السمكة السيافة
بقلم: طلال حسن
" 1 "
ـــــــــــــــــــ
بعد الغروب ، أعدّ الجد العشاء
، ووضعه على المائدة ، ثمّ نادى حفيده : بدرو ، تعال ، العشاء جاهز .
وألقى بدرو مجلته المصورة ، وجلس قبالة جده ، وقال : الجو كان صحواً ،
والريح هادئة ، طول اليوم .
وأخذ الجد كسرة خبز ، وغمسها في الطعام ، وهو يقول : وغداً يكون الجو صحواً
أيضاً .
ووضع اللقمة في فمه ، وأضاف : هذا جوّ مثاليّ للصيد، وخاصة صيد سمك أبو سيف .
وتطلع بدرو إلى جده ، بشيء من الاستغراب ، لكنه لم يتفوه بكلمة ، ونهض الجد
قائلاً : ابقَ أنت َ ، وكل حتى تشبع .
وبدل أن يجلس الجد قرب النار ، ويدخن سكارة ، كما يفعل كلّ يوم ، أوى إلى
فراشه ، وقال : سأنام .
ونهض بدرو ، وقال ، وهو يجمع المواعين : لكن الوقت مازال مبكراً .
وتمدد الجد في فراشه ، وقال : عليّ أن أنهض غداً ، قبل شروق الشمس .
ووضع بدرو المواعين في أماكنها ، وقال : لكنك لم تخرج للصيد منذ مدة ، يا
جدي .
وسحب الجد الفراش حتى عنقه ، وقال : أريد أن أصطاد سمكة أبو سيف .
وتطلع بدرو إليه ، وقال : هذا حلم ، طالما حدثتني عنه .
وأغمض الجد عينيه ، وقال : وسأحققه .
وابتسم بدرو ، وهو يهز رأسه ، فجده لم يعد شاباً ، فيمضى لصيد مثل هذه السمكة الشرسة ، وتمدد في فراشه ،
يتصفح مجلته المصورة ، حتى تسلل النعاس إلى عينيه ، وسرعان ما استغرق في سبات عميق
.
" 2 "
ـــــــــــ
فتح الجد عينيه ،قيل شروق الشمس
، كأن أحدهم هزه، وهتف به : انهض .
ونهض بهدوء ، وبهدوء تنقل داخل الكوخ ، كي لا يوقظ بدرو ، لكن بدرو استيقظ
، ورأى الجد يحمل الحربة والمجذافين وصرة الطعام ، واعتدل في فراشه ، فقال الجد :
نم يا بدرو ، فالوقت مازال مبكراً .
لكن بدرو لم ينم ، وإنما هبّ من فراشه ، وقال : خذني معك .
وفتح الجد الباب ، وقال : كلا ، أنت صغير .
ولحقه بدرو ، وقال : لكنك أخذتني معك مرات .
وسار الجد ، ينوء بما يحمله ، وقال : هذه المرّة سأصطاد سمكة أبو سيف ، وهي
سمكة خطرة ، وأنا أخاف عليك .
وسار بدرو في أثره ، وهو يقول : أنا أيضاً أخاف عليك، فأنت لم تعد ..
وتوقف الجد ، وقاطعه قائلاً : كلا يا بدرو ، أنا مازلت شاباً .
وابتسم بدرو ، وقال : شاب تجاوز السبعين .
ثمّ مدّ يده ، واخذ الصرة من جده ، وقال : دعني أرافقك حتى القارب .
واستأنف الجد سيره ، وقال : لا بأس ، هيّا .
ثمّ رفع يده بالحربة ، وهزّها بقوة ، وهو يقول : هذه الحربة يا بدرو ،
ستنفذ اليوم في سمكة أبو سيف ، وسآتيك بها ، مهما كلفني الأمر .
وصعد الجد إلى القارب ، ووضع الحربة وصرة الطعام جانباً ، ثمّ أمسك
بالمجذافين ، وقال : بدرو ، انتظرني هنا ، عند الغروب .
وهتف بدرو بصوت دامع : رافقتك السلامة .
وحين سار القارب ، فوق سطح الماء ، وقف بدرو يتابعه بعينين دامعتين ، حتى
توارى وراء الأفق .
" 3 "
ــــــــــــ
توغل الجد بقاربه في البحر ،
حتى اختفى الشاطىء وقرية الصيادين ، وراح القارب يشق طريقه ببطء ، فوق المياه
الهادئة الصافية ، تحت سماء تحاكي تلك المياه هدوء وصفاء .
وتوقف الجدّ عن التجذيف لاهثاً ، وأخذ يتلفت حوله ، بعينيه الشائختين
المتعبتين ، آه لعلّ بدرو على حق، فهو لم يعد قوياً ، كما كان من قبل ، وغدا أقلّ
مجهود يرهقه، ويجعله يلهث .
ومن بعيد ، جذبت نطره ، سمكة شيطان البحر ، تثب من الماء ، وقد بسطت
جناحيها الكبيرين ، وبدت كما لو أنها خفاش خرافي ضخم ، وسرعان ما عادت ثانية إلى
الماء، وغابت في الأعماق .
وتنهد الجدّ ، آه ، لو أن بدرو معه في القارب ، لحدثه عن سمكة أبو سيف ،
فهو يعرف عنها الكثير ، فهذه السفاحة مثلاً ، عندما ترى مجموعة من أسماك الرنجة
والإسقمري ، تندفع نحوها كأنها قطار سريع ، وما إن تغدو وسطها ، حتى تعمل فيها
سيفها في ضراوة ، فتمزقها تمزيقاً ، ثمّ تزدرد بعض القطع ، وتمضي باحثة عن مجموعة
أخرى ، من نفس الأسماك .
وأمسك الجد بالمجذافين ، وراح يجذف بهما ، متقدماً ببطء إلى الأمام ،
وتراءى له بدرو ، وهزّ رأسه ، فبدرو لا يعرف سبب كرهه لسمكة أبي سيف هذه ، وكيف له
أن يعرف ، مادام لم يحدثه عن ذلك ؟
ونظر بعيداً ، سيحدثه في أقرب فرصة ، ويوضح له السبب ، قد يحزن ، وتدمع
عيناه ، فهو مثله عاطفيّ ، نعم ، سيحدثه عن صديقه بدرو ، عندما كانا صغيرين ، فقد
كان أحبّ صديق له ، لكن أين بدرو الآن ؟ لقد خرج مع أبيه وقتها ، في قارب الصيد ،
وفي عرض البحر ، تصدت لهما سمكة أبو سيف ، وأغرقت قاربهما ، وأغرقتهما معه .
" 4 "
ـــــــــ
بعد منتصف النهار ، لاحت للجدّ
من بعيد ، فوق سطح الماء ، زعنفة ظهرية لسمكة أبو سيف ، فهذه السمكة اللعينة ، تحب
الاغتسال بأشعة الشمس .
وفي مثل هذا اليوم المشمس ، يصيب الصيادون المسلحون بالحراب ، أكبر قسط من
النجاح ، إذا لم تنتبه الأسماك إليهم ، وتغيب عن الأنظار .
ودفع الجد قاربه ، واقترب من السمكة شيئاً فشيئاً ، وحين غدت في مرمى حربته
، نهض بهدوء ، ورفع الحربة ، لكن السمكة ، على ما يبدو ، انتبهت إلى وجوده ، فغاصت
على الفور إلى الأعماق ، وغابت عن أنظاره .
وتوقف الجدّ ، وانتظر بعض الوقت ، على أمل أن تطهر السمكة ثانية ، لكن دون
جدوى ، واستدار بقاربه ، لقد ابتعد كثيراً ، وعليه الآن أن يبدأ رحلة العودة ، لا
بأس ، فاليوم أوشك أن يصطاد سمكة من أسماك أبو سيف ، وغداً أو بعد غد أو ..،
سيصطاد واحدة ، وينتقم من جديد لصديقه
الراحل .. بدرو .
ومن بعيد ، لاحت سفينة صيد شراعية ، ولوح له بعض الصيادين ، فردّ عليهم
ملوحاً بيده الشائخة المتعبة ، وواصل الجد تجذيفه بهمة ، فالوقت يمرّ سريعاً ،
وبدرو ينتظره الآن قرب الشاطىء ، على أحرّ من الجمر ، وهزّ الجد رأسه ، هذا هو
البحر يا بدرو ، يعطينا أحياناً ، وأحيناً يأخذ منّا ، كما فعل يوماً مع صديق
طفولتي .. بدرو .
" 5 "
ـــــــــــ
قبيل العصر ، والشاطىء مازال
وراء الأفق ، برزت من الماء ، على مسافة أمتار من القارب ، زعنفة ظهرية طويلة ، وانتفض
قلب الجد ، أهو الفرح أم القلق أم .. ؟ مهما يكن ، فهاهي سمكة أبو سيف أمامه ،
تغتسل بأشعة الشمس ، قبل أن تنحدر الشمس إلى الغروب .
وتقدم بقاربه نحوها ، دون أن يحدث أي صوت تقريباً ، ومدّ يده ، وبقوة أمسك
بالحربة ، وعيناه الشائختان تلتمعان ، بدرو ، صديقي ، سأقتل هذه السمكة السفاحة ،
كما قتلت أباك ، وقتلتك ، وأنت طفل بعمر حفيدي بدرو
ونهض بهدوء وحذر ، والقارب يقترب من الزعنفة ، الملتمعة تحت أشعة الشمس ،
ورفع الحربة عالياً ، آه إن سمكة أبو سيف ، لم تنتبه إلى وجوده هذه المرة ، وهذا
ما قد يكلفها غالياً .
وبكل ما تبقى لديه من قوة ، أطلق الحربة نحو السمكة ، وهو يصيح بأعلى صوته
: هذه من أجلك ، يا بدرو .
ويبدو أنه أصابها في الصميم ، فقد انتفضت السمكة متلوية خارج الماء ، ولاح
جسمها ، تحت أشعة الشمس، بلونيه البرونزي والفضي ، أكبر حجماً من حجم القارب،
وإلتمع سيفها الطويل الرهيب ، وهي تتهاوى فوق الماء، وتغوص إلى الأعماق .
ووقف الجد ، وسط القارب ، ينتظر ، وحدق فيما حوله ، فقد أبصر دماء تتصاعد
من الأعماق ، وتنتشر حول القارب ، وخفق قلبه ، أهو الفرح ؟ لماذا لا ؟ لقد أصاب
تلك السمكة السفاحة ، وهاهي تنزف في الأعماق حتى ..، وهنا برزت سمكة أبو سيف ،
بجسمها الضخم ، فوق الماء ، والحربة مغروسة في ظهرها ، واندفعت نحو القارب ، كقطار
مجنون ، فقد سائقه السيطرة عليه ، وبسيفها الطويل الرهيب ، اخترقت القارب العجوز ،
ثمّ غاصت به وبالصياد إلى أعماق البحر .
" 6 "
ـــــــــــــ
فتح الجد عينيه ، وحدق مذهولاً
، فقد لمح ، فيما يشبه الضباب ، حفيده بدرو ، فتمتم بصوت واهن : من ؟ بدرو !
ومال بدرو عليه ، وقال : نعم ، يا جدي ، بدرو .
وهزّ الجد رأسه ، وتمتم : هذا محال ، محال .
ثمّ حدق ثانية في بدرو ، وتساءل : بدرو ، أفي الجنة أنا، أم في الجحيم ؟
وردّ بدرو محاكياً صوت جده : أنت بينهما ، يا جدي ، على الأرض .
وتلفت الجد حوله مذهولاً ، فقال بدرو : هذه مستشفى ، يا جدي .
وتأوه الجد متوجعاً : آه .
واستطرد بدرو قائلاً : كدت تذهب إلى العالم الآخر ، يا جدي ، لو لم يرك
بحارة السفينة الشراعية ، تصارع سمكة أبو سيف .
ورفع الجد رأسه ، وقال : تلك السمكة السفاحة .
وقال بدرو : وانتقمت لصديقك .. بدرو .
وبدا وكأن الجد فوجيء بما قاله
حفيده ، فتمتم : ماذا !
فردّ بدرو قائلاً : صديقك الصغير بدرو ، الذي أسميتني على اسمه .
واعتدل الجد ، وقال : من حدثك عنه ؟
ومال بدرو عليه ، وقال : صياد عجوز نسّاء ، لكنه شجاع .
وحكّ الجد ذقنه الخشن مفكراً ، فابتسم بدرو ، وتابع قائلاً : لقد حدثتني
عنه بنفسك ، أكثر من مرة .
وألقى الجد رأسه على المخدة ، وتنهد بارتياح ، ثمّ قال : مهما يكن ، فقد
حققت حلمي ، وقتلت .. سمكة أخرى من أسماك .. أبو سيف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق