خطوط
العمر..
" مهداة إلى حفيدى أنس .."
محمد عبده العباسي
شكوت لجدى عمر مابى من ضيق صدر بسبب حرارة الجو فى الخليج وشدة قيظ الشمس .
غضب أبى .
ضمتنى أمى لصدرها وهي تودعني في المطار .
كان قلبها يرتج . عدت مع جدي وغادرنا صالة المطار .
كانت الدموع ساخنة فى عينى أمى .
شعرت ببرودة قاسية تنبعث من أنحاء الصالة المكيفة الهواء .
فى حنو بالغ ضمني جدي لصدره فشعرت بدفء جميل . ملاذ آمن لجأت إليه . طارت الطائرة متجهة نحو الشرق .
صورة أبي وهو يهرول نحو الطائرة . أمي تلحق به .
شعرت بقهر شديد يلوكني بين أضراسه .
لم تزل يد أمي عالقة في الهواء ترفرف بجناحيها كحمامة بيضاء خففت عني قسوة اللحظة .
مازالت قرقعة أختام ضابط الجوازات علي صفحات وثائق السفر وهو ينهي الإجراءات تصك مسامعي مثل أجراس عملاقة . زاد وقعها كالمطارق كأنها تطحن عظامي . طار عقلى لكنني تماسكت ولم أبك .
جدى جندي سابق حارب في اكتوبر وشارك في تحقيق النصر . علي جدار بيته أوسمة ونياشين وصور مع القادة والضباط .
جدتي كنسمة صباحية رقيقة ومدهشة تضفي علّي وجهها المشرق سعادة لا تُضاهي . تبارك افعالي وتحنو علي .
ملكة كإسمها .
أنفق كل مايملك من مال لشراء هذا البيت المطل على البحر . تلك هي رغبته كما قال :
ـ أحب البحر .
غرس حبه فى نفسى . يعود ابي وامي كل صيف . يقضيا معنا شهوره . نصطاف فى مصيف آخر حسب رغبة أبى الذى أقنع جدى بضرورة التغيير . يهتم جدى بتدريبى على السباحة في البحر . ينشغل أبى بالرد على هاتفه الخلوى الذى لا يكف عن الرنين وهو يبث أغنية فيروز " نسم علينا الهوا " .
يعلن بعدها اعتزامه السفر للعاصمة فى اليوم التالى :
ـ لتأكيد الحجز .
شئ شاق ومرهق .ثم يكمل :
ـ أمر تعودت عليه .
يسافر أبي .
أبدأ أنا عامى الدراسى الجديد .
يصطحبنى جدى كل صباح حتى باب المدرسة . يذهب ليشتري الصحف كالعادة . يتناول الفطور مع جدتى . يعود عند الظهيرة لإنتظارى عند باب المدرسة ثم نرجع إلى البيت . تنتظرنا جدتى ملكة في بهجة كانها ترأنا للمرة الأولى . نتناول الغداء . ننام قليلاً . أقضى مع جدى أوقات المذاكرة يشرح لى ماغمض على من الدروس ، ثم أقرأ القصص التى أحضرها لى أو نرسم على الورق ثم يعلمنى كيف أرسم الحروف مقلداً إياه وهو يكتب الخط العربى بعناية فائقة .
كثيراً مايجلس جدى فى الشرفة وحيداً مطلاً بنظراته على البحر المتوسط يتأمل السماء والنوارس وينتظر موعد الصلاة ثم يعود لقراءة صحفه اليومية أو يطالع كتاباً . ثم يرهف السمع لصوت الشيخ محمد رفعت ـ حبيبه كما يقول ـ وهو يقرأ سورة الرحمن . مؤخراً اقلع جدى عن التدخين لاعناً الظروف التى ألجأته يوماً لممارستها :
ـ كانت أيام .
ثم يبتسم . أتبادل معه حواراً مطولاً. أسأله وهو يرشف من فنجان القهوة :
ـ لم يعد هاتفك المحمول يدق مثلما كان فى السابق .
يدعك عينيه برفق ويضمنى إلى صدره متنهداً :
ـ هذا هو حال الدنيا .
يبتسم وأنا أتذكر بشراً بلا حصر كانوا يأتون لزيارته . يلاطفوننى ويقدمون لى قطع الشيكولاتة اللذيذة . يستشيرونه وهم يثنون علي عبقريته . محادثة من هاتفه تفتح لهم الأبواب المغلقة . الآن لا أحد يسأل عنه أو يذكره . قال :
ـ يكفينى أن تكون بجوارى .
ألتصق بباب الغرفة كما أمرني .
يمسح على رأسى بحنو بالغ :
ـ اثبت ، احبس أنفاسك .
أثبت فى مكانى وأمتثل للأمر . يمسك بإصبع الطباشير الملون فيرسم خطاً أفقياً بمحاذاة رأسى . يضحك عالياً :
ـ زدت هذا العام طولاً عن العام الماضى .
اذكرهذا لأبيك .
تعد جدتى تورتة عيد ميلادى السابع فى وسطها الرقم ِ7" " :
ـ فى العام القادم ستكون تلميذا فى الصف الثالث .
قال جدى :
ـ فى العام القادم ذكرنى بعيد ميلادك مبكراً.
وأشار لمكتبته الضخمة :
ـ هذا ميراثى . مكتبة تحوى كتباً قيمة .
وأكمل :
ـ وتلك الصناديق المغلقة فيها ثروة لا تقدر بثمن . أقلام ثمينة اشتريتها من كل بقاع الدنيا .
أمزج الألوان بفرشاتى .
يأمرنى : ارسم شمساً ونهاراً وسماءً زرقاء . أرسم قمراً منيراً وليلاً جميلاً . أرسم بحراً وسفناً تمخر عبابه وأسماكاً في أعماقه . أرسم شجراً وثماراً ومروجاً . أرسم أنهاراً وحقولاً وحيوانات .
يثنى على الرسم :
ـ رائع . سأدعو أصحابى لزيارة معرضك الجميل .
أهز رأسى مزهواً متباهياً بشهادته ثم أضحك وأرأه يلتقط حبات الكرز ليطعمنى إياها . يشير إلى جهة الأفق :
ـ هناك سحابة رمادية تنبئ بمطرسينهمر بعد قليل .
يسكن جدى داخل معطف ثمين ويدس رجليه فى جوربين وينفخ فى قبضتيه .
يسأل :
ـ هل تشعر بالبرد ؟.
ثم يبتسم .
يمسك قلماً وفى تأن بالغ يخط آية قرآنية بخط الثلث :
ـ سأعلمك كتابة الخط .
ويرسم الحروف :
ـ الُثلث هو سيد الخطوط العربية جميعاً .
أحاول فك طلاسم الحروف المتداخلة . أراقبه حتى ينتهى :
ـ مارأيك ؟
تتوالى السنوات .
جدى يشير على خطوط الطباشير التى يرسمها على الحائط :
ـ قامتك زادت طولاً . فى القريب ستصبح رجلاً .
بعد قدوم أبى من سفره الأخير . جاء رجال طوال القامة و أمسكوا بفرشات ضخمة وراحوا يبدلون كل ألوان البيت . الجدران . النوافذ . الأبواب . غطوا خطوط الطباشير الأفقية التى كنت أحفظ عددها . كدت أصرخ فيهم . بعدها أراد جدى أن يرسم خطاً جديداً .
قال أبى :
ـ لا . الخطوط ستشوه الجدران .
حزنت .
حاول أبى تلطيف الأمر بوعد جديد قطعه على نفسه :
ـ سنذهب فى الصباح إلى الشاطئ.
استسلمت لأمرجدى دون أن يرانا أبى . أمسك بالطباشير .حاول رسم خط أفقي فلم يستطع . لم يعد قادراً علي أن يبلغ طول قامتي . هل قصر قليلاً ؟ سألت نفسي . جاء بكرسى وقف عليه . أخشى أن يسقط من فوقه . لأول مرة وعن قرب رأيت خطوطاً أفقية مرسومة على جبهة جدي . قال لى حين سألته :
ـ هذه خطوط العمر .
مرض جدى وعاده الأطباء .
جدتى تربت علي كتفه وهو ممد في الفراش .
نحل جسده وأضحى مثل عود من حطب جاف .
قال وشفتاه ترتعشان :
ـ لا تنس وصاياى .
وبينما تلقم جدتى كفه بقرص العلاج . كانت يده تشيرعلى الآية الكريمة التى أتم كتابتها قبل أيام :
" كل نفس ذائقة الموت ".
انبعث من جواره صوت الشيخ محمد رفعت من الراديو الصغير الذي ظل يحتفظ به منذ زمن طويل .
تفصدت حبات عرق كاللؤلؤ المكنون علي جبهته احتوتها خطوط العمر برفق.
أغمض جدي عينيه وهو يردد الشهادة التى لقنها له أبى .
و......
*بورسعيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق