الطفل قريبا من القصة والشعر بعيدا عن المسرح والسينما ..!*
ليلى البلوشي
حكت لي مرة صديقة وهي تعمل في مجال التدريس أن بعض مدارس اليابان تقود الأطفال إلى غرفة كبيرة في كل ناحية من نواحيها أشياء مختلفة تحاكي مواهب عديدة ، وحين يدخل الأطفال إلى اللغرفة الكبيرة كل منهم يسير من تلقاء نفسه إلى الأشياء التي يحب التعاطي معها ،
منهم من توجه صوب الأجهزة الالكترونية المحطمة وعكف على اصلاحها ومنهم من توجه إلى حوض استحمام وغطس فيها سابحا وآخرون تناثروا هنا وهناك كل مع موهبة قريبة من روحه..
كهذه الأفكار المصبوغة بالفكر الياباني الخلاّق غريبة عن مجتمعاتنا ؛ فمن خليجنا إلى محيطنا هناك فنّان متوحدان يكادان يختصرا عالم الطفل
كله ॥ هذان الفنّان هما القصة القصيرة والشعر .. و القصة القصيرة مصدر أدبي تثقيفي مهم جدا للطفل من أجل تنمية جوانب السرد لديه ، ويشكل جنيا إلى جنب مع الشعر ثنائيا محببا لقلوب الأطفال ॥ ولكن ما الذي جعلهما يحتلان الصدارة كمصادر تثقيفية في واجهة أدب الطفل ..؟!
ومن المهم الإشارة هنا إلى أن القصة في بعض الأحيان تحل محل الكتاب المدرسي الذي يرفّه عن الطفل ، بل هو المهرب الوحيد المتوفر أمامه ليعدها وسيلة تسليته بموافقة الآباء ؛ فهم يطمحون بأن يكون أطفالهم على درجة من الذكاء ، وعلى قدر من المعرفة والثقافة .। وهم على إدراك تام أن ذلك لن يتأتى إلا من خلال توفير قدر من الثقافة المتوفرة لتحقيق هذا الأمل المرجو ، لهذا تكون القصص المنشورة هي بديل يقدمه الكبار لصغارهم من أجل تثقيفهم ، فبما أن الطفل يهرب من كتبه المدرسية ، إذن لا حل في رفع مستواه الفكري سوى من خلال ما ينشر له من فنون السرد والشعر ..
ولا عجب إذن أن تحتل فنون القصة والشعر المراكز الأولى من أهمية للطفل ، فهو لا يوفر ما يريده بنفسه بل إنما رغبات الكبار هي التي تفرض عليه ما ينبغي قراءته ، و" هنري ميللر " من الكتاب الذين أدركوا هذا الجانب حين حكى عن طفولته مع الكتب قائلا : " الكتب التي يقرأها المرء وهو طفل مفروضة عليه ، محظوظ الطفل الذي لديه أبوان حكيمان " ..
وبما أن القصص يمكن توفيرها بسهولة بغض النظر عن جودتها ، والشعر الغنائي تبرعت بعض قنوات الأطفال المذاعة للأطفال في انتشاره بينهم ॥ ولعل أشهر تلك القنوات هي " جزيرة أطفال ، mbc3 ، طيور الجنة ، براعم ، كراميش ، اسبيس تون ...إلى لا آخره " ॥ مما لا شك فيه أن الفضل يعود لمعظم هذه القنوات في إرساء شعر الأطفال وتمريره بشكل سريع بين هذه الفئات ، مع الإشارة إلى أن الطفل حين يمارس هذه الفنون يمارسها بجهد فردي ، فالآباء لن يضطروا حين يقدموا لطفلهم الذي يجيد القراءة والكتابة قصة بتبديد أوقاتهم لقراءتها له ، ولا أن يقضوا ساعات طوال أمام اللتلفاز مع أطفالهم وهو يستمعون للأناشيد المذاعة ، لهذا كانت القصة وكان الشعر بديلا سهلا التوفر وخاضعان لشروط يريدها الكبار ..!
بينما مسرح الطفل وسينما الطفل ظلما في منظومة رغبات الكبار؛ نتيجة حاجة هذين الفنيين إلى تكاتف الكبار مع صغارهم ॥ فالمسرح له مكان خاص يذهب إليه الصغير كي يشاهد ما يعرض على خشبته ، وكذا الحال مع السينما ॥ فهل الكبار سيخضعون لصغارهم حينئذ في عصر تسبقه مبرراته ..؟!
واذكر جيدا ضمن فعاليات الملتقى الأدبي للشباب في البريمي الذي صادف عام 2009م ، عرضت ضمن جدولة هذه الفعاليات مسرحية للأطفال و حين حضور العرض لم نجد إلا عددا ضئيلا جدا من الأطفال للأسف ..!
وهذا حال معظم مسارح الطفل في معظم الدول العربية ، ولكني استثني من هذه الحالة مسرح الطفل في الإمارات في موسم عرض شخصيات المسلسل الكرتوني " فريج " والمعروف بـ" أم خماس " على مسارحهم بعد أن كانت شخصيات كرتونية في الشاشة الصغيرة ..
وبشهادة الحضور المحتشد يومئذ اكتظت مقاعد المسرح حتى لم يجد الجمهور مكانا لموطئ قدم ॥ والسر ليس في اهتمام الكبار لرغبات أطفالهم بقدر اهتمامهم برغباتهم الشخصية ؛ لأن هذه الشخصيات حصدت قدرا كبيرا من الشهرة وغدت محبوبة بحيث ناهضت حافز الكبار قبل الصغار لمشاهدة عروضها ॥! هنا نشير إلى التظلم الذي يتعرض له الطفل العربي في كل مكان ، فهو طفل خاضع لقوانين الكبار ورغباتهم ..!
وهل هناك وعي كاف من المجتمع ناهيك عن دور المدارس الحكومية للأطفال ..؟!
قلة من يعي أهمية أخذ الطفل للمسرح وأقول " أخذ " عوضا عن " ذهاب " ؛ لأن الطفل عاجز عن الذهاب بنفسه والكبار هم الذين يبادرون لهذه المهمة..!
أوليس من الضروري على المجتمع أن يوّسع حلقات اهتمامه بالطفل في إرساء أهمية المسارح لدى هذه الشريحة ، هذا إلى أهمية دور المدارس في توفير مسرح لهم ، فمعظم المدارس لا تولي أدنى أهمية بتثقيف هذا الجانب عند الطفل ، بل يصل الأمر لحد التحجج باعتبار هذا الجانب مضيعة للوقت وللحصص الدراسية ، ولعل المعلمين لا ذنب لهم حين لا توفر المدرسة فسحا لممارسة مثل هذه الفنون ، في المقابل ترى المدارس إلى أن التقصير ليس منها ؛ لأن هيئات وزارة التربية والتعليم أقصى ما يهمها هو سير على خطط جدولة المناهج التدريسية ..!
بل إن معظم الأنشطة المطروحة للصغار هي نفسها درجت عليها الأجيال السابقة ، ويبقى التجديد فقط قاصرا على المناهج الدراسية ، متناسية هذه الهيئات أهمية الفنون الأخرى من الرسم واللياقة البدنية والمسرح والسينما وصحافة الطفل إلى أن تكون وسائل تطبيقية تساهم بشكل ايجابي كبير في تخريج جيل طفولي بنّاء يساهم في نهضة الوطن ..
فإذا كان الأمر كذلك فثمة بدلائل أخرى لغلق باب الأعذار ، فالمدارس من المفروض حين يتناهى إليها وجود عروض مسرحية مخصصة للطفل ، عليها أن تسعى إلى اقتناص هذه الفرص ، بتنظيم رحلات تشجيعية لمشاهدة عروض هذه المسارح من خلال استدعاء الصغار من مدارس مختلفة لهذه الفعاليات ، فهي في النهاية مقدمة لهم ، كمنهجها التشجيعي الذي تتبعه في تنظيم رحلات للطلبة إلى معارض الكتاب التي تقام في كل عام ، و بهذه الطريقة سننمي عند الطفل في هذه المرحلة المتقدمة من حياته أهمية وحب فن المسرح وضرورته ، وهذا يحقق عدة فوائد ، لعل
من أكثرها أهمية هو تشجيع ممثلي مسرح الطفل وعروضهم وتحسيسهم باهتمام المجتمع لما يقدمه ؛ فهنالك متابعين لهم من الصغار والكبار على حد سواء ، وهذا التحفيز بدوره ينشّط من الحركة المسرحية على ساحة الطفل في تقديم عروض على درجة من الأهمية والجودة وتفعيل أنشطتهم وفرز تنافسات بين المهتمين بعروض مسرح الطفل ، بل إن استيعاب الطفل لهذه الحضارية وتعويده عليها في كل مرة يعزز فيه الذائقة النقدية لما يقدم على شرفه من عروض مختلفة ؛ فالمسؤولية والحرية الكافية الممنوحان له يطور فيه التفكير النقدي حيث تتاح له فرصة لاستكشاف ما يجلب له الرضا والسعادة ..
ومن جانب آخر يمكن أن نتساءل : لماذا لا يسع الكبار في مسرح الطفل إلى تشكيل فرق مسرحية ، تقوم بعرض مسرحياتها على خشبة مسرح الطفل في المدرسة ॥ وهذا التساؤل هو دعوة بمثابة اقتراح قابل للتنفيذ من قبل لجان مسرح الطفل بالاتفاق مع المدرسة ..
والسينما فن حواسي يساهم بشكل جديّ في ارتقاء العقل ، فهي من الفنون التي تحاكي البصر والسمع وتدعم أخيلتهم بشكل فعّال ، ولكن الوعي المجتمعي ما يزال قاصرا عن أهمية كل هذا وهو قصور امتد إلى مدارس الأطفال ومن ثم إلى بيوتهم وعوالمهم ككل ..!
لكنه فن منسي في عقلنة الطفل العربي وليس هذا من الدهشة في شيء ؛ فنظرة بعض الآباء قاصرة له ॥ فهم يرون إلى اليوم بأن السينما فن معيب ويعرض ما يخدش للحياء ، وهذا خلق شعورا من التخوف في تلك العقليات الاسفنجية التي تمتص ببلاهة كل ما يتناهى إليها كحقائق واقعة ، وأشدد هنا إلى أهمية دور المدرسة في تحسين هذه النظرة واستبدالها من خلال توفير فرص للصغار بارتياد هذه الأماكن ॥ كي يكون فنا كأي من الفنون المطروحة له من حق الطفل أن جزءا من الحضور خاصة إذا ما كان الفيلم المعروض في شباك التذاكر يخاطبهم ॥ فكيف السبيل إلى إنشاء جيل من ممثلي المسرح والسينما على درجة عالية من الموهبة وهذه الفنون مذ نعومة الصغار مفقودة ، بل تعد فنونا
جديدة بالنسبة لهم ، لم يتعودوا عليها ، ولن يتقبلها معظم الناس كمواهب يمارسها أطفالهم رغم أصالة المبدأ ..؟!
إذن فلنعوّد صغارنا على فنون جديدة ॥ لنضّخ عقولا جديدة مسايرة لروح العصر ، مع التشديد على أهمية جودة ما يقدم له ، إلى جانب أهمية توفير قدر من الحرية للطفل في اختيار ما يريد دون تدخل من الكبار أو فرض رغباتهم عليه ، و هي من أبسط حقوقه لتكون له كينونة مستقلة ॥ ولا ننس قط إلى أن أطفالنا في دول الخليج العربي ، يعيشون في أجواء صحية ومستقرة على كافة الأصعدة وذلك كفيل بحد ذاته في خلق سمو فكري سليم ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورقة قدمت في ندوة الطفل التي عقدت في البريمي تحت عنوان ( أدب الطفل واقع وطموح ) 12 / 3 / 2012م .
ليلى البلوشي
Lailal222@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق