عبدالتواب يوسف
يُحْكى أنَّ جَماعَةً مِنَ النّاسِ كانَتْ تَعيشُ عَلى ضِفَّةِ نَهْرٍ، وَلكِنَّ الأرْضَ الَّتي تُحيطُ بِهِمْ غَيْرُ صالِحَةٍ لِلزِّراعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَدَيْهِمْ مِنَ الدَّوابِّ ما يَكْفي لانْتِقالِهِمْ إلى أرْضٍ أُخْرى، فَفَكَّروا بِبِناءِ سَفينَةٍ كَبيرَةٍ تَنْقُلُهُمْ عَبْرَ النَّهْرِ إلى مَكانٍ آخَرَ فيهِ أرْضٌ خِصْبَةٌ.
تَعاوَنَ الْجَميعُ لِكَيْ يَصْنَعُوا سَفينَةً تُقِلُّهُمْ، وَبَعْدَ أيَّامٍ طَويلَةٍ مِنَ العَمَلِ الدَّؤوبِ وَالتَّعاوُنِ أصْبَحَ لَهُمْ سَفينَةٌ كَبيرَةٌ لَها شِراعٌ أبْيَضُ واسِعٌ.
فَرَتَّبَ النّاسُ أمْرَ رِحْلَتِهِمُ الَّتي قَدْ تَطولُ كَثيرًا، فَانْتَقَلوا إلى السَّفينَةِ اسْتِعْدادًا لِلانْطِلاقِ.
في السَّفينَةِ اخْتارَ بَعْضُهُمْ أنْ يَكونَ عَلى السَّطْحِ ليَتَمَتَّعَ بِالشَّمْسِ وَالْمَناظِرِ الْجَميلَةِ لِضِفافِ النَّهْرِ.
وَاخْتارَ آخَرونَ قاعَ السَّفينَةِ لأنَّهُمْ يَخافونَ الْماءَ، وَيَتَهَرَّبونَ مِنْ رُؤيَتِهِ، فَفَضَّلوا الرَّاحَةَ في قاعِ السَّفينَةِ.
اِنْطَلَقَتِ السَّفينَةُ تَمْخُرُ عُبابَ النَّهْرِ، وَتَخُوضُ مِياهَهُ وَقَدْ فَرَدَتْ شِراعَها لِلرِّيحِ الْوادِعَةِ تَدْفَعُها، وَكانَ الْجَميعُ سُعَداءَ بِرِحْلَتِهِمْ خاصَّةً أنَّ الرِّيحَ أَتَتْ بِما تَشْتَهي أنْفُسُهُمْ.. فارْتَفَعَ صَوْتُ بَعْضِهِمْ بِالْغِناءِ.. صَوْتٌ مِنَ السَّطْحِ.. وَآخَرُ منَ الْقاعِ!
ولَكِنَّ النَّاسَ الَّذينَ اخْتاروا الْقاعَ كانوا في حاجَةٍ دائِمَةٍ إلى الْماءِ، فَكانوا يَصْعَدونَ إلى السَّطْحِ، وَيُزاحِمونَ النّاسَ الَّذينَ اخْتاروا السَّطْحَ، لِكَيْ يَحْصُلوا عَلى الْماءِ.
فَضَاقَ الَّذينَ عَلى السَّطْحِ مِنْ رُكَّابِ الْقاعِ، كَما مَلَّ رُكَّابُ الْقاعِ مِنَ الصُّعودِ وَالْهُبوطِ، فَاشْتَدَّ النِّزاعُ بَيْنَهُمْ حَتَّى كادوا أنْ يَقْتَتِلوا فيما بَيْنَهُمْ.
فَاسْتَقَرَّ رَأْيُ بَعْضِهِمْ أَنْ يُحاوِلَ الطَّرَفانِ حَلَّ الأمْرِ بِهُدوءٍ ورَوِيَّةٍ.
فَأَخَذَ كُلُّ طَرَفٍ يُفَكِّرُ في حَلٍّ لِهذِهِ الْمُشْكِلةِ الَّتي أقْلَقَتْ راحَتَهُمْ جَميعًا!
فَكَّرَ رُكَّابُ الْقاعِ بِطَريقَةٍ أعْجَبَتْهُمْ، إذِ اقْتَرَحَ أحَدُهُمْ أنْ يَثْقُبوا أسْفَلَ السَّفينَةِ، لِيَأْخُذوا الْماءَ بِسُهولَةٍ، وَدُونَ أنْ يُضْطَرُّوا إلى الصُّعودِ وَالْهُبوطِ، أوِ الاِقْتِتالِ مَعَ رُكَّابِ السَّطْحِ. فَأخْرَجُوا الْمَعاوِلَ وَالْفُؤوسَ اسْتِِعْدادًا لِلْقِيامِ بِثَقْبِ الْقاعِ!
سَمِعَ رُكّابُ السَّطْحِ جَلَبَةَ الْفُؤوسِ وَالْمَعاوِلِ، فَهُرِعُوا إلى الأسْفَلِ لِيُشاهِدُوا رُكَّاب الْقاعِ يَسْتَعِدُّونَ لِثَقْبِ السَّفينَةِ، فَفَزِعُوا، وَقالَ لَهُمْ أحَدُهُمْ:
- ماذا تَفْعَلونَ؟!
قالوا: وَما شَأْنُكُمْ بِنا، نُريدُ أنْ نَأْخُذَ الْماءَ مِنْ ثَقْبٍ في الْقاعِ.
قالَ أحَدُ رُكَّابِ السَّطْحِ: وَلكِنَّ السَّفينَةَ سَتَغْرَقُ!
رَدَّ أحَدُ رُكَّابِ الْقاعِ: نَحْنُ أحْرارٌ بِالْمَكانِ الَّذي نَحْنُ فيهِ.
حارَ سُكَّانُ السَّطْحِ في أمْرِهِمْ، فَإنْ تَرَكُوهُمْ عَلى حُرِّيَّتِهِمْ غَرِقُوا جَميعًا، وَإنْ مَنَعوهُمْ أنْقَذوا أنْفُسَهُمْ جَميعًا مِنَ الْغَرَقِ وَالْهَلاكِ. ولَكِنْ كَيْفَ السَّبيلُ إلى مَنْعِهِمْ؟!
قالَ أحَدُ رُكَّابِ السَّطْحِ لِمَجْموعَتِهِ:
- يَجِبُ أنْ نُؤَمِّنَ لَهُمُ الْماءَ وَإلاَّ ثَقَبوا السَّفينَةَ فَنَغْرَقُ نَحْنُ وَهُمْ مَعًا.
فَاتَّفَقَ الطَّرَفانِ عَلى أنْ يَتَناوَبَ رُكَّابُ الْقاعِ لِكَيْ يُحْضِروا الْماءَ مِنْ سَطْحِ السَّفينَةِ بَدَلَ أنْ يَصْعَدوا جَميعًا، وَبذلِكَ لا يُزاحِمونَ رُكَّابَ السَّطْحِ وَيُخَفِّفونَ مِنْ عِبءِ الصُّعودِ وَالْهُبوطِ.
فَعادَ الْوِدُّ بَيْنَهُمْ، وَمَضَتِ السَّفينَةُ في طَريقِها آمِنَةً.
وَبَعْدَ أيَّامٍ وَصَلوا إلى أرْضٍ خَضْراءَ خِصْبَةٍ عامِرَةٍ بِالأَشْجارِ وَالثِّمارِ.. فَنَزَلوا وتَعاوَنوا عَلى بِناءِ مَساكِنَ لَهُمْ مُسْتَفيدينَ مِنَ الدَّرْسِ الَّذي تَعَلَّموهُ عَلى مَتْنِ السَّفينَةِ.
___________________________
حديث القصَّة:
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((مَثَلُ القائِمِ في حُدُودِ اللهِ، وَالواقِعِ فيها كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَصَارَ بَعْضُهُمْ أَعْلاها وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، وَكانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الماء مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَمَا أرَادُوا هَلَكُوا جَميعًا، وَإنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)).رواه البخاري
___________________________
شرح غريب الألفاظ:
(الْقَائِمُ في حُدُودِ اللهِ تَعَالَى) مَعْنَاهُ: الْمُنْكِرُ لها، الْقَائِمُ في دفْعِهَا وإزَالَتِهَا، وَالْمُرادُ بِالْحُدُودِ: مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ. و(اسْتَهَمُوا): اقْتَرَعُوا.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Social/1196/99/#ixzz1o9A5wgh3
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق