البيرانيا
بقلم: طلال حسن
" 1 "
ـــــــــــــــــــــ
منذ أيام ، وذكر السمكة يتسلل
متجولاً خلسة ، على مقربة من قاع النهر ، بين النباتات المائية الكثيفة ، متحيناً
الفرصة للانقضاض على بيض سمك البيرانيا ، الذي وضعته الاناث فوق النباتات المائية
، لالتهامه أو القضاء عليه نهائياً .
ولكن أنى له ذلك ، وذكور البيرانيا ، بعيونها المدورة الكبيرة ، ذوات اللون
الأحمر كلون الدماء ، التي تسفكها على الدوام ، تتجول يقظة في محيط النباتات
المائية ، المثقلة ببيض البرانيا .
وذات ليلة ، هبط الذكر متعباً إلى القاع ، واستلقى على الرمال ، لعله يغفو
قليلاً ، ويرتاح ، وتراءت له انثاه ، تسبح إلى جانبه وسط النهر ، وحانت منه نظرة ،
وإذا هو يلمح سرباً من أسماك البيرانيا ، فانسل بين النباتات المائية ، وهو يقول :
لنبتعد ، تلك هي أسماك البيرانيا المتوحشة .
وبدل أن تلحق به الأنثى ، وقفت تتطلع مذهولة إلى أسماك البيرانيا ، التي ما
إن لمحتها ، حتى انطلقت تشق الماء نحوها كالعاصفة ، وأحاطت بها من جميع الجهات ،
دون أن تتيح لها فرصة للهرب .
ومن مكانه ، بين النباتات المائية الكثيفة ، رأى بعض اسماك البيرانيا ،
تطبق بفكوكها الفولاذية على ذيل الأنثى ، وتشل حركتها ، وعلى الفور ، انقضت جميع
الأسماك على الأنثى ، وافترسنها بسرعة مذهلة .
" 2 "
ـــــــــــــــــــ
فقس البيض بعد أيام ، دون أن
يتمكن الذكر من التهام بيضة واحدة ، ولو حاول ذلك ، لافترسه ذكور البيرانا كما
افترسوا الأنثى من قبل .
وأمام أنظاره الغاضبة ، التي لم تخمد ولن تخمد نيرانها ، خرج الصغار من
البيض ، لكنهم لم يبتعدوا عن النباتات المائية ، وظلوا متصلين بها ، يحرسهم الذكور
، دون أن يغفلوا عنهم لحظة واحدة .
وحين أصبح صغار البيرانيا قادرين على السباحة الحرة ، انفصوا عن النباتات
المائية ، وراحوا يتجولون بحثاً عن الغذاء ، وعندئذ فقط انسحب الذكور ، ومضوا
يبحثون في مجموعات ، وقد عضهم الجوع ، وأصابهم ما يشبه الجنون ، عن ضحية يسفكون
دمها ، ويفترسونها في دقائق معدودات .
وتابعهم الذكر عن بعد ، وكأنه مشدود إليهم بوثاق لا فكاك منه ، يجب أن
ينتقم للأنثى ، مهما كلف الأمر ، فهو يعاني من الشعور بالذنب ، لأنه رآهم يمزقونها
أمام عينيه ، ويفترسونها ، دون أن يفعل شيئاً .
ومن بعيد ، فوق سطح النهر ، رأى بطتين ، لعلهما ذكر وأنثى ، يسبحان جنباً
إلى جنب ، كما كان هو يسبح مع الأنثى دائماً ، وهمّ أن ينطلق إليهما ، ليحذرهما من
البيرانيا ، لكن الأوان كان قد فات .
وجمد في مكانه ، حين رأى أسماك البيرانيا ، تندفع كالعاصفة نحو البطتين ،
وتسحبهما نحو الأعماق ، وتفترسهما بسرعة فائقة ، حتى لم يبقَ منهما غير بضعة عظام
دامية ، تهبط ببطء نحو قاع النهر .
" 3 "
ــــــــــــــــــــ
فكر الذكر للحظات ، أنه ربما من
الأفضل ، أن يبعد عنه فكرة الانتقام من سمك البيرانيا ، وينصرف إلى حياته الطبيعية
، مع بقية الأسماك .
وعلى الفور ، تراءت له الأنثى ، وهي تتمزق بأسنان البيرانا المثلثة الشكل ،
الحادة كالموسى ، فهزّ رأسه ، وقال : كلا ، لن أنسى ، لابد من الانتقام من هذه
الاسماك المتوحشة ، مهما كلف الأمر .
وتسلل عبر النباتات المائية ، إلى أماكن تجمع أسماك البيرانيا ، ذكوراً
واناثاً ، وتوقف كاتماً أنفاسه ، حين رآها تسبح أفواجاً في المياه الضحلة ، وبدت
متوترة منفعلة ، إنها أشهر الصيف الحارة ، وقد شح الغذاء ، فأصابها الجوع بما يشبه
الجنون .
وفي منطقة كثيفة النباتات من النهر ، لمح من بعيد حصاناً ضخماً ، يخوض
قلقاً في الماء ، وعلى صهوته رجل يحمل سوطاً ، وفجأة اختض الماء ، وبدا وكأنه يغلي
، فقد لمحت البيرانيا الحصان ، وهو في منتصف النهر ، فاندفعت نحوه كالعاصفة ، وجنّ
الحصان ، حين هاجمته البيرانيا ، وأسقط الرجل عن صهوته ، لكن كلّ ذلك لم يجده
نفعاً .
ونهض الرجل ، وخاض متعثراً في المياه الضحلة ، حتى وصل الشاطىء ، والدماء
تسيل من يديه ، وقد فقد ثلاثة أصابع من أصابعه العشرة .
وحانت منه نظرة إلى حصانه الضخم ، وإذا أسماك البيرانيا تمزقه وتزدرده ،
ولم يبقّ منه بعد دقائق ، سوى هيكله العظمي ، يلمع تحت أشعة شمس الصيف الساطعة
الحارة .
" 4 "
ـــــــــــــــــــ
تراجع الذكر ، عند حلول الليل ،
إلى نباتات قاع النهر ، واختبأ بين فروعها الكثيفة ، وهو يشعر بالتعب الشديد ،
وأغمض عينيه لعله يغفو .
وأغفى قليلاً ، وخلال ذلك ، تراءت له الأنثى ، تقف عن بعد ، وتنظر إليه
صامتة ، فأشار لها قائلاً : تعالي .. تعالي . .
وقالت الأنثى ، دون أن تتحرك من مكانها : لم اصغِ إليكَ ، حين حذرتني من
سمك البيرانيا ..
وسكتت لحظة ، ثم قالت : فاصغ أنتَ إليّ ، وابتعد عنها ، وعش حياتك ، فلا
حياة مع البيرانيا .
وفزّ الذكر مضطرباً ، ما العمل ؟
هل يترك جريمة البيرانيا تمر دون عقاب ؟
هل يواصل محاولاته ، التي لم تثمر حتى الآن ، فيخسر نفسه ، كما خسر الأنثى
؟
نعم ، ما العمل ؟
وقبيل الفجر ، تحرك الذكر من قاع النهر ، ومضى يشق طريقه بحذر بين النباتات
المائية ، لن ينسى الأنثى ، وسيحاول إن استطاع ، أن ينتقم من البيرانيا ، ولكن
عليه أن يذهب الآن ، ويبحث عن جماعته ، ويحذرهم على الأقل ، من .. سمك البيرانيا
المتوحش .
4 / 4 / 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق