الأب بالصمت ، فقالت الأم مبتسمة : طبعاً يا صغيري ، سيبقى معنا ، فنحن
لا نريد أن نكرر التجربة مرة أخرى .
ونهض الصغير ، وجلس بين والديه ، وراحوا يتناولون عشاءهم بشهية كبيرة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق