البحر
بقلم: طلال حسن
السمكة الصغيرة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خرجت السمكة الصغيرة من مخبئها ،
ومضت تشق المياه نحو مجموعة من النباتات البحرية المتشابكة ، لتتناول غذاءها .
ومرت بجارتها السمكة العجوز ، التي كانت تقف في مدخل مخبئها ، فحيتها قائلة
: صباح الخير .
وتطلعت جارتها العجوز إليها بعينيها الكليلتين ، وردت قائلة : صباح النور .
ثم تساءلت بصوت شائخ : إلى أين تذهبين ، يا عزيزتي؟
فقالت السمكة الصغيرة : إنني جائعة ، سأذهب إلى تلك النباتات البحرية ،
وأتناول غذائي .
وابتسمت السمكة العجوز ، وقالت : أنت سمكة صغيرة ، تمتعي بحياتك ، هيا
اذهبي ، صحبتك السلامة .
وذهبت السمكة الصغيرة مسرعة ، فلوحت لها السمكة العجوز ، وقالت : تعالي في
أي وقت ، يا عزيزتي ، إذا احتجتني في شيء ، فأنا أحبك ، وأرتاح إليك .
أبو سيف
ـــــــــــــــــ
لم تتوغل السمكة الصغيرة بين
النباتان البحرية ، بل راحت تسبح ببطء على حافاتها ، قاضمة نتفة من هنا ، ونتفة من
هناك ، حتى كادت تشبع .
وحانت منها نظرة إلى الجهة المقابلة ، فلمحت من بعيد ، فوجاً من أسماك
الرنجة ، تسبح متراصة كأنها كتلة واحدة .
وفجأة ظهرت سمكة ضخمة ، لها سيف طويل في مقدمة رأسها ، واندفعت وسط هذه
الأسماك ، وعملت فيها سيفها يميناً ويساراً ، فمزقت أعداداً كبيرة منها ، ولاذ
الناجون بالفرار .
ومن مكانها ، رأت السمكة الصغيرة ، وقلبها يخفق رعباً ، سمكة " أبو
سيف " تأكل القليل من تلك الأسماك الممزقة ، ثم تترك الباقي ، وتمضي مبتعدة ،
لا تلوي على شيء .
القرش
ـــــــــــــــ
تركت السمكة الصغيرة النباتات
البحرية ، رغم أنها لم تشبع بعد ، وقفلت راجعة إلى مخبئها ، ولاحت على البعد
مجموعة من الأسماك الصغيرة ، تسبح معاً في هدوء واطمئنان .
وأرادت السمكة الصغيرة أن تسرع نحوها ، وتحذرها من " أبو سيف " ،
وما يمكن أن يلحق بها ، لو ظهر ثانية ، واندفع وسطها بسيفه الطويل الرهيب .
وبدل " أبو سيف " ظهر قرش طويل ، ضخم ، أخذ يهاجم الأسماك
الصغيرة ، ضارباً إياها بذيله في عنف ، حتى صعقها ، وراح يلتهمها مجموعة بعد
مجموعة .
الإخطبوط
ـــــــــــــــــــــــ
مضت السمكة الصغيرة ، تشق المياه
مسرعة نحو مخبئها ، فقد ضاق صدرها بما رأت من العنف والمجازر .
ومن بعيد ، رأت سلطعوناً يخرج من بين الأعشاب البحرية ، ويسير ببطء وحذر في
قاع البحر ، وفتحت فمها ، وهمت أن تهتف به ، وتحذره من " أبو سيف "
والقرش ، لكنها وقفت مترددة ، ثم لاذت بالصمت ، لقد خشيت أن يسمعها " أبو سيف
" أو القرش ، أو أي كائن متوحش مثلهما ، ويفتك بها .
ولم يطل صمتها ، فقد تغلبت على ترددها ، وهتفت محذرة : أيها السلطعون ..
وقبل أن تكمل هتافها ، اندفع إخطبوط من بين الصخور ، وانقض على السلطعون ،
ناشراً حوله أذرعه الثمانية ، وقبض عليه بمنقاره ، وحمله مسرعاً إلى مخبئه .
الحوت القاتل
ـــــــــــــــــــــــــ
جمدت السمكة الصغيرة في مكانها ،
وقد شلها ما رأت ، وتلفتت متسائلة : ما العمل ؟
وتذكرت جارتها السمكة العجوز ، فقررت أن تذهب أليها ، وتبثها همومها ، وهنا
ارتج الماء بعنف ، وأقبل كائن ضخم يشبه الدولفين ، وأخذ يحوم حولها ، فصاحت متوسلة
: أرجوك ، لا تأكلني ، إنني ـ كما ترى ـ سمكة صغيرة جداً .
وتوقف الكائن الضخم على مقربة منها ، وقال : اطمئني ، إنني حوت رضيع ،
وغذائي هو حليب أمي .
وسكت لحظة محدقاً فيها ، ثم قال : أراك حزينة ، خائفة ، ما الأمر ؟
فردت السمكة الصغيرة قائلة : خرجت اليوم من مخبئي لأتناول طعامي ، فرأيت
الأهوال من كائنات بحرية مثل " أبوسيف " والقرش والإخطبوط .
وحكت بالتفصيل ما رأت ، فاحتد الحوت الصغير ، وقال غاضباً : الويل للقتلة ،
أعدك بأني سأقتلهم جميعاً حين أكبر .
وتناهى صوت من بعيد ، فانطلق الحوت الصغير ، وهو يقول : هذه أمي ، إنها
تناديني ، إلى اللقاء .
السمكة العجوز
ـــــــــــــــــــــــــــ
أسرعت السمكة الصغيرة إلى جارتها
السمكة العجوز ، وقد أراحها قليلاً ما وعدها به الحوت الصغير ، وحدثتها عن "
أبوسيف " والقرش والأخطبوط ، وكذلك الحوت الصغير ، ووعده له بالانتقام من
أولئك القتلة ، فقالت السمكة العجوز : صفي لي ، يا بنيتي ، هذا الحوت المنقذ .
لم ترتح السمكة الصغيرة لنبرة صوتها ، لكنها قالت : إنه حوت جميل ، طيب ،
يشبه الدولفين ، له لونان أسود وأبيض .
وهزت السمكة العجوز رأسها ، فصمتت السمكة الصغيرة ، ثم تساءلت : ما الأمر ؟
فردت السمكة العجوز قائلة : بنيتي ، هذا الحوت الجميل ، الطيب ، هو ..
الحوت القاتل .
وتمتمت السمكة الصغيرة : الحوت القاتل !
وتابعت السمكة العجوز قائلة : وهو أكثر قتلة البحار قوة ، وشراسة ، ودموية
، تخافه حتى الحيتان الضخمة القوية .
وأطرقت السمكة الصغيرة رأسها ، وقد استبد بها الحزن واليأس ، فاقتربت منها
جارتها السمك العجوز ، وأشارت إلى ما حولها ، وقالت بصوت هادىء : عزيزتي ، أنظري .
ونظرت السمكة الصغيرة حولها ، دون أن تتفوه بكلمة ، فتساءلت السمكة العجوز
: ماذا ترين ؟
لم تجب السمكة الصغيرة ، فتابعت السمكة العجوز قائلة : أسماك كثيرة وكائنات
مختلفة ، ونباتات كثيفة ومتنوعة ، وقواقع ، ومرجان ، ورمال ، وصخور .. و .. و ..
صحيح هناك أبو سيف والقرش والإخطبوط والحوت القاتل وغيرهم كثيرون ، لكن الحياة
أقوى منهم .. ولهذا فأنها مستمرة ، وستبقى مستمرة ، وسنبقى نحن أيضاً ، مهما كنا
صغاراً ، إذا التزمنا الحذر .
السمكة الصغيرة
ـــــــــــــــــــــــــــ
في اليوم التالي ، خرجت السمكة
الصغيرة من مخبئها مبكرة ، ومضت تشق المياه نحو مجموعة من النباتات البحرية
المتشابكة ، لتتناول غذاءها .
ومرت بجارتها السمكة العجوز ، التي كانت تقف كالعادة في مدخل مخبئها ،
فحيتها قائلة : صباح الخير .
وتطلعت إليها السمكة العجوز مبتسمة ، وقالت : صباح النور ، تذكري ما قلته
لك .
واندفعت السمكة الصغيرة فرحة ، نحو النباتات البحرية ، وهي تلوح للسمكة
العجوز ، وتقول : لن أنساه ، يا جدتي ، لن أنساه ، إلى اللقاء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق