حكاية
طائر النوم
هشام علوان
كَانَتْ جَدّتِي تَتَفَقَدُ حُجْرَتَي كُلَّ
لَيّلَةٍ ، و
تَنْدَهِشُ حِينَ تَرَانِي مُسْتَيّقِظَاً ، فَتَقْتَرِبُ مِنْ
سَرِيرِي و تَنْظُرُ
لِي ، فَتَلْمَعُ عَيّني لِبَصِيصِ الْنُورِ الْقَادِمِ مِنْ
الْصَالَةِ ،
فَتَعْرِفُ أنَّ الْنَوْمَ قَدْ جَفَانِي .. تَجْلِسُ جَدّتِي
عَلَى حَافَةِ
الْسَرِيرِ ، و تَضَعُ يَدَهَا عَلَى صَدْرِي ، و هِي تَقُولُ :
-
هَلْ تَعْرِفُ حِكَايَةَ طَائرِ الْنَوْمِ ؟!
و قَبْلَ أنْ أُجِيبَ ، تَنْطَلِقُ جَدّتِي
في الْحَكْي الْجَمِيلِ :
ـ يُحْكَى أنَّ جَزِيرَةً هُنَاكَ في الْبِلادِ
الْبَعِيدَةِ ، تُسَّمَى : جَزِيرَةُ الْنَوْمِ ، يَحْكُمُهَا سُلْطَانٌ مُهَابٌ
بَيْنَ الْمُلُوكِ و الأمَرَاءِ ، اسْمُه : سُلْطَانُ الْنَوْمِ !
و سُلْطَانُ الْنَوْمِ هَذَا هُوَ الْمَسْئولُ عَنْ
نَوْمِ جَمِيعِ الْكَائنَاتِ في الأرْضِ .. فَحِينَ يَجِئُ اللْيَلُ ، و
يَعُمَّ الْهُدُوءُ يُرْسِلُ سُلْطَانُ الْنَوْمِ طَائرَهُ الْشَفِيفِ ، الذْي يُرَفْرِفُ حَوْلَ الْبُلْدَانِ ، ثُمَّ يَدْخُلُ
مُتَسَلِلاً ، رُوَيّدَاً
.. رُوَيّدَاً إلى عُيونِ الْنَاسِ الْمُتْعَبَةِ ، مِنْ
الْعَمَلِ طُولَ
الْنَهَارِ .. فَتَسْتَسْلِمُ لَه الْعَيْنَانِ في فَرَحٍ ، و
يَرُوحُ الْنَاسُ في
سُبَاتٍ عَمِيقٍ ..
ولِذَا يَقُولُ الْنَاسُ :
- إنَّ
للْنَوْمِ سُلْطَانَاً !
ثُمَّ تَغَيّرَتْ الْكَلِمَةُ بِمُرورِ الْسِنِينِ
، لِتُصْبِحَ فِيمَا بَعْدُ
:
- الْنَوْمُ سُلْطَانٌ !
و الْمَقْصُودُ بها أنَّ الْنَوْمَ إذا حَضَرَ طَائِرَه
الْشَفِيفِ الْوَدِيعِ ، الْذَي يُرَفْرِفُ حَوْلَ رَأسِكَ الآن فَلابد أنْ
تَسْتَسْلِمَ لَه الْعَينَانِ كَمَا لو كَانَ سُلْطَانَاً مُهَابَاً يَأمرُ
فَيُطَاعُ !
أمّا إذا كَانَ هُنَاكَ صَخَبٌ و ضَجِيجٌ ، مِثْلَمَا
يَفْعَلُ أمْجَدُ أخُوكَ حِيْنَ يَعُودُ مِنْ الْمَدْرَسَةِ كُلَّ يَوْمٍ ،
فَيَصْرخُ مِنْ بِئرِ الْسُلّمِ ، وتُقَلّدُه
الْجَدّة ُ :
-
أمُي .. لَقَدْ عُدْتُ ..
ثُمَّ يَصْعَدُ دَرَجَاتِ الْسُلّمِ ، و هُوَ
يَرْكُلُ كُلَّ سَلاّتِ الْمُهْمَلاتِ الْمَوْجُودَةِ أمَامَ شُقَقِ الْجِيَرانِ
مُحْدِثَاً ضَجّةً كُبْرَى
.
و كَذَلِك حِيْنَ تَجْلِسُ أخْتُكَ فَاتِنُ
كُلَّ ظَهِيرَةٍ لِتَسْتَمِعَ لِمُوسِيقَى صَاخِبَةٍ و مُزْعِجَةٍ مِنْ جِهَازِ
الْتَسْجِيلِ الْخَاصِ بها ( و تُحَاكِي الْجَدّةُ صَوْتَ الْمُوسِيقَى :
_ بُومْ .. طَاخْ ..
بُومْ .. طِرَخْ !
دُونَ أدْنى اعْتِبَارٍ لِوُجُودِ آخَرِينَ مَعَهَا في
نَفْسِ الْبَيتِ
!
و أنْتَ أيّضَاً يَا مَاهِرُ حِيْنَ تُشَاهِدُ
مُبَارَيَاتِ كُرَةَ الْقَدَمِ في الْتِلْفَازِ ، و تَأخُذُكَ الْحَمَاسَةُ دُونَ
أنْ تَدْرِي، فَتَصِيحُ بِأعْلَى صَوْتِكَ :
-
ضَرْبَةُ جَزَاءٍ .. هَدَفٌ .. هَدَفٌ .. يَا سَلام
.. يَا وَلَد ..
فَمَاذَا تَتَخَيّلُ أنْ يَحْدُثَ بَعْدَ هَذِهِ
الْضَجّةُ ، و هَذَا الإزْعَاجُ ؟!
بِالْطَبْعِ .. فَإنَّ طَائرَ الْنَوْمِ
الْشَفِيفِ الْوَدِيعِ ، سَوْفَ يَفْزَعُ و يَهْرَبُ إلى حَيْثُ الْهُدُوءِ
و الْسَكِينَةِ ، و رُبّمَا يَغْضَبُ
مِنْكَ كَمَا فَعَلَ الآنَ ، و لا يَأتي
لِزِيَارَةِ مَنْزِلِنَا الْمُزْعِجِ ، فَلا نَسْتَطِيعُ الْنَوْمَ ، و لا
الْرَاحَةَ ، و نَقُولُ سَاعَتَها :
- طَارَ الْنَوْمُ مِنْ
عُيونِنَا
!
* * *
في تِلْكَ الْلَحْظَةِ
كَانَتْ جَدّتي تَعْبَثُ بِأنَامِلِهَا الْرَقِيقَةِ في شَعْرِي ، و
هَي تَحْكِي لي حِكَايَاتِها الْجَمِيلَةَ عَنْ الْنَوْمِ و طَائرَه الْشَفِيفِ الْوَدِيعِ ، فَأرَاهُ يُحَوّمُ حَوْلَ رَأسِي ، و
كَأنَّه يُصْغِي لِحِكَايَاتِ
جَدّتي
الْشَائقَةِ ، ثُمَّ يَتَسَلَلُ رُوَيّدَاً .. رُوَيّدَاً ، و يَحُطُ بِرِفْقٍ شَدِيدٍ عَلَى جِفُوني الْمُتْعَبَةِ ،
فَتَنْغَلِقُ الْعَيّنَانِ بِهُدُوءٍ عَلَى طَائرِ
الْنَوْمِ الْعَجِيبِ !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق