فاطمة الناجية
سعاد محمود الأمين
حملت فاطمة الفتاة الصغيرة إبريق الشاي،الذي تتصاعد من فوهته دوائر من البخار،تنداح وتتلاشى في الهواء مخلفة رائحة الشاي المنعشة،واتخذت طريقها إلى الشاطئ، حيث الرجال قابعون على الضفاف يراقبونها،حتى لا تضيق بمياه النيل. فتفلتها مدمرة الزرع والحرث و البيوت.
كانت سواعد الرجال القوية،تحمل جوالات الرمل، وتضعها فوق بعضها مكونة سدا منيعا، يراه القادم كأنه ساتر جنود بواسل في معركة، اشتدت أوارها.
كانت فاطمة تواقة لامتهان تشيد الجسور والمتاريس والحراسة ولكن الرجال، يرفضون بقائها ليلا خارج بيتها وهى فتاة صغيرة،البيت الذي يضم أمها العمياء الجالسة دوما بداخله، تجتر ذكريات الماضي، قبل أن تفقد بصرها بذلك الدواء اللعين، الذي جلبته لها الجارة عندما اشتكت لها من ألم في عينيها فخلطت لها عشبا ساما، وكحلت به عينيها ففقدت بصرها. ذكريات زوج رحل مبكرا، ابتلعته مياه النيل الغادرة ذات ليلة خرج فيها القمر مكسوفا، على صفحة سماء ملبدة بقيوم متفرقة سوداء، ذهب ليتفقد محصوله الذي تركه على الضفة، ولم يرى شروقا ثانيا للشمس.زفرت زفرة مكتومة طاردة هجوم الذكريات الأليم . تحسست طريقها، وجلست على دكة أمام الباب، تنظر قدوم ابنتها فاطمة من الشاطئ .اعتادت فاطمة أن تقوم على خدمة أمها دون ضجر. تحس بمعاناة أمها من سجن فقد البصر وتتحمل متاعبها النفسية والجسدية لاترفض لها طلبا ولا تنقص عليها . تقوم بكل مايقوم به أهل البلدة ،تعمل في الحقل تغرس النباتات، تسقى نخلاتها، تزرع القمح ... وعندما يأتي موسم الحصاد لا تطلب المساعدة، تقوم بذلك بنفسها، تمتطى حمار أبيها الذي ورثته عنه .تذهب للأسواق المجاورة لتسويقه. وتأتى بالسكر والشاي والدقيق وما تحتاجه لرعاية أمها العمياء.
في هذه الليلة العصيبة والنيل ينذر بفيضان عارم. جلبت فاطمة شاي الصباح. لرجال البلدة بعد طول السهر والانتظار على الضفاف.
فتلك الليلة ،كان كل شيء حولها هادئا،ساكنا،وقد هجعت الأحياء وسبحت الكائنات في ضوء القمر، وترامت ظلال النخيل.كأنها أصابع تشير محذرة من القادم عبر هذا الليل.لا يسمع إلا صوت الموج الهادر يرتطم بالجسور ويرتد خائبا.ولكن الليلة ليست مثل كل الليالي كان صوت خرير المياه عاليا، والأمواج تعصف بعثت الخوف والحذر في الرجال فظلوا، يراقبون ارتفاع الأمواج، والرياح ترسل، صفيرا عاليا مزمجرا تعانق الأمواج فترتطم بالحواجز والسدود الرملية.
فجأة قفز تمساحٌ ضخمٌ، رافعا ذيله. انقض كالقذيفة، على أحد رجال البلدة، القابع فوق الجسر في مراقبة ليلية .صرخ صرخة شقت سكون الليل. هب الجميع مذعورين، ولكن بعد فوات الأوان، اختفى الرجل وحطم التمساح السد. انهارت الجسور، واندفعت المياه هادرة، تعانق بيوت الأهالي وزرعهم، وحرثهم واختلط الحابل بالنابل، صراخ وهرولة وضجيج البقاء . والمياه تمسح الحياة والتاريخ والذكريات.
هرعت فاطمة إلى بيت أمها، تنقذها ولكن المياه الغاضبة ابتلعت كل شيء. أنهدت البيوت، وغرقت الحيوانات وقفت أشجار النخيل الشامخة، تتحدى قدرها فتسلقها من يستطيع.
أشرقت شمس اليوم التالي ترسل أشعتها الخاملة ،وقد تنفس النيل و أوقف زفيره، زال الخطر فقل اندفاع المياه، ونزل الأهالي من الأماكن العالية، رؤوس الأشجار التي آوتهم.سقوف بيوت الحجر القوية مئذنة المسجد..يتساءلون متفقدين، أحوال ذويهم.جزع أهل البلدة عند سماعهم صرخة، انبعثت من جوف بئر مهجور كانت صرخة إنسان تتمزق روحه ألما. فوجم جميع الذين سمعوها وترنحت أجسادهم هلعا. دوت صرخة الاستغاثة مرة أخرى فتلقفتها السماء، وتردد صدها في قرار البئر. كانت فاطمة هي التي تصرخ رافعة أمها العمياء فوقها.في محاولة حتى لا تغرق. هرع الجميع لإخراجها ، وكانت الدهشة تعلو وجوههم،سؤال حائر عقد ألسنتهم كيف نجت فاطمة وأمها وهم في الأسفل، لم تغرقهم مياه الفيضان. تمتم الشيخ الصالح قائلا: هذه معجزة.
صمت برهة ثم قال: ولكن فضائل الأعمال...
رفع نداء الآذان فانصرفوا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق