كاغساغسوك
رواية للفتيان
طلال حسن
" 1
"
ـــــــــــــــــــــ
ارتفعت صرخته
الأولى ، حوالي منتصف الشتاء القطبي الطويل ، وعاصفة قطبية مثلجة ، تهب على أشدها
، غامرة كلّ شيء بأكوام الثلوج .
وأخذته القابلة العجوز ، بين يديها الشائختين المجربتين
، بعد ساعات طويلة من العذاب والمعاناة والانتظار ، انطفأت الأم على أثرها ، كما
ينطفىء قنديل ، واجهته عاصفة شديدة .
وحدقت فيه القابلة العجوز ، إنه أضخم وليد رأته في
حياتها ، ودفعته إلى الجدة التي كانت تقف منهارة إلى جانبها ، وقالت : هذا طفل
مشؤوم ، خذيه .
وأخذته الجدة بين يديها ، وعيناها غارقتان بالدموع ،
ولفته على عجل ، بأقمطة من فراء الثعالب ، كانت أمه قد أعدتها ، قبل أن يحين موعد
الولادة بأسابيع عديدة ، كيف لا وهو طفلها الأول ؟
وحملقت فيه الجدة مذهولة ، إنه طفل غير عادي ، ضخم ،
ممتلىء ، ناصع البياض ، كأنه دبّ قطبيّ صغير ، في الأشهر الأولى من عمره .
وضمته إلى صدرها ، لقد قتل ابنتها الحبيبة ، لو كانت أمه
حية لفرحت به أشد الفرح ، صحيح إنها ليست فرحة ، لكنها لن تستطيع أن تكرهه ، يكفيه
أن أمه ماتت ، وأن أباه قتل بين مخالب دبّ قطبي .
آه إنها منذ الآن أمه وأبوه ، وحان أن تسميه ، وتذكرت
رغبة ابنتها ، وهي ما تزال حامل به ، عندما قالت : إذا جاءني طفل ، سأسميه ..
كاغساغسوك
ومرّ الكابوس ، ولم يمر ، رحلت الأم ، وبقي الطفل ، ستهتم
به الجدة ، وترعاه ، و .. لكن من سيطعمه ، وهو في أيامه الأولى ؟ من سيرضعه ؟
وأشارت عليها أكثر من امرأة ، أن تدور به كلّ يوم
بين الأمهات ليقمن بإرضاعه مع أطفالهن ،
وهذا ما حدث ، وإن كانت بعض الأمهات يخفن من ضخامته ، وقوة كفيه ، وهو يضم بهما
أثداءهن العامرة .
وبعد عدة أشهر ، وقد بدا كاغساغسوك وكأنه صبيّ صغير ،
امتنعت معظم الأمهات عن إرضاعه ، فأخذت الجدة تعدّ له حساء من السمك والطيور ،
وتسقيه له ، كما لو كان حليباً دافئاً .
ومثلما ينمو الدبّ القطبي الصغير ، راح كاغساغسوك ينمو ،
أسرع بكثير من غيره من الأطفال ، كما لو كان بالفعل دب قطبيّ .
ولما كان الأطفال ، الذين في عمره ، مازالوا يزحفون على
الأرض ، وقف هو على قدميه الضخمتين ، ثم راح يمشي بخطوات قوية ثابتة .
ودمعت عينا الجدة ، من خلال ابتسامتها الفرحة ، وتمتمت
قائلة : أين أنت يا بنيتي العزيزة ، لتري ابنكِ كاغساغسوك ، وهو يمشي ؟
" 2
"
ـــــــــــــــــــــ
كبر
كاغساغسوك ، مع مرور الأيام ، أسرع مما يكبر به الأطفال في عمره ، حتى بدو أمامه
أشبه بأطفال أقزام أمام طفل من العمالقة .
وبدل أن يتقارب منه الأطفال ، لضخامته وقوته وسرعته في
الركض ، تباعدوا عنه ، وصار غالباً ما يسير وحده ، أو مع جدته العجوز .
والغريب أن الكلاب ، مهما كان نوعها ، أو عمرها ، كانت
ما إن تراه ، حتى تقف مترددة ، خائفة ، ثم تتراجع ، وتبتعد عن طريقه .
وذات يوم ، كان كاغساغسوك يسير وراء جدته ، وسط سوق
القرية ، فاعترضهما كاب ضخم ، بادي الشراسة ، تتقادح عيناه المجنونتان بالشرر ،
وصاح بهما أكثر من شخص : ابتعدا ، إنه كلب شرس .
وتراجعت الجدة خائفة ، ووقفت وراء كاغساغسوك ، وتحفز
الكلب المسعور للانقضاض عليهما ، لكن كاغساغسوك وقف في مواجهته ، دون حراك .
وتصايح أكثر من رجل وامرأة : أيها المجنون ، ابتعد عن
الكلب ، وإلا مزقك .
وتوقف المارة في السوق ، يراقبون ما يجري ، وتشبثت سوجاك
بأمها ، وعيناها الخائفتان متعلقتان بكاغساغسوك ، وأوقف رجل غريب عربته ، وراح
ينظر إلى كاغساغسوك ، ويترقب ما قد يجري مع هذا الكلب الشرس .
ودهش الجميع ، عندما رأوا الكلب الشرس يتوقف عن نباحه
المجنون ، ويقف متردداً ، ثم يستدير ببطء ، ويمضي مبتعداً ، وقد نكس ذيله الكث .
وتنفست سوجاك الصعداء ، ورفعت عينيها الجميلتين إلى أمها
، وقالت : يا له من بطل .
وسحبتها أمها من يدها ، وسارت بها مبتعدة ، وهي تقول :
إنه مجنون ، هيا نعد إلى البيت .
وترجل الرجل الغريب من عربته ، واقترب من الجدة العجوز ،
ومال عليها ، وقال : طاب يومكِ ، يا ابنة عمي ، أظنكِ تذكرينني .
ورفعت الجدة العجوز عينيها الشائختين ، وحدقت في وجه
الرجل الغريب ، ثم أشرق وجهها فرحاً ، وردت قائلة : ابن عمي ! أهلاً ومرحباً .
ورمق الرجل الغريب كاغساغسوك بنظرة خاطفة ، فأشارت الجدة
إليه ، وقالت : إنه كاغساغسوك ، ابن ابنتي الراحلة .
ونظر الرجل الغريب إليه معجباً ، وقال : رأيته ، إنه طفل
شجاع .
والتفتت الجدة إليه ، وقالت بنبرة المتسائل : أراك في
قريتنا ، يا ابن العم .
وردّ الرجل الغريب : جئت لزيارة أمير دلوغنوك .
فقالت الجدة العجوز : تعال ابقَ عندنا اليوم ، واذهب
غداً إلى أمير دلوغنوك .
ونظر الرجل الغريب إلى كاغساغسوك مبتسماً ، وقال : إذا
وافق كاغساغسوك .
ومدت الجدة العجوز يدها ، وأمسكت يد كاغساغسوك ، وسحبته
إلى الرجل الغريب قليلاً ، وقالت : طبعاً يوافق ، أنت ابن عمنا .
وخاطب الرجل الغريب كاغساغسوك قائلاً : لم أسمع رأيك ،
يا كاغساغسوك .
فقال كاغساغسوك : أريد أن تأتي ، وتبقى عندنا .
وأشار الرجل الغريب إلى عربته ، وقال : هذه عربتي ،
لنذهب بها إلى البيت .
" 3
"
ــــــــــــــــــــ
أعدت الجدة
عشاء من لحم فقمة ، وجلسوا ثلاثتهم يتناولون طعام العشاء ، ولاحظت الجدة أن ابن
عمها قلما يرفع عينيه عن حفيدها كاغساغسوك .
وبعد العشاء ، راحوا يتسامرون على ضوء القنديل ، وتحدثت
الجدة عن حياتها ، في قريتها الأولى ، مسقط رأسها ، قبل أن تتزوج ، وتأتي للسكن مع
زوجها ، في هذه القرية ، حيث كان يعيش .
وتطلع الرجل إلى كاغساغسوك ، وقال بصوت مفعم بالإعجاب :
لاحظت موقفك الشجاع ، من ذلك الكلب الضخم الشرس .
وقالت الجدة متفاخرة : ابني بطل .
وابتسم كاغساغسوك ، وقال : إنني أحب الكلاب .
وعلقت الجدة قائلة : لكنها تخافه .
وقال كاغساغسوك ، كأنما يدافع عن نفسه : إنني لم أوذي
كلباً ، في يوم من الأيام .
ونهض الرجل ، وقال : سأقدم لك هدية تفرحك ، يا كاغساغسوك
.
وخرج الرجل من الكوخ المصنوع من الجلود ، إلى عربته ،
فنظر كاغساغسوك إلى جدته ، فقالت : هذا ابن عمي ، وهو يحبك ، يا كاغساغسوك .
وفتح باب الكوخ ، وأقبل الرجل يحمل جرواً صغيراً ، قدمه
لكاغساغسوك ، وقال فرحاً : بنيّ ، هذا الجرو النادر ، هدية مني لك .
وأخذ كاغساغسوك الجرو ، ونظر إلى جدته فرحاً ، وقال : ما
أجمله .
وربتت الجدة على الجرو ، بأصابعها الشائخة المرتجفة ،
وقالت : عليك أن ترعاه ، كما أرعاك .
وجلس الرجل قبالة كاغساغسوك ، وقال : هذا جرو نادر ، يا
كاغساغسوك ، فأبوه ذئب .
وتمتمت الجدة مندهشة : ذئب !
فنظر الرجل إليها ، ثم قال : الحقيقة إنني جئت به هدية
لأمير دلوغنوك .
وقالت الجدة ممتنة : أشكرك ، أشكرك يا ابن العم .
ثم نظر إلى كاغساغسوك ، وأضاف قائلاً : أنت أحق به ،
فأنت شجاع ، وسيكون سعيداً معك .
وقالت الجدة فرحة ، ومتفاخرة : نعم ، سيكون سعيداً معه ،
ولن يشعر بالجوع أبداً .
ونظر الرجل إليها ، فقالت : قبل أيام ، جاءني بأرنب كبير
ناصع البياض ، وقال لي أحد أصدقائه ، أنه رأى الأرنب ، يركض على الثلج ، فانطلق
نحوه كالسهم ، وأمسك به .
وفغر الرجل فاه ، وقال : أمسك بالأرنب !
فقالت الجدة العجوز : لو تعلم ، إنه يركض كالغزال .
" 4
"
ــــــــــــــــــــ
مع الأيام ،
كبر الجرو ، الذي أهداه ابن العم لكاغساغسوك ، وصار يقترب من شكل الذئب شيئاً
فشيئاً ، وطالما قالت الجدة ، وهي تراه يكبر : لا عجب ، فابن عمي يقول ، إن أباه
كان ذئباً .
وكاغساغسوك نفسه راح يكبر ، أسرع مما كان يكبر أقرانه
الأطفال ، وقد سمع أكثر من رجل ، أو امرأة ، أو حتى صبي ، يقولون عنه : نانوك .
ويحدق كاغساغسوك في القائل ، أو القائلة ، دون أن يعرف
ما المقصود من ذلك ، أهو مدح أم ذم ، وذات يوم سأل جدته : ما معنى نانوك ؟
وابتسمت الجدة ، وتساءلت : لماذا تسأل ؟
فردّ كاغساغسوك قائلاً : البعض يُطلق عليّ اسم .. نانوك
، فأريد أن أعرف معناه .
وقالت الجدة متباهية : نانوك جميل ، قويّ ، أبيض كالثلج
، و ..
وقاطعها كاغساغسوك قائلاً : ما هو ؟ يا جدتي ، هذا ما
أريده .
فقالت الجدة : إنه الدب القطبي ، وهو ..
وقاطعها كاغساغسوك ، بشيء من الغضب : سأضرب كلّ من يقول
، إنني دب قطبيّ .
ولاذت الجدة بالصمت ، وهي تنظر إليه متسائلة ، فقال
كاغساغسوك : نانوك قتل أبي .
ومع الأيام ، وكلما ازداد نمو كاغساغسوك ، تحاشى الجميع
النطق بكلم نانوك ، ليس فقط خوفاً منه ، بل في الأساس ، لأن أحداً لا يريد إزعاجه
.
واشتد تعلق كاغساغسوك بكلبه ، الذي أسماه " ذئب
" ، وصار لا يكاد يفارقه ، حيثما يذهب ، حتى غدا لا يلتفت إلى أحد ، مهما كان
، عدا صبية كالدمية ، عرف أن اسمها سوجاك .
وعرف كاغساغسوك أن سوجاك ، هي وحيدة أمها ، وأن أباها
كان صياداً ، وقد خرج ذات يوم ، لصيد الفقمة ، في عرض البحر ، ولم يعد .
وقد رآها مع أمها مراراً ، في السوق ، أو في طرف من
أطراف القرية ، وطالما ضبطها ترمقه بنظرة خاطفة ، ثم تلوذ بأذيال أمها .
وذات ليلة ، أفاق كاغساغسوك على ذئب يعوي من بعيد :
عوووو .
وعلى الفور ، ردّ عليه كلبه ذئب غاضباً ، وهو يتواثباً ،
محاولاً الإفلات من قيده : عوووو .
وتملك كاغساغسوك الخوف على كلبه ، لم يخف أن يهاجمه
الذئب ، بل خاف أن يندفع كلبه في الظلام ، فيقع في فخ قطيع من الذئاب ، لن يقوى
وحده ، على مواجهتها ، وقتالها مجتمعة .
فنهض من فراشه ،
وقبل أن يفتح باب الكوخ ، اعتدلت جدته ، وقالت : كاغساغسوك ، لا تخرج من الكوخ ،
الجو بارد الآن .
لم يصغ كاغساغسوك إليها ، وإنما خرج من الكوخ ، وهو يقول
: أخشى على ذئبي من الذئب ، سأدخله هذه الليلة إلى الكوخ ، لأطمئن عليه .
" 5
"
ـــــــــــــــــــ
في اليوم
التالي ، استيقظ كاغساغسوك قبل شروق الشمس ، وتناول طعام الفطور مع جدته ، وكلبه
" ذئب " يربض كالأسد بباب الكوخ .
ورفعت الجدة رأسها ، وقالت : يبدو أننا سنأكل اليوم
أرنباً برياً .
ونهض كاغساغسوك ، وقال : بل طائر تلمجان .
وقالت الجدة : لا أطيب من التلمجان .
وعند باب الكوخ ، قالت الجدة لكاغساغسوك : سأنتظرك ، يا
بنيّ ، لا تتأخر .
ومضى كاغساغسوك ، ومعه كلبه " ذئب " ، وهمت
الجدة أن تناديه ، فقد فاتها أن تحذره من الذئب ، الذي سمعت عواءه عند حوالي الفجر
.
وطوال الطريق إلى الغابة ، راح " ذئب " يحوم
راكضاً حول كاغساغسوك ، يسبقه مرة ، ويتأخر خلفه مرة ، كأنه يطمئن أن لا خطر
يتهدده .
ورأى كاغساغسوك ، على الثلج ، طائر تلمجان ، فتسلل نحوه
، والقوس والسهم في يده ، وأحس التلمجان بوجوده ، فهبّ من مكانه ، لكن كاغساغسوك
عاجله بسهم ، أصابه في الصميم .
وعلى الفور ، أسرع " ذئب " ، وأطبق علي
التلمجان بأسنانه القوية ، وجاء به إلى كاغساغسوك ، وطرحه أمامه ، ووقف ينتظر .
وانحنى كاغساغسوك ، ومدّ يديه إلى التلمجان ، حين ندت
حركة مريبة ، من أجمة قريبة ، ورفع كاغساغسوك رأسه منصتاً ، أهو تلمجان آخر ؟ أم
أرنب بريّ ؟ أم .. ؟
وقبل أن يعرف كاغساغسوك الحقيقة ، انطلق " ذئب
" كالسهم ، نحو مصدر الصوت ، وسرعان ما غاب في الأجمة ، وصاح كاغساغسوك ، وهو
يسرع في أثره : ذئب ، انتظر ، يا ذئب ..
وارتفعت من الأجمة ، التي اختفى فيها " ذئب "
، أصوات عراك شرس ، ماذا يجري ؟ واعترى كاغساغسوك شيء من القلق ، هذا ليس طائر
تلمجان ، ولا أرنباً برياً ، ولا ..
وعند أحد أطراف الأجمة ، وسط أشجار كثيفة ، فوجىء
كاغساغسوك بكلبه " ذئب " ، مشتبكاً مع ذئب أضخم منه ، وما إن أحس الذئب
باقتراب كاغساغسوك ، حتى انسحب من المعركة ، وأطلق سيقانه للريح ، وهو يعوي
متوجعاً .
وهمّ " ذئب " أن يلحق به ، والدماء تسيل من
عنقه وصدره ، لكن كاغساغسوك أمسك به ، وضمه إلى صدره ، وهو يقول : كفى ، يا ذئبي ،
كفى ، لقد لقنته درساً لن ينساه طول العمر .
وقفل كاغساغسوك عائداً إلى البيت ، يحمل قوسه وسهامه بيد
، وباليد الأخرى يحمل طائر التلمجان ، وطوال الطريق ، كان مشغولاً بكلبه "
ذئب " الذي كان يسير وراءه متعباً ، مضرجاً بالدماء .
" 6
"
ـــــــــــــــــــ
أمام عيني
الجدة القلقتين ، وبدرجة أقل أمام عيني كاغساغسوك ، بدا " ذئب " وكأنه
ليس " ذئب " ، الذي عرفاه جيداً ، منذ أن جاء به ابن العم ، ليهديه
أساساً لأمير دلوغنوك .
وبدا لهما ، وبدرجات متفاوتة ، أنه يتغير ، منذ أن خاض
معركته الدامية تلك ، مع الذئب الضخم ، الشرس ، في الأجمة ، وسط الغابة .
لقد قلّ إقباله على الطعام ، وازداد يوماً بعد يوم ،
تشنجه ، وعصبيته المفرطة ، وقلما رأياه يهدأ ، أو ينام ، لا في الليل ، ولا في
النهار ، وصار أكثر عدوانية ، ليس مع الكلاب الأخرى فقط ، بل مع الناس أيضاً ،
وهذا ما أوقع كاغساغسوك في حرج شديد .
وذات يوم ، كان كاغساغسوك في سوق القرية ، ومعه كالعادة
كلبه " ذئب " ، ومن بعيد لمح سوجاك ، مقبلة مع أمها ، فتوقف وقلبه يخفق
بشدة .
ولمحته سوجاك ، فابتعدت قليلاً مع أمها ، وهي تبادله
النظر ، ولسبب لا يدريه كاغساغسوك ، جن جنون " ذئب " ، وراح ينبح سوجاك
، واللعاب يسيل من فمه ، فهبت سوجاك مذعورة ، ولاذت بأمها ، وهي تصيح : ماما ..
ماما .
وضمتها أمها بين ذراعيها ، وقد تملكها خوف شديد ،
فاستدار كاغساغسوك ، واعترض " ذئب " ، وصاح به : ذئب ، كفى ، توقف .
وعلى غير العادة ، لم يتوقف ذئب ، بل حاول أن يتجاوز
كاغساغسوك ، والوصول إلى سوجاك ، فصاح كاغساغسوك به ثانية ، وبصوت أعلى : توقف ،
يا ذئب ، قلت لك توقف .
وكأن " ذئب " صحا من كابوس خانق ، فتوقف فجأة
، وتراجع بخطوات مرتبكة ، وقد نكس ذيله الكث ، وتقدم كاغساغسوك من سوجاك وأمها ،
وقال معتذراً : لا أدري ماذا جرى له ، مهما يكن ، اطمئنا .
وزمجر " ذئب " ، وهو يتطلع بعينيه الملتهبتين
إلى سوجاك وأمها ، فالتفت كاغساغسوك إليه ، وحدجه بنظرة قاسية ، جعلته يتراجع
ثانية ، وقد وضع ذيله الكث بين ساقيه .
وأمسكت الأم بيد ابنتها سوجاك ، واستدارت بها ، وقالت
دون أن تلتفت إلى كاغساغسوك : سوجاك ، لنذهب يا بنيتي ، لنذهب ، فهذا الكلب مجنون
.
وخلال هذه الفترة ، كان رجل عجوز ، يقف متكئاً على عكازه
، يراقب ما يجري ، وحين أخذ كاغساغسوك كلبه " ذئب " ، ومضى مبتعداً به ،
متجهاً إلى البيت ، هزّ رأسه ، وقال : الأمر واضح ، وخطير ، يجب أن أتحدث إلى
كاغساغسوك .
" 7
"
ــــــــــــــــــــ
قبيل الغروب
، توقف كاغساغسوك أمام باب كوخ أم سوجاك ، وتلفت حوله متردداً ، ثم حزم أمره ،
وتقدم إلى الباب ، وطرقه ثلاث طرقات .
وبدل أم سوجاك ، فتحت الباب سوجاك نفسها ، وما إن رأت
كاغساغسوك ، حتى تراجعت خائفة ، وقالت : أرجو أن تكون وحدك .
وأدرك كاغساغسوك ما تعنيه سوجاك ، فقال يطمئنها : نعم ،
وحدي ، ذئب ليس معي .
وأطلت سوجاك برأسها ، المكلل بشعر أسود جميل ، من الباب
، ونظرت يميناً ويساراً ، ثم قالت : كلبك ذئب
لا يفارقك في العادة .
فقال كاغساغسوك : لا تخافي ، أبقيته في البيت ، والحقيقة
إنني حائر ، لا أدري ماذا جرى له ، منذ أن خاض تلك المعركة مع الذئب .
وقالت سوجاك ، ومازالت خائفة : لو وصل إليّ ، في السوق ،
لمزقني .
وهزّ كاغساغسوك رأسه ، وقال : آسف لما جرى ، والحقيقة
جئت أطمئن عليك ، وأعتذر .
وخرجت سوجاك من الكوخ ، ووقفت على مقربة من كاغساغسوك ،
وقالت : أشكرك ، ياكاغساغسوك ، لكن الذنب ليس ذنبك .
وصمتت سوجاك لحظة ، ثم رمقته بنظرة سريعة ، وقالت : إن
أمي ليست في البيت ، لقد ذهبت إلى السوق ، وقد تعود في أية لحظة .
واقترب كاغساغسوك منها قليلاً ، وقال على استحياء وتردد
: في الحقيقة ، تمنيت أن أراك وحدك ، وها قد تحقق لي ما تمنيته .
وأطرقت سوجاك رأسها ، المكلل بشعر أسود جميل ، وابتسمت
قائلة : وهذا ما لا تريده أمي ، وتخشاه ، يا كاغساغسوك .
ومال كاغساغسوك عليها ، وقال : ما يهمني ، ياسوجاك ، ما
تريدينه أنتِ .
وبدا فرح جميل ، يغشى وجه سوجاك ، وهمت أن ترد فرحة ،
لكنها لاذت بالصمت فجأة ، فقد أقبلت أمها مسرعة ، وما إن رأت سوجاك إلى جانب
كاغساغسوك ، حتى صاحت : سوجاك .
وبصورة لا إرادية ، تراجعت سوجاك قليلاً ، وقالت : نعم ،
ماما .
وتوقفت الأم غاضبة ، على مقربة منهما ، وقالت لسوجاك
بحزم : ادخلي الكوخ .
ولاذت سوجاك بالصمت على مضض ، ثم استدارت ، ودخلت الكوخ
، فمدت الأم يدها ، وأغلقت الباب بعنف ، فقال كاغساغسوك بصوت هادىء : جئت أعتذر
عما حدث في السوق .
ورفعت الأم عينيها الجامدتين إليه ، وحدقت فيه ملياً ،
ثم قالت : مهما يكن ، فما يهمني هو أمر آخر ، لا علاقة له بكلبك " ذئب "
المجنون .
ونظر كاغساغسوك إليها صامتاً ، وهو يتوقع منها ما لا
يسره ، فيما يتعلق بابنتها سوجاك ، فتابعت الأم قائلة : لتعلم ، يا كاغساغسوك ، أن
من يريدها هو .. أمير دلوغنوك نفسه .
ورد كاغساغسوك : لكن أمير دلوغنوك متزوج .
فقالت الأم : أمير دلوغنوك قوي ، وغنيّ ، ويستطيع أن
يتزوج أكثر من واحدة .
وأطرق كاغساغسوك رأسه ، وقال : هذا شأنه .
فاستدارت الأم منفعلة ، ودخلت كوخها ، ثم صفقت الباب
بقوة .
" 8
"
ــــــــــــــــــــــ
ارتفع نباح
كلبه المجنون ، قبل أن يُطرق باب الكوخ ، فالتفتت أمه إليه ، وكانت تعد طعام
العشاء ، وقالت : بنيّ ، ذئب ينبح .
وردّ كاغساغسوك ، وهو ينصت إلى ما يدور في الخارج : لقد
ربطته جيداً .
وطرق الباب ثانية ، فقالت الأم : الباب يُطرق .
ونهض كاغساغسوك ، وقال : سأرى من الطارق .
وفتح باب الكوخ ، وإذا كلبه ذئب ، يشبّ كالمجنون ، شاداً
قيده المربوط إلى وتد قرب الكوخ ، وهو يتواثب نحو رجل عجوز ، يتكىء على عكازه .
وصاح كاغساغسوك بكلبه : كفى ، اصمت .
وصمت " ذئب " ، ولوى ذيله الكث منكسراً ، وإن
ظلت عيناه المتقدتان جنوناً ، تحدقان في الرجل العجوز ، واللعاب يسيل من فمه .
والتفت كاغساغسوك إلى الرجل العجوز ، وقال : عفواً ،
ذئبي لم يعد يحسن الترحيب بالضيوف .
ونظر الرجل العجوز إليه ، وقال : جئت أتحدث إليك ، إذا
سمحت ، يا كاغساغسوك .
وتنحى كاغساغسوك قليلاً عن باب الكوخ ، وقال : تفضل إلى
الداخل .
وردّ الرجل العجوز قائلاً : أشكرك ، الأفضل أن نتمشى ،
بعيداً عن الكلب .
ورمق كاغساغسوك كلبه " ذئب " بنظرة خاطفة ، ثم
قال : كما تشاء ، يا سيدي ، لنتمشَ .
ومشيا معاً ، أحدهما إلى جانب الآخر ، وحاول كاغساغسوك
أن يماشي الرجل العجوز ، في مشيه البطيء ، والشمس تنطفىء في الأفق .
وظلّ الرجل العجوز ، يمشي صامتاً ، متكئاً على عكازه ،
حتى ابتعدا عن الكلب " ذئب " وإن ظل نباحه المجنون يصل إليهما من بعيد .
ورمق كاغساغسوك الرجل العجوز بنظرة خاطفة ، وقال : أظن
أنك جئت تحدثني .
وتوقف الرجل العجوز عن المشي ، وتنفس بعمق ، وكأنه يلتقط
أنفاسه ، وقال : نعم ، يا بنيّ ، جئت أحدثك عن كلبك " ذئب " .
ونظر كاغساغسوك إليه صامتاً ، فتابع الرجل العجوز قائلاً
: كنت اليوم في السوق ، ورأيت كلبك " ذئب " ، يا كاغساغسوك ، ورأيته
الآن ، كما رأيته في الأيام الأخيرة ، أكثر من مرة .
وتنهد كاغساغسوك ، وقال : لا أعرف ، في الحقيقة ، ما
الذي جرى له .
وتابع الرجل العجوز قائلاً : أعرف حبك الشديد له ، وهذا
حقك ، فهو كلب نادر ، وقد تعلق بك ، ولكن يجب أن تواجه الحقيقة ، بنيّ ، كلبك
" ذئب " مريض ، ومرضه سيشتد يوماً بعد يوم ، وهو خطر عليك ، وعلى من
حولك أيضاً .
كاد طعام العشاء يبرد ، حين عاد كاغساغسوك إلى الكوخ ،
حزيناً ، مقطب الوجه ، وأوى مباشرة إلى فراشه ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة .
ونظرت جدته إليه ، وقالت : الطعام سيبرد ، يا بنيّ .
وردّ كاغساغسوك قائلاً ، دون أن ينظر إليها : لا أشتهي
شيئاً ، كلي أنتِ .
وبدل أن تأكل الجدة ، لملمت ما أعدته من طعام للعشاء ،
ووضعته جانباً ، وقالت : سمعت صوت من جاءك ، إنه الرجل العجوز الحكيم .
وردّ كاغساغسوك قائلاً : نعم ، إنه هو .
وتمددت الجدة في فراشها ، وقالت : لابد أن حديثكما كان
حول كلبك " ذئب " .
وانتظرت الجدة رد كاغساغسوك ، دون جدوى ، فأغمضت عينيها
المتعبتين ، وحاولت أن تنام ، و " ذئب " ينبح بجنون في الخارج .
" 9
"
ـــــــــــــــــــ
حوالي منتصف الليل ، أفاقت الجدة من غفوتها ،
على حفيدها كاغساغسوك ينهض من فراشه ، وكلبه " ذئب " ينبح بجنون في
الخارج .
وسمعت كاغساغسوك يخرج من الكوخ ، ثم سمعته وهو يزجر كلبه
" ذئب " بصوت حزين : اصمت ، يا ذئب ، اصمت ، الناس نيام .
لكن " ذئب " لم يصمت ، بل ظلّ يصيح ويصيح
ويصيح ، وإن كان صياحه ، را ح يتباعد شيئاً فشيئاً ، حتى تلاشى تماماً في صمت
الليل .
ونهضت الجدة العجوز ، وفتحت باب الكوخ ، ووقفت تتطلع إلى
الليل ، والقمر قنديل شاحب الضوء ، يطل من أعالي السماء .
ترى أين مضى كاغساغسوك ، في هذا الوقت من الليل ، هو
وكلبه " ذئب " ؟ كان عليها أن تسأله ، حتى لو غضب منها ، وهذا محال ،
فهو لم يغضب منها مرة ، منذ طفولته الأولى حتى الآن .
وعضها برد الليل ، الذي لا يقل قسوة عن أي ذئب شرس ،
يعيش في البراري المتجلدة ، فدخلت الكوخ ، وأحكمت إغلاق الباب .
ودارت في الخيمة ، لا يهدأ لها بال ، وكيف يهدأ بالها
وحفيدها كاغساغسوك ، في الخارج ، ومعه كلبه " ذئب " ، وهي لا تدري أين
هما ؟
وهبت ريح باردة في الخارج ، فأشعلت الجدة النار في
الموقد ، فكاغساغسوك سيجد على الأقل ، عند عودته من الخرج ، ناراً تدفئه .
وعند الفجر ، عاد كاغساغسوك وحده ، فتح باب الكوخ بهدوء
، وبهدوء أشد تمدد في فراشه ، دون أن ينظر إلى جدته ، أو يخاطبها بكلمة واحدة .
واعتدلت الجدة ، وقالت : بنيّ ..
وقاطعها كاغساغسوك قائلاً : الوقت متأخر ، يا جدتي ،
نامي الآن .
لكن الجدة لم تنم ، وإنما أنصتت قليلاً ، وقالت : لا
أسمع صوت كلبك " ذئب " .
وردّ كاغساغسوك قائلاً بصوت حزين : ولن تسمعيه ثانية ،
بعد اليوم ، يا جدتي .
ونظرت الجدة إليه ، وعلى ضوء القنديل الشاحب ، لمحت
للمرة الأولى ، وربما الأخيرة ، الدموع تغرق عينيه الواسعتين ، وسمعته يقول بصوت
دامع : لقد أخذته إلى البحر ، وأغرقته .
" 10
"
ــــــــــــــــــــــــ
رغم نباح
" ذئب " ، الذي لا يكاد يهدأ ليلاً ، كان كاغساغسوك ينام طول الليل ،
والآن ، وقد غاب " ذئب " ، وغاب معه نباحه ، فإن كاغساغسوك قلما ينام ،
وكيف ينام و " ذئب " في داخله ، يغرق في الأعماق ، ولا يختفي ؟
وطوال ساعات الليل ، يغمض كاغساغسوك عينيه ، دون أن
يتحرك في فراشه ، حتى لتظن الجدة ، بشيء من الارتياح ، بأنه مستغرق في نوم عميق .
ولمرات عديدة ، في الليلة الواحدة ، يرى كاغساغسوك نفسه
، يسير في الظلام ، وكلبه " ذئب " يسير إلى جانبه ، هادئاً ، صامتاً ،
وكأنه نسي النباح .
ويتراءى له أنه يصعد إلى القارب ، ويدفعه إلى الماء ،
ويسرع كلبه " ذئب " ويثب صاعداً في أثره ، ويروح يتابعه ، وهو يجذف
متوغلاً في البحر .
وتوقف كاغساغسوك في عرض البحر ، ووضع المجذافين جانباً ،
وأخذ الحبل ، الذي شدّ إليه صخرة ثقيلة ، ووضعه في عنق " ذئب " .
ورفع " ذئب " عينيه إليه ، وكأنه يسأله :
" ماذا تفعل ، يا كاغساغسوك ؟ "
ورفعه كاغساغسوك بين يديه ، ووضعه برفق في الماء ، ثم
تركه ، وراح يراقبه ، وهو مشدود إلى الصخرة ، حتى غاب في الأعماق المعتمة .
وأخذ كاغساغسوك المجذافين ، وجذف ببطء إلى الشاطىء ،
وسحب القارب بعيداً عن ماء البحر ، ثم عاد إلى البيت لينام ، لكنه لم ينم .
وخلال الأيام الأولى لغياب " ذئب " ، كان
كاغساغسوك يخرج وحده من البيت ، يجوب الغابة ، بحثاً عن شيء لا يدريه .
ويعود متأخراً إلى البيت ، فتقدم له جدته الطعام ، فيأكل
وحده ساهماً ، ثم يأوي إلى فراشه ، ويحاول النوم ، وغالباً دون جدوى .
وذات يوم ، في أول الليل ، سمعا طرقاً خافتاً على باب
الكوخ ، وهمت الجدة بالنهوض ، لكن كاغساغسوك هبّ من فراشه ، وقال : ابقي في فراشك
، يا جدتي ، أنا سأفتح الباب .
وفتح كاغساغسوك الباب ، وفوجىء بآخر شخص ، يمكن أن يطرق
بابه ، في هذا الوقت من الليل ، نعم كانت الطارقة هي سوجاك نفسها ، فهتف بصوت هامس
: سوجاك !
ونظرت سوجاك إليه ، وقالت : كاغساغسوك ، إنني قلقة عليك
.
وأغلق كاغساغسوك الباب برفق ، واقترب من سوجاك ، وقال :
الوقت ليل ، يا سوجاك ، ما كان لكِ أن تخرجي وحدك من البيت .
فقالت سوجاك : أردت أن أطمئن عليك .
ومدّ كاغساغسوك يده ، وأمسك يدها ، وقال : تعالي ، سأرافقك
إلى البيت .
وسارا في الظلام جنباً إلى جنب ، ونظرت سوجاك إليه ،
وقالت : سمعت ما جرى لكلبك " ذئب
" .
فقال كاغساغسوك : كان مريضاً جداً ، لا أمل في شفائه ،
ثم صار خطراً على الآخرين .
وتمتمت سوجاك متأثرة : مسكين ذئب .
وقال كاغساغسوك : لم أحتمل أن أراه يتعذب ، وأن كنت أنا
الآن أتعذب .
وعند باب كوخ أم سوجاك ، كانت الأم واقفة ، وما إن
رأتهما مقبلين معاً ، حتى أسرعت إليهما ، وخاطبت كاغساغسوك قائلة : عرفت أنك
أخذتها .
فاعترضتها سوجاك ، وقالت : لا يا ماما ، لم يأخذني ، أنا
ذهبت إليه .
وصاحت الأم منفعلة : سوجاك .
وهمت سوجاك أن تردّ ، فمدت الأم يدها ، وأطبقت على يدها
، وسحبتها إلى داخل الكوخ ، وهي تقول : اذهب ، لا أريد أن أراك معها ثانية .
ووقف كاغساغسوك وحده في الظلام ، ثم استدار ، ومضى
عائداَ إلى البيت ، وفي الطريق توقف في الظلام ، وقلبه يخفق بشدة ، فقد تناهى إليه
من بعيد ، عواء الذئب : عوووو .
" 11
"
ـــــــــــــــــــــ
يوماً بعد
يوم ، صار الذئب الشغل الشاغل ، والهم الدائم لأهل القرية ، رجالاً ونساء وحتى
أطفالاً ، وفي المقدمة كاغساغسوك .
وراح الناس يتناقلون الأخبار ، اليوم خطف الذئب جرواً من
بيت صياد ، ومساء أمس كاد يفتك بامرأة عجوز ، في مشارف القرية ، وقبل أيام هاجم
صياداً ، كان يصيد طيور التلمجان من الغابة ، و ..
وفكر كاغساغسوك ، وماذا لو هاجم سوجاك ؟ فجوساك تتجول
أحياناً في ظاهر القرية ، بل وتذهب أحياناً مع أمها ، أو صويحباتها ، إلى الغابة ،
الذئب يهاجم سوجاك ؟ الويل للذئب .
وذات ليلة ، وقد كاد كاغساغسوك يغفو ، وفي أعماقه
كالعادة كانت سوجاك تبادله النظر ، تناهى إليه من بعيد ، عواء الذئب : عوووو .
واعتدل في فراشه ، وعيناه الكبيرتان تتقادحان ، وأنصت ،
أنصت ملياً ، لعل ما سمعه وهماً في أعماقه ، لكن العواء جاءه ثانية : عوووو .
فنهض بهدوء ، وارتدى سترته السميكة من جلد الكاريبو ،
وأخذ قوسه وسهامه ، واتجه إلى الخارج ، فاعتدلت الجدة ، وقلبها يخفق بشدة ، وقالت
بصوت قلق : كاغساغسوك ..
لم يردّ كاغساغسوك على الجدة ، ولم يلتفت إليها ، ومدّ
يده ، وفتح الباب ، وخرج إلى الليل ، ونهضت الجدة ، ولحقت به إلى الباب ، لكنه لم
يتوقف ، ومضى يسير بعزم في العتمة ، والذئب يعوي من بعيد ، كأنه يناديه : عوووو .
ولأن الذئب ظلّ يعوي ساعات طويلة من الليل ، لم ينم معظم
أهل القرية ، وخاصة النساء والأطفال ، وكذلك أم سوجاك ، وسوجاك نفسها .
ورغم أن سوجاك ، ظلت جامدة في فراشها ، أحست بها أمها
قلقة ، خائفة ، فقالت الأم ، والقنديل ينفث ضوءه الخافت حوله : سوجاك .
لم تردّ سوجاك ، لكن الأم تابعت قائلة : بنيتي ، لا
تخافي ، الذئب بعيد .
وردت سوجاك بصوت متعب : لستُ خائفة ، يا أمي ، نامي ،
وسأنام أنا أيضاً .
ونهضت الأم ، واندست إلى جانب سوجاك ، وقالت : أنا خائفة
.
وتنهدت سوجاك ، وقالت : آه منكِ ، يا أمي .
وفي اليوم التالي ، وخلال ساعات الصباح الأولى ، علم أهل
القرية ، رجالاً ونساء وحتى الأطفال ، بأن كاغساغسوك خرج من بيته ، عند منتصف
الليل ، بعد أن سمع عواء الذئب ، ولم يعد بعد .
وعند الضحى ، طرق باب بيت الجدة ، فنهضت ببطء ، فالباب
طرق مرات ومرات ذلك الصباح ، وفوجئت بسوجاك تقف شاحبة ، قلقة ، وبادرتها قائلة :
سمعت أن كاغساغسوك ..
وصمتت سوجاك ، مختنقة بدموعها ، فقالت الجدة بصوت متأثر
: نعم ، يا بنيتي ، خرج منذ منتصف الليل ، ولم يعد حتى الآن .
وتمتمت سوجاك : الذئب ..
وقالت الجدة : تفضلي إلى الداخل .
فتراجعت سوجاك مذهولة ، ثم استدارت ، ومضت مبتعدة ، وهي
تقول : أشكرك ، يا جدة ، لابد أن أمي تبحث عني الآن ، فلأعد إلى البيت .
" 12
"
ــــــــــــــــــــــ
: عاد
كاغساغسوك .
وكما ينتشر دفء الربيع ، في أعطاف صقيع الشتاء القطبي ،
انتشر الخبر في القرية ، وانتقل على الفور بين الناس ، رجالاً ونساء وأطفال ، حتى
وصل الجدة ، وكذلك أم سوجاك وسوجاك نفسها .
وخرجت الجدة من كوخها ، ووقفت بالباب قليلاً ، تنظر إلى
سيول الناس ، المتجهة نحو السوق ، وسرعان ما إنسابت مع الناس ، حيث يقصدون .
وانفلتت سوجاك من باب كوخهم ، وخفت مختلطة بجمهور الناس
، فخرجت أمها أيضاً ، ولحقت بها هاتفة : سوجاك .
وردت سوجاك ، دون أن تلتفت إلى أمها : اسمعي الناس ، عاد
كاغساغسوك .
ولحقت الأم بها ، وأطبقت على يدها ، وهي تقول : هذا لا
يعنينا ، يا سوجاك .
لكن سوجاك سحبت يدها بقوة ، من يد أمها ، وانحدرت مع
جموع الناس ، رجالاً ونساء وأطفالاً ، إلى السوق ، وسط القرية .
وحوالي منتصف النهار ، والشمس تطل دافئة من وراء الأفق ،
تبشر بقدوم النهار القطبي والربيع ، توقف الناس مبهورين ، وهم يرون كاغساغسوك ،
يقبل من بعيد ، وهو يحمل جثة ذئب ضخم .
وتوقف كاغساغسوك وسط السوق ، والناس يلتفون حوله ، وألقى
الذئب ، جثة هامدة ، على الأرض ، ثم استدار ببطء ، ومضى متجهاً نحو البيت .
وظل أهل القرية
، رجالاً ونساء وأطفالاً ، حول جثة الذئب ، ربما ليطمئنوا أن كابوس الذئب ، الذي
تهددهم ليلاً ونهاراً ، ولفترة طويلة ، انتهى أخيراً ، وها هو على الأرض ، تحت
أقدامهم ، جثة هامدة .
لكن أحداً منهم ، لم يعرف كيف قتل كاغساغسوك الذئب ،
وكيف يعرفون أن كاغساغسوك ، عندما هاجمه الذئب ، أطبق على عنقه بيده الضخمة القوية
، ولم يتركه إلا جثة هامدة ؟
وانسلت سوجاك من بين جموع الناس ، ولحقت بكاغساغسوك ،
وكذلك الجدة ، وهتفت سوجاك : كاغساغسوك .
وتوقف كاغساغسوك ، والتفت إليها ، ورأتها أمها ، فأسرعت
إليها ، وصاحت : سوجاك .
وردت سوجاك : دعيني ، يا أمي .
وتابعت الأم قائلة : أمير دلوغوك ينتظرك ، يا ابنتي .
ونظرت سوجاك إلى كاغساغسوك ، وقالت : أنا أريد كاغساغسوك
، يا أمي ..
وتقدمت منه قليلاً ، وعيناها في عينيه الكبيرتين وقالت :
إذا أرادني .
وهنا مدّ
كاغساغسوك يده الضخمة ، الرقيقة ، المحبة وأمسك يد سوجاك المتلهفة ، وقال : تعالي
نذهب إلى بيتنا ، يا سوجاك .
وسار كاغساغسوك ، ويد سوجاك في يده حمامة بيضاء ، وتوقفت
الأم ، وعيناها غارقتان بالدموع ، ولحقت الجدة بهما ، والدموع تتلألأ في عينيها ،
وهي تتمتم : بنيتي .. بنيتي الحبيبة .. أين أنت لتري ابنك ..كاغساغسوك .
19 / 5 /
2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق