أسماك الأعماق
بقلم: طلال حسن
" 1 "
ــــــــــــــــــ
لم يزرني منذ ثلاثة أيام ، وهذا
ما لم يفعله من قبل ، ولا أريد أن يفعله في أي وقت ، فهو عادة لا يكاد يفارقني ،
لا ليلاً ولا نهاراً .
ربما زعل مني ، لأنني لم أوافقه ، عندما أراد أن يزور السلحفاة العجوز ،
التي كان يحب حكاياتها كثيراً ، ماذا أفعل ؟ إنني مشغولة بالتفكير في أعماق المحيط
.
فلأذهب إليه ، وأصالحه ، وأرافقه إلى السلحفاة العجوز ، وحين هممتُ بالخروج
، رأيته قادماً ، فخرجتُ من المخبأ متهللة ، وقلتُ : أهلاً ومرحباً .
فردّ قائلاً : أهلاً بكِ .
فقلتُ بدلال : مهما يكن ، تعال نتجول ، ثم نذهب معاً ، إلى السلحفاة العجوز
.
بدا مسروراً ، لكنه قال : أخشى أن تكون قد مضت إلى اليابسة ، فقد كانت
البارحة ، تريد أن تزور صديقتها السلحفاة البرية .
فقلتُ ، وأنا أتقدمه سابحة ببطء : لنذهب إليها ، فقد نجدها ، ثمّ إن لديّ
ما أحدثك به .
وسبح إلى جانبي بهدوء ، وهو يقول : ستحدثيني طبعاً عن .. أعماق المحيط
وأسماكه .
ابتسمتُ ، وقلتُ : هذا ما يشغلني دائماً .
" 2 "
ـــــــــــــــــــ
وكما توقع ، لم تكن السلحفاة
العجوز في بيتها ، في قاع البحر ، ولعلها
فعلاً ، ذهبت لتزور صديقتها ، السلحفاة البرية ، على اليابسة .
وبدل أن أعود معه إلى المخبأ ، توقفتُ قائلة : المكان هنا آمن ، لنتجول في
الجوار .
فردّ قائلاً : كما تشائين .
وحرك زعانفه ، وسبح بهدوء إلى جانبي ، وقال : قلتِ أن لديكِ ما تحدثيني عنه
.
لذتُ بالصمت ، فابتسم ، وقال : هيا حدثيني .
سبحتُ مقتربة منه ، وقلتُ بصوت متردد : لقد حدثتك مرة عن جدي .
فقال : نعم ، حدثتني عنه ، لقد ذهب إلى أعماق المحيط ، ولم يعد .
وعلى الفور ، قلت مستدركة : لم يعد بعد .
والتفت إليّ ، وقال : جدكِ ليس صغيراً .
فقلتُ : هذا صحيح ، لكن جدتي ما زالت تنتظره ، وتقول إنه ، سيأتي حتماً .
ولاذ بالصمت ، فأضفتُ : تقول جدتي ، نحن في الأعماق المظلمة للمحيط غير
منظورين ، ربما نرى نحن ، لكن أحداً لا يرانا .
وصمتُ لحظة ، ثم قلتُ : كما نادت أعماق المحيط جدي ، ولبى النداء ، فإنها
تناديني ، ولابد أن أراها ، وأرى كائناتها الحية .
توقفتُ ، فتوقف هو الآخر ، فقلتُ : سأذهب إلى الأعماق ، وأريد أن تأتي معي
.
ورمقني بنظرة سريعة ، ثم مضى دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، إنه يفكر ، أنا
أعرفه ، ومادام يفكر في هذا الأمر ، الذي يتعلق بي ، فأنه سيوافق حتماً .
" 3 "
ـــــــــــــــــــ
جاءني صباح اليوم التالي ،
وتوقف في مدخل المخبأ ، وقال : أنتِ واثقة ، أننا سنكون غير مرئيين في أعماق
المحيط ؟
فأجبته قائلة : هذا ما أكدته جدتي لجدي .
فتساءل : وأنتِ ماذا تقولين ؟
فقلتُ له : أريد أن أهبط إلى أعماق المحيط .
وهزّ رأسه ، وقال : لن أدعكِ تهبطين وحدكِ ، هيا تعالي نهبط معاً .
وبدأنا رحلتنا نحو القاع ، ورحتُ طوال الوقت أتحدث ، وأثرثر ، لكنه قلما
كان يردّ ، ومن يدري ، ربما كان يظن أنني مجنونة مثل جدي .
ولأني أردته أن يتكلم ، التفتُ إليه ، وسألته : ماذا سنفعل إذا عدنا من
الأعماق ؟
فقال : لنعد أولاً .
وحدقتُ فيه ، وقلتُ بشيء من الحماس : سنرى الأعماق ونعود على الفور ، أريد
أن نعيش معاً ، وقد أترك مخبئي ، ونعيش في مخبئك .
وسبح إلى جانبي ، ونحن نغوص نحو الأعماق ، وقال : ليس المهم أن نعيش في
مخبئي أو مخبأك ، المهم أن نكون معاً .
آه .. لا أدري لماذا تندت عيناي بالدموع ، ولذتُ بالصمت ، وأنا أسبح على
مقربة منه ، ومعاً سبحنا نحو الأعماق البعيدة ، سبحنا دون توقف ، وكلما توغلنا في
أعماق المحيط ، رأيتُ الأضواء تخفت شيئاً فشيئاً ، حتى ساد الظلام التام .
" 4 "
ــــــــــــــــــــ
ناديته ، وأنا أتلفتُ حولي في
الظلام الدامس : هيْ ، حبيبي .
وربما شعر برعبي ، فردّ بصوت هادىء مطمئن : إنني هنا ، على مقربة منكِ .
واقتربت منه ، على هدى صوته ، وقلتُ : لنتكلم دائماً ، حتى لا يبتعد أحدنا
عن الآخر .
وهمس لي ، وهو يلامسني : جدتكِ على حق ، إننا غير مرئيين فعلاً .
وصمت لحظة ، وإذ لم أردّ عليه ، تابع قائلاً : وكذلك لا نرى أي شيء .
وتطلعتُ حولي ، ثم قلتُ : من يدري ، ربما ليس هنا ما يمكن أن نراه .
وتمتم بدون اقتناع : من يدري .
هنا انبثقت نقطة ضوء من مكان ما ، فهتفتُ بصوت خافت : انظر .
وأجابني على الفور : هذا ضوء غريب ، وسط هذه العتمة التامة .
وانبثقت من الظلام ، نقطة ضوء أخرى , تختلف عن النقطة الأولى ، فهتف بي
بصوت خافت منفعل بعض الشيء : انظري .
وقبل أن أردّ بشيء ، راحت تنبثق بالتدريج عشرات من بقع الضوء ، ووقفنا نحدق
في هذه النقاط الضوئية ، المتراقصة ، المتحركة ، ثم التفتُ إليه ، وقلتُ : انظر ،
يبدو أن هذه الأضواء تصدر من الأسماك ، التي تعيش في الأعماق .
وردّ دون أن يحول نظره عنها : حقاً إنها أسماك ، تحمل أنواراً ، ترى ما هي
فوائد هذه الأضواء للأسماك في هذه الأعماق من المحيط ؟
" 5 "
ـــــــــــــــــ
على الأضواء الخافتة ، في ظلام
الأعماق ، رأيتُ أسماكاً عجيبة ، بعضها لها عيون كبيرة جداً ، ربما لتستطيع أن ترى
على الأقل أضواء رفيقاتها ، التي تومض من بعيد .
وبمرور الوقت ، عرفت أنه ليس لكلّ الأسماك هنا أضواء ، أو عيون كبيرة ،
فبعضها لا نور فيها ، وبعضها الآخر لا عيون لها على الإطلاق ، ولابد أنها تتنقل ،
وتصطاد ، بواسطة الشم أو اللمس .
ولاحت من بعيد سمكة طويلة ، نحيلة ، لها فم كبير مرعب ، فهمستُ ، وكأني
أخشى أن تسمعني : هذه سمكة مفترسة ، مرعبة ، لنبتعد عن طريقها .
ولامسني برفق ، وهو يهمس لي : تعالي من هنا .
ابتعدنا عن تلك السمكة ، ورأيناها من بعيد ، تهاجم سمكة في حجمها تقريباً ،
وفتحت فمها على سعته ، وسرعان ما ابتلعت تلك السمكة .
وكدتُ أصطدم في الظلام بما يشبه خيط شص صياد السمك ، لولا أنه أمسك بي ،
ربما بالغريزة ، وأبعدني برفق عنه .
وهنا اقترب قريدس صغير ، ممن يعيش في الأعماق ، ولامس هذا الخيط ، وعلى
الفور انبثقت سمكة شرهة من الظلام ،
والتهمته بسرعة فائقة .
لم نكد نبتعد قليلاً ، حتى بدت في الظلام سمكة غريبة المنظر ، كأنها كلها
فم وعينان ومعدة ، تحمل على خياشيمها قضيباً في رأسه ضوء ، لابد أنها كانت تستخدمه
لجذب الأسماك الأخرى ، وتوقعها في حبائلها ، وتلتهمها .
ويبدو أن هذه السمكة ، لمحت سمكة جرذية الذيل ، فانطلقت نحوها لتلتهمها ،
لكن الأخيرة أحست بها ، فأطلقت مادة مضيئة لزجة ، من غدد موجودة في الأقسام السفلى
من جسمها ، فاختلطت تلك المادة بالماء ، وأحدثت سحابة من نور ، يبدو أنه أبهر
السمكة المهاجمة ، فلاذت السمكة الجرذية الذيل بالفرار .
" 6 "
ـــــــــــــــــــ
فجأة ، وعلى الأضواء المتذبذبة
، الصادرة من أسماك الأعماق ، لاحت السمكة الطويلة النحيلة ، بفمها الكبير البشع ،
الذي يشبه مغارة عميقة .
وتوقفت متلفتة ، وبدا لي للحظة ، أنها اكتشفت فريسة مغرية ، وقبل فوات
الأوان ، اكتشفتُ أننا نحن تلك الفريسة ، التي اكتشفتها .
وشعرتُ به يدفعني جانباً ، وهو يصيح : اهربي ، هذه السمكة تتجه نحونا ،
وستفترسنا .
وانطلقت بجنون نحو الأعلى ، أشق الظلام على غير هدى ، وقد استبد بي الرعب
الشديد ، وبعد مدة ، لم أعرف كم استغرقت ، تباطأت لا لأني تعبت فقط ، بل لأني شعرت
أن السمكة لم تعد تطاردني .
وتوقفت في الظلام ، وتلفتّ حولي منصتة ، لعلي أسمعه قادماً ، لكن دون جدوى
، فصحت بأعلى صوتي : هيْ ، أنا هنا ، أين أنت ؟
وأنصتُ ، أنصتُ ملياً ، لكني لم أسمع رداً ، وصحتُ ثانية وثالثة ، لكن دون
فائدة ، ليكن ما يكون ، ليته فقط قد نجا من تلك السمكة الطويلة المتوحشة .
وشعرتُ بتيار من الماء يهزّ جسمي ، إنها تلك السمكة اللعينة ، أو سمكة أخرى
من أسماك الأعماق ، وعلى الفور ، رحت أشق الماء إلى أعلى ، حيث الشمس والأمان ،
آملة أن يلحق بي .
وبعد أيام ، من الصعود المستمر ، بدأ ضوء الشمس يصلني عبر ماء البحر ، ورغم
حزني ، وقلقي ، وشعوري الشديد بالتعب ، تملكني الفرح .
ها قد عدتُ إلى النهار ، بعد أن عشتُ في ليل دامس أياماً طويلة ، رهيبة ،
آه ترى ماذا جرى لرفيقي ؟ المسكين ، انقاد لي ، رغم إرادته ، ورافقني إلى تلك
الأعماق الرهيبة .
لا خيار ، عدتُ إلى مخبئي ، ورحتُ أنتظره ، وبين فترة وأخرى ، رحتُ أخرج من
مخبئي ، وأتجول على امتداد الجدار المرجاني ، أو أغوص قليلاً نحو الأعماق ، لعلي
أراه قادماً ، لكن دون جدوى .
وأعود إلى مخبئي أنتظر ، مهما يكن ، لأنتظر ، إن جدتي ما زالت تنتظر ،
فلأنتظر لعل انتظاري يثمر أكثر من انتظار جدتي ، وأراه يقبل عليّ ، من أعماق
المحيط المظلمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق