بائع
الدمى
بقلم: د. رافع يحيىفي مَخْزَنٍ صَغيرٍ بَيْنَ الأَشْجارِ الْخَضْراءِ الْكَبيرَةِ، كانَتْ الدُّمْيَة الصَّغيرَةُ رَوان تَنامُ عَلى سَريرِها الزَّهْرِيِّ الدّافِئِ، وَكانَت كُلَّما تَسْتَقْظِ ُمِنْ نَوْمِها تَسْأَلُ نَفْسَها: هَلْ هُناكَ مَنْ يَشْبِهُني خارِجَ الْمَخْزَنِ؟! لِماذا أَنا هُنا؟! مَنْ وَضَعَنِي فِي هَذا الْمَخْزَنِ المُظْلِمِ؟! أَيْنَ قَدَمي الثّانِيَةُ؟! لِماذا لا يوج َدُ لي إِلا قَدَمٌ واحِدَةٌ؟! كَيْفَ سَأَخْرُجُ مِنْ هُنا بِقَدَمٍ وَاحِدَةٍ؟! ما هذِهِ الأَصْواتُ الَّتي أَسْمَعُها خارِجَ الْمَخْزَنِ؟!
نَظَرَتْ رَوان ذاتَ صَباحٍ إِلى الْنافِذَةِ، فَرَأَتِ الشَّمْسَ مُشْرِقَةً. تَشَجَّعَتْ لِلْخُروجِ مِنَ الْمَخْزَنِ الْمُظْلِمِ، وَقالَتْ: لَقَدْ مَلَلْتُ الظُّلْمَةَ، لَقَدْ سَئِمْتُ الْوِحْدَةَ! يَجِبُ أَنْ أَجِدَ قَدمي، لا بُدَّ أَنْ أَرَى مَاذا يوجَدُ خارِجَ هذا الْمَخْزَنِ الْمُظْلِمِ.
رَأَتْ عَصًا مُلْقاةً في الْمَخْزَنِ، حَمَلَتْها فَفَكَّرَتْ بِالاتِّكاءِ عَلَيْها عِوَضًا عَنْ قَدَمِها. وَصَلَتْ إِلى الْبابِ، وَلَمّا فَتَحَتْهُ رَأتِ الشَّمْسَ تُداعِبُ الزُّهورَ الْمُتَفَتِّحَةَ بِنورِها الدّافِئِ، وَالأَطْفالَ الصِّغارَ يَلْعَبونَ وَيَعْدونَ مَعَ الْكِلابِ وَالْقِطَطِ عَلى طَرَفِ الطَّريقِ. فَصاحَتْ بِفَرَحٍ: ما أَجْمَلَ الدُّنْيا!!
رَآها سِنْجابٌ صَغيرٌ، فَسَأَلَها: أَيْنَ أَنْتِ ذاهِبَةٌ أَيَّتُها الدُّمْيَةُ الصَّغيرَةُ؟ خُذيني مَعَكِ...
قَالَتْ لَهُ رَوان: أَنا ذاهِبَةٌ لِلْبَحْثِ عَنْ قَدَمي، هَلْ بِإِمْكانِكَ مُساعَدَتي؟
أَجابَها السِّنْجابُ: بِالطَّبْعِ أَسْتَطيعُ مُساعَدَتَكِ. سَأَدُلُّكِ عَلى بائِع الدُّمى، إِنَّهُ في الْمَدينَةِ، وَهُوَ بِالتَّأْكيدِ سَيُساعِدُكِ، إِنَّهُ عَجوزٌ طيِّبُ الْقَلْبِ.
سارَتْ رَوان وَالسِّنْجابُ بِمُحاذاةِ النَّهْرِ في طَريقِهِما إِلى الْمَدينَةِ.
كانَ السِّنْجابُ سَعيداً بِاْلقَفْزِ عَلى أَغْصانِ الأَشْجارِ وأَكْلِ الثِّمارِ الشَّهِيَّةِ. نادَتْهُ رَوان، وَقالَتْ لَهُ: أَيْنَ أَنْتَ يا سَنْجوب؟ لَقَدْ تَعِبْتُ! قالَ لَها سَنْجوب: اُنْظُري أَمامَكِ جَيِّداً، سَتَرَيْنَ الْمَدينَةَ. هَلْ تُريدينَ الاسْتِراحَةَ أَمِ الْوُصولَ إِلى الْمَدينَةِ بِسُرِعَةٍ؟!
قَالَتْ لَهُ رَوان: لا.. لا.. لَقَدْ تَعِبْتُ، أُريدُ أَنْ أَسْتَريحَ قَليلاً...
جَلَسَتْ رَوان قُرْبَ النَّهْرِ، رَشَّتِ الْماءَ عَلى وَجْهِها، بَلَّلَتْ قَدَمَها بِمِياهِ النَّهْرِ الْبارِدَةِ، وَقالَتْ: ما أَجْمَلَ النَّهْرَ! إِنَّهُ سَعيدٌ مَعَ أَنَّهُ يَسيرُ دونَ أَقْدامٍ!
وَبَيْنَما كانَتْ رَوان تَجْلِسُ عَلى الْعُشْبِ الأَخْضَرِ قُرْبَ النَّهْرِ، خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ الصُّخور سُلَحْفاةٌ ضَخْمَةٌ. خافَتْ مِنْها رَوان كَثيراً. قالَتْ لَها السُّلَحْفاةُ: لا تَخافي! أَنا أُحِبُّ الأَطْفالَ. ثُمَّ جَلَسَتْ قُرْبَها عَلى الْعُشْبِ الأَخْضَرِ، وَسَأَلَتْها: إِلى أَيْنَ أَنْتِ ذاهِبَةٌ أَيَّتُها الدُّمْيَةُ اللَّطيفَةُ؟ أَجابَتْها رَوان: أَنا ذاهِبَةٌ إِلى الْمَدينَةِ لِلْحُصولِ عَلى قَدَمٍ مِنْ حانُوتِ الدُّمى.
رَدَّتْ عَلَيها السُّلَحْفاةُ: هَلْ تَعْرِفينَ يا رَوان أَنَّ خَلْفَ جداً... كُلَّما أَراهُمْ أَشْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَأَتَمَنّى لَوْ أَنّي أَسْتَطيعُ مُساعَدَتَهمْ! إِنَّهُمْ يَرْكَبونَ عَلى قَوْقَعَتي وَأَنْقُلُهُمْ مِنْ مَكانٍ لآخَرَ.
قالَتْ رَوان: أَنا أَكْرَهُ الْحَرْبَ، وَسَأَذْهَبُ لِمُساعَدَتَهمْ بَعْدَ أَنْ أَحْصُلَ عَلى قَدَمٍ جَديدَةٍ.
لَكِنَّهُمْ مِثْلُكِ حُرْموا مِنْ أَقْدامِهِمْ بِسَبَبِ الْحَرْبِ اللَّعينَةِ. أَنا أُحِبُّهُمْ جِداً... كُلَّمَا أَراهُمْ أَشْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَأَتَمَنّى لَوْ أَنّي أَسْتَطِيعُ مُساعَدَتَهُم! إِنَّهُمْ يَرْكَبونَ عَلى قَوْقَعَتي وَأَنْقُلُهُمْ مِنْ مَكانٍ لآخَرَ.
قالَتْ رَوان: أَنا أَكْرَهُ الْحَرْبَ، وَسَأَذْهَبُ لِمُساعَدَتَهُمْ بَعْدَ أَنْ أَحْصُلَ عَلى قَدَمٍ جَديدَةٍ.
رَدَّتْ عَلَيٍْها السُّلَحْفاةُ: عَظيمٌ عَظيمٌ!! أَنْتِ دُمْيَةٌ طَيِّبَةٌ سَأُساعِدُكِ لِلْوُصولِ إِلى بائِعِ الدُّمى.
هَيّا ارْكَبي عَلى قَوْقَعَتِي، سَأُرَيِّحُكِ مِنَ الْمَشِي كَيْ لا تَتْعَبي.
فَرِحَتْ رَوان وَرَكِبَتْ مَعَ سَنْجوب عَلى قَوْقَعَةِ السُّلَحْفاةِ، وَسافَروا مَعًا إِلى حانوتِ الدُّمى.
وَصَلَتِ السُّلَحْفَاةُ وَرَوان وَسَنْجوب إِلى حانوتِ بائِعِ الدُّمى، دَخَلوا إِلى الْحانوتِ، فَقالَ الرَّجُلُ الْعَجوزُ: أَهْلاً وَسَهْلاً بِكُمْ، كَيْفَ يُمْكِنُنِي مُساعَدَتِكُمْ؟ قالَتْ رَوان: أُريدُ قَدَمًا كَي أَسْتَطيعَ السَّيْرَ، لأَنَّنِي لا أَمْلِكُ إِلاّ قَدَمًا واحِدَةً!
ضَحِكَ الْعَجوزُ: لِدَيَّ قَدَمٌ جَميلَةٌ مُناسِبَةٌ لَكِ تَمامًا. اِنْتَظِري لَحْظَةً لَوْ سَمَحْتِ.
عادَ الرَّجُلُ الْعَجوزُ مِنْ خَلْفِ رُفوفِ الحانوتِ وَبِيَدِهِ قَدَمٌ جَميلَةٌ. جَلَسَتْ رَوان عَلى الْكُرْسِيِّ كَيْ يُرَكِّبَ لَها الْبائِعُ قَدَمَها الْجَديدَةَ، وَلَمّا انْتَهى مِنْ تَرْكيبِها، قَفَزَتْ رَوان فَرِحَةً. أَنا أَسيرُ عَلى قَدَمَيْنِ، أَنا أَسيرُ عَلى قَدَمَيْنِ! شُكْرًا لَكَ أَيُّها الْبائِعُ الطَّيِّبُ. فَرِحَ سَنْجوب وَالسَّلَحْفاةُ، لأَنَّ رَوان تَرْقُصُ كَالْعَرائِسِ فَرِحَةً بِقَدَمِها الْجَديدَةِ!
أَخْبَرَتْ رَوان الْبَائِعَ أَنَّها سَتُسافِرُ إِلى مَدينَةَ السُّكَّرِ لِمُساعَدَةِ أَطْفالِ الْمَدينَةِ الّذينَ فَقَدوا أَقْدامَهُمْ أَثْناءَ الْحَرْبِ. قَالَ الْبائِعُ: وَأَنا أُحِبُّهُمْ كَثيراً، سَآتي مَعَكُمْ لِمُساعَدَتِهمْ، سَأُحْضِرُ مَعي أَلْعابًا كَثيرَةً لأُهْدِيَها لَهُمْ، إِنَّهُمْ يُحِبّونَ الأَلْعابَ، وَسَأُرَكِّبُ لَهُمْ أَقْدامًا جَديدَةً، تَعالوا... تَعالوا نَرْكَبُ في مِنْطادي الْمُلَوَّنِ، إِنَّهُ قَويٌّ وَسَريعٌ، وَيُحَلِّقُ كالْعَصافيرِ. هَيّا... هَيّا تَعالوا نَمْلأُ الصُّنْدوقَ بِالأَلْعابِ. ضَحِكَ الأَصْدِقاءُ فَرِحينَ، ثُمَّ رَكِبوا الْمِنْطادَ، وَحَلَّقوا إِلى مَدينَةِ السُّكَّرِ...
حَلَّقَ الْمِنْطادُ في السَّماءِ الزرْقاءِ. شَاهَدَ الأَصْدِقاءُ الْجِبالَ وَالسُّهولَ وَالتِّلالَ وَالْبُيوتَ الصَّغيرَةَ، وَلَمّا اقْتَرَبَ الْمِنْطادُ مِنْ مَدينَةِ السُّكَّرِ، بَدَأَ بِالْهُبوطِ حَتّى اسْتَقَرَّ فِي ساحَةٍ مِنْ ساحاتِها الْكَبيرَةِ.
كانَتِ الشَّوارِعُ خالِيَةً مِنَ الأَطْفالِ، فَقَالَتْ رَوان: يا إِلهي، إِنَّ مُعْظَمَ الْبُيوتِ مُهَدَّمَةٌ، ماذا حَلَّ بِالأَطْفالِ؟! أَيْنَ ذَهَبوا؟! أَسْرَعَ بائِعُ الدُّمى إِلى بوقِ الْمِنْطادِ، ضَغَطَ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَتْ مِنْهُ موسيقى جَميلةٌ.
سَمِعَ الأَطْفالُ أَلْحانَ الْموسيقى، فَخَرَجوا مِنَ الأَزِقَّةِ وَالْحاراتِ وَاْلبُيوتِ فَرِحينَ غَيْرَ خائِفينَ، وَهُمْ يَتَكِئونَ عَلى عِصِيٍّ خَشَبِيَّةٍ، وَتَجَمْهَروا حَوْلَ الْمِنْطادِ. اِقْتَرَبَ بائِعُ الدُّمى مِنْهُمْ وَبَدَأَ يُرَكِّبُ لَهُمْ أَقْدامًا اصْتِناعِيَّةً، ثُمَّ أَهْداهُمُ الأَلْعابَ، فَرِحوا كَثيراً بِها، وَلَعِبَ مَعَهُمْ سَنْجوب وَالسُّلَحْفاةُ وَرَوان.
وَما أَنْهى بائِعُ الدُّمى عَمَلَهُ، حَتّى رَكَضَتْ رَوان نَحْوَ الْبَحْرِ وَهِي تَهْتِفُ: تَعالوا نَزورُ الْبَحْرَ الْجَميلَ... أُعْجِبَ الْجَميعُ بِالْفِكْرةِ، فَرَكَضوا فَرِحينَ إِلى هُناكَ لِيَلْعَبوا وَيَبْنوا بُيوتًا صَغيرَةً مِنَ الرِّمالِ عَلى الشّاطِئِ الْكَبيرِ...
سلسلة((براعم الزيتون)) أدب أطفال/سن 3-8 تأليف: د. رافع يحي رسم: لؤي دوخي
الناشر: ((مكتبة كل شيء)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق