صبية الغابة
بقلم: طلال حسن
" 1 "
ــــــــــــــــــــ
بعد أن أعدت الأم طعام الافطار
، همت أن تذهب إلى ابنتها بيتي ، وتوقظها من النوم ، لكنها توقفت مبتسمة ، فقد
تناهى إليها تغريد ابنتها وأقبلت بيتي من
الغرفة المجاورة ، فهزت الأم رأسها ، وقالت : لقد أنجبت بلبلة بدل أن أنجب طفلة .
وأقبلت بيتي على أمها ، وأعوامها الأربعة عشر ، تطل بهجة من ملامحها ،
وراحت تدور راقصة ، ومغردة ، حول أمها ، فرفعت الأم يديها إلى رأسها ، وقالت : كفى
، يا بلبلتي ، لقد دخت .
وفتحت بيتي النافذة على سعتها ، وقالت : ماما ، إنه الربيع ، دعيه يدخل
بيتنا .
ومدت أمها يديها إليها ، وعانقتها بحرارة ، وقالت : بنيتي ، أنتِ الربيع .
وخلال تناولهما طعام الافطار ، تناهت إليهما من الخارج ، مأمأة العنزات
الثلاث ، فقالت الأم : العنزات الثلاث يطالبننا بالطعام .
ونهضت بيتي ، وهي مازالت تلوك لقمتها ، وقالت : هذا حقها ، سآخذها اليوم
إلى غابة البتولا ، العشب هناك كثير ، وسأجعلها تأكل حتى تشبع .
والتمع برق في عيني الأم ، أضاء أياماً كاد يغطيها ظلام الأيام ، وتنهدت
متمتمة : البتولا .
ثم نهضت ، وأعطت بيتي سلة ، وضعت فيها أرغفة خبز ، ومغزلاً وخيوطاً من
الكتان ، وقالت : بنيتي ، املئي السلة بالغزل .
ولأن بيتي ليس لها ملكة مغزل ، فقد
لفّت خيوط الكتان حول رأسها ، ثم أخذت السلة من أمها ، وهرولت تغرد فرحة ،
وهي تسير خلف عنزاتها الثلاث إلى غابة أشجار البتولا .
" 2 "
ـــــــــــــــــــ
جلست بيتي تحت شجرة بتولا ،
والعنزات الثلاث ترعى على مقربة منها ، وراحت تغزل الكتان ، وهي تغرد ، والغابة تردد
صدى تغريدها .
وعند منتصف النهار ، توقفت بيتي عن النسج ، وجمعت بعض ثمار الفراولة ،
وراحت تتناولها مع الخبز ، الذي أعطته لها أمها ، ثم نادت عنزاتها الثلاث ، وقدمت
لكل واحدة منها قطعة من الخبز .
وعندما انتهت من غدائها ، هبت واقفة ، وانطلقت تغرد وترقص ، وأشعة الشمس
تبتسم لها ، عبر الأوراق الخضراء لأشجار البتولا .
وفجأة توقفت بيتي مذهولة ، إذ رأت أمامها فتاة صغيرة في عمرها ، ذات جمال
رائع ، ترتدي ملابساً بيضاء ، وشعرها الذهبيّ ينساب على كتفيها ، وفوق رأسها اكليل
من أزهار الغابة .
واقتربت الفتاة الغريبة من بيتي ، وابتسمت قائلة : رأيتك تغردين وترقصين ،
يبدو أنكِ مثلي تحبين التغريد والرقص والفرح .
فهزت بيتي رأسها أن نعم ، فقالت الفتاة الغريبة : تعالي اذن نرقص ونغرد
ونفرح معاً .
وعلى الفور ، وضعت الفتاة الغريبة يدها على خصر بيتي ، وراحت ترقص معها ،
وهي تغرد ، وفي الأثناء صدحت موسيقى وتغريد رائعين ، ورفعت بيتي رأسها ، فرأت على
الأغصان مجموعة من طيور الكروان والحسون والعنادل والقبرات .
وبعد حين ، توقفت الفتاة الغريبة ، ومعها توقفت الموسيقى ، وكما ظهرت
الفتاة فجأة ، فجأة اختفت ، واختفت أيضاً جوقة الطيور المغردة .
وتلفتت بيتي حولها ، والشمس تميل إلى الغروب ، فرفعت مغزلها من على العشب ،
ووضعته في السلة مع الكتان المغزول وغير المغزول ، ونادت عنزاتها الثلاث ، وقادتها
عائدة بها إلى البيت .
آه لابد أن أمها ستؤنبها على تأخرها ، وكذلك لأنها لم تنتهِ من غزل الكتان
، كما اعتادت أن تفعل كلّ يوم ، وكلّ هذا بسبب الفتاة الغريبة ، وقررت أن لا تستمع
إليها ، إذا رأتها مرة ثانية .
" 3 "
ـــــــــــــــــــ
مع غروب الشمس ، وراء الجبال
البعيدة ، في ذلك اليوم ، وصلت بيتي إلى البيت ، حاملة سلتها ، وعنزاتها الثلاث
تمشي متعبة أمامها ، وقد امتلأت ضروعها بالحليب .
ولمحت أمها تقف مقطبة بالباب ، ستؤنبها ، نعم ، وبشدة ، والحق معها ، فهي
عادة تعود إلى البيت حوالي العصر ، وليس بعد غروب الشمس .
لكن الأم لم تُؤنبها ، وإنما أخذت العنزات الثلاث إلى الزريبة ، وحلبتها
كما تفعل كلّ يوم ، ثم أعدت طعام العشاء ، وجلست مع بيتي تتناول الطعام ، دون أن
تتفوه بكلمة واحدة .
وبعد العشاء ، جلستا أمام الموقد ، ونظرت الأم إلى بيتي ، وقالت : أقلقتني
اليوم ، لقد تأخرتِ .
ورفعت بيتي عينيها إليها ، وقالت : قد لا تصدقينني ، إذا قلتُ لك ، سبب
تأخري .
وقالت الأم ، محاولة كتمان مشاعرها : سأصدقكِ ، يا بيتي ، أخبريني عن السبب
.
ولاذت بيتي بالصمت ، فقالت الأم : إنني أصغي إليكِ ، يا بنيتي ، تكلمي .
وقالت بيتي : السبب هو فتاة في عمري . .
وحدقت الأم فيها متسائلة ، مستغربة ، فتابعت بيتي قائلة : ظهرت فجأة ،
ترتدي ملابس بيضاء ، وعلى رأسها اكليل من أزهار الغابة ، فرقصت معي ، وأنستني
الوقت ، ثم اختفت فجأة .
واتسعت عينا الأم ، ولمع فيهما برق غريب ، أضاء أياماً منسية من الماضي ،
فنهضت من مكانها ، وقالت : أنتِ متعبة ، يا بنيتي ، اذهبي إلى فراشكِ .
ونهضت بيتي ، وتمددت في فراشها ، وقبل أن تغمض عينيها ، قالت لها أمها :
ابقي غداً في البيت ، أنا سأرعى العنزات الثلاث .
وأوت الأم إلى فراشها هي الأخرى ، وقبل أن تسغرق في النوم ، تراءت لها فتاة
صغيرة ، غريبة ، في عمر بيتي ، ترتدي ملابس بيضاء ، وتضع على رأسها ، اكليلاً من
أزهار الغابة .
" 4 "
ـــــــــــــــــــ
في وقت مبكر ، من صباح اليوم
التالي ، وقبل الوقت الذي اعتادت بيتي ، الخروج فيه إلى المرعى ،
أخذت الأم العنزات الثلاث ، والسلة التي لم تضع فيها سوى أرغفة الخبز ،
وانطلقت على جناح السرعة ، نحو غابة البتولا .
وطوال الطريق ، كانت أيام ربيعها المبكر ، تسير معها خطوة بخطوة ، وتسبقها
أحياناً بشذاها ، وأغاريدها ، ورقصاتها المليئة بالحيوية والحياة .
وذات يوم ، من أيام ذلك الربيع ، ومثلما التقت بيتي بالفتاة الغريبة ،
بملابسها البيضاء ، واكليل الأزهار على رأسها ، التقت هي الأخرى بالفتاة الغريبة
نفسها ، وراقصتها حتى غروب الشمس .
وعندما عادت إلى البيت ، لم تكتفِ أمها بتأنيبها ، وإنما ضربتها بالمكنسة ،
آه ما أطيب ضربات تلك المكنسة ، في ذلك الربيع البعيد .
وكما في الماضي ، جلست الأم تحت شجرة البتولا ، تنتظر الفتاة الغريبة ، نعم
، إنها ليست في عمر بيتي الآن ، لكن حنينها إلى ربيعها الأول ، جعلها بيتي أخرى ،
تنتظر بلهفة ، تلك الفتاة الصغيرة الغريبة ، تحت شجرة البتولا .
ستأتي إلفتاة الغريبة ، بملابسها البيضاء ، واكليل الزهر على رأسها ، فتضع
يديها حول خصرها ، وترقص معها حتى غروب الشمس .
وأتى منتصف النهار ، وارتفعت الشمس فوق اشجار البتولا ، لكن الفتاة الغريبة
لم تأتِ ، لا بأس ، لعلها تأتي بعد الظهر ، فالوقت مازال مبكراً ، وبينها وبين
غروب الشمس ساعات كثيرة .
وتآكلت الساعات سريعاً ، ومالت الشمس للغروب ، دون أن تأتي الفتاة الغريبة
، فنهضت الأم من تحت شجرة البتولا ، ورفعت سلتها ، ثم نادت عنزاتها الثلاث ، وقفلت
عائدة بهم إلى البيت .
ولاحت لها بيتي ، في أواخر أشعة الغروب ، تنترها بباب البيت ، وتراءى لها
ربيعها الأول ، بيتي هي الربيع ، وسيبقى الربيع مادامت بيتي ربيعاً .
وبعد العشاء ، وهما جالستان قرب الموقد ، نظرت الأم إلى بيتي ، وقالت :
بنيتي ، خذي العنزات الثلاث غداً إلى غابة البتولا ، وخذي معكِ السلة ، ولكن لا
تضعي فيها سوى أرغفة من الخبز .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق