الحقيقة
طلال حسن
تسللتُ مع الفجر ، نحو البركة ، التي كانت
تعج بمختلف أنواع الأسماك ، وكمنتُ خلف شجرة ضخمة ، ورحتُ أراقب البركة .
منذ
سبعة أيام ، لا ، ربما خمسة أيام ، أم إنها ستة أيام؟ لستُ متأكداً ، المهم منذ
ذلك اليوم ، وأنا أتسلل إلى هذه الشجرة الضخمة ، وأكمن خلفها ، لأعرف الحقيقة ،
فأنا .. أنا أريد الحقيقة .
لقد
قالت لي ماما : السمك ، لا يعيش إلا في الماء .
هذا
صحيح ، وقالت لي جدتي : السمك لا يتنفس إلا الهواء المذاب في الماء .
وهذا
أيضاً صحيح ، أما جدي فقد قال لي : السمك إذا خرج من الماء يموت في الحال .
وهذا
أيضاً صحيح ، لكن دبدوبة ، ودبدوبة لا تكذب ، قالت لي : هناك سمكة تعيش في البركة
، تخرج من الماء ، وتزحف على الشاطىء ، بل وتصعد إلى الشجرة ، وتأكل ما في الأعشاش
من بيض أو فراخ صغيرة ، ثم تعود إلى البركة .
أهذا
ممكن ؟ ربما ، مادامت دبدوبة تقول : " إنني رأيتها بنفسي ، على ضوء القمر ،
تخرج من البركة ، و .. " يا لدبدوبة ، إنها تخاف من ظلها ، فما الذي أتى بها
ليلاً ، إلى هذا المكان الموحش ؟
لابدّ
أن دبدوبة قد جُنت ، فهي ترى أحياناً ما لا أراه ، فذات مرة ، قالت بأنها رأت بومة
، تطير في رابعة النهار ، بومة في النهار ؟ آه دبدوبة .
واتسعت
عيناي فجأة ، وكاد قلبي أن يتوقف ، فقد رأيت سمكة تبرز من أعماق البركة ، وتقترب
من الشاطىء ، وكتمتُ أنفاسي ، ورحتُ
أراقبها ، إنها سمكة حقيقية ، وليس شبحاً ، أيعقل هذا ؟
وخرجت
السمكة من البركة ، وزحفت على الشاطىء ، ثم صعدت إحدى الأشجار ، وسرعان ما سمعتُ
العصفورة تصيح بصوت باكٍ : ابتعدي عن بيضي ، ابتعدي ، ابتعدي .
ويبدو
أن السمكة لم تبتعد عن البيض ، فقد راحت العصفورة تبكي وتصيح : أيتها المجرمة ، أكلتِ
بيضي للمرة الثانية ، لن أبقى في هذه الشجرة ، سأهاجر ، سأهاجر ، سأهاجر .
ونزلت
السمكة من الشجرة ، واتجهت نحو البركة ، فخرجتُ من مخبئي خلف الشجرة الضخمة ،
واعترضتها غاضبة .
وفوجئت
السمكة ، فتوقفت قائلة : دبدوب !
يا
لي من أحمق ، لابدّ أن دبدوبة قد حدثتها عني ، لكن من يقول إنها سمكة حقيقية ،
وليست شبحاً ؟ ومددت إصبعي نحوها ، فتراجعت قائلة : لا تلمسني .
وبدل
أن ألمسها بإصبعي ، أمسكتها بكلتا يديّ ، وقلتُ : سآخذك إلى العمة دبة ، لتفحصكِ
جيداً ، وتحدثني عنكِ ، وعن حقيقتكِ .
وانتفضت
السمكة بعنف ، وانزلقت من بين يدي ، وسقطت فوق رمال الشاطىء ، وحاولت أن ألحق بها
، إلا أنها انسابت بسرعة في ماء البركة ، وسرعان ما غاصت إلى الأعماق .
وعدتُ
مهموماً إلى البيت ، لابد لي أن ألتقي اليوم بالعمة دبة ، وأعرف منها الحقيقة ،
فهي وحدها التي تعرف كلّ شيء عن الكائنات الحية ، و ..
وارتطمتُ
بتل من اللحم الرجراج ، ورفعت عينيّ مندهشاً ، وهتفتُ : العمة دبة !
وابتسمت
العمة دبة ، وقالت : أراكَ مشغولاً ، يا دبدوب ، حدثني عما يشغلكَ .
وحدثتها
، حدثتها عما قالته ماما وجدتي وجدي ، وكذلك ما قالته دبدوبة ، ثم حدثتها عن
السمكة الشبح ، وما جرى لي معها ، فقالت العمة دبة : دبدوب ، السمك فعلاً لا يعيش
إلا في الماء ، ولا يتنفس إلا الهواء المذاب في الماء ، ويموت إذا خرج من الماء ،
عدا ..
وتمتمت
متسائلاً : عدا !
وتابعت
العمة دبة قائلة : نعم ، عدا الأسماك الرئوية ، فهي تخرج من الماء ، وتتنفس الهواء
الطلق ، بل وتصعد إلى الأشجار ، كما قالت دبدوبة .
آه
.. عدا ، لم يقل لي أحد .. عدا هذه ، لا أمي ، ولا جدتي ، ولا جدي ، ولا حتى
دبدوبة ، لا .. دبدوبة قالت عن السمكة الغريبة ، لكنها لم تقل عدا ، مع هذا دبدوبة
لم تكذب ، ولا تكذب ، وما قالته هو الحقيقة ، نعم ، هناك .. عدا .
27 / 4 /
2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق