فتاة البحيرة
قصة للفتيان
بقلم : طلال حسن
" 1 "
ــــــــــــــــــــ
منذ أن تفتحت عيونهم على الدنيا
، وهما معاً لا يفترقان ، فكوخ أهل جوين في القرية ، يقع قرب كوخ أهل تيلفريتش
.
وحين بلغ جوين ، التاسعة من عمره ، راح يرعى بقرات أهله الثلاث ، ومعه راحت
تيلفريتش ترعى بقرتي أهلها ، حين بلغت السابعة من العمر .
وكبرا معاً ، جوين وتيلفريتش ، وهما يرعيا أبقار أهلهما ، في المرعى المعشب
، قرب البحيرة ، حتى صارا شابين ممتلئين بالحيوية والعنفوان .
وكما كانا يتبادلان الطعام ، الذي كانا يأتيان به من أهلهما ، كلّ يوم ،
كانا يتبادلان الحديث في شتى المواضيع ، وحتى عندما كانا يصمتان ، فإن مشاعرهما
وعواطفهما المشتركة ، لم تكن لتصمت .
وذات يوم ، جاء جوين ببقراته الثلاث إلى المرعى ، قبل أن تأتي تيلفريتش ،
وجلس ينتظرها بصبر نافد ، فوق مرتفع ، يطل على البحيرة ، فيومه لا يطيب ـ لا يدري
لماذا ـ إلا إذا كانت تيلفريتش ترعى بقرتيها على مقربة من أبقاره الثلاث .
وحانت منه نظرة ، عن غير عمد ، إلى البحيرة ، وكانت هادئة ساكنة صافية
كالمرآة ، وفجأة رأى فتاة شابة ، تبدو في عمر تيلفريتش ، تسرح شعرها الذهبي ،
متخذة البحيرة الصافية مرآة لها .
وهنا تناهى إليه صوت تيلفريتش ، تنادي من بعيد ، : جوين .
وعلى الفور ، اختفت فتاة البحيرة ، وكأن الأعماق انشقت وابتلعتها ، ووصلت
تيلفريتش إليه ، وقالت : ناديتك ، يا جوين ، ولم ترد ، ما الأمر ؟
لم يردّ جوين عليها ، فحدقت تيلفريتش فيه مستغربة ، وقالت : جوين ..
ونظر جوين إليها ، وقال : قبل أن تأتي ، رأيت فتاة في عمركِ ، تقف وسط
البحيرة تسرح شعرها ، شعرها ذهبي كشعرك ، وعيناها زرقاوان .
وضحكت تيلفريتش ، وقالت : لعل هذه الفتاة ، ذات الشعر الذهبي ، والعينين
الزرقاةين ، هي أنا ، أنا تيلفريتش ، ولا أحد غيري .
ولاذ جوين بالصمت ، فأطرقت تيلفريتش ، ولاذت بالصمت هي الأخرى .
" 2 "
ـــــــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي ، قاد
جوين بقراته الثلاث ، في وقت مبكر ، إلى المرعى ، وجلس فوق المرتفع ، المطل على
البحيرة ، وراح ينتظر فتاة البحيرة ، لعلها تظهر قبل مجيء تيلفريتش .
وخفق قلبه بشدة ، وفرح ، حين ظهرت الفتاة ، ووقفت فوق سطح البحيرة ، وهذه
المرة لم تنشغل بتسريح شعرها الذهبي ، وإنما رفعت عينيها الزرقاوين ، الصافيتين
كسماء الصيف ، وراحت تتطلع إليه .
ونهض جوين ، وعيناه لا تفارقان عينيها ، وهبط ببطء من المرتفع ، وتوقف عند
حافة البحيرة ، وقال بصوت رقيق : عمتِ صباحاً .
لم تردّ الفتاة تحيته ، هذا صحيح ، لكنه لاحظ ، رغم بعدها عنه ، أن ملامحها
الرقيقة ، راحت تشفّ وتتألق ، فأشار إلى نفسه ، وقال : أنا جوين ، اسمي جوين ،
وأنتِ ، ما اسمكِ؟
وخيل لجوين ، أن الفتاة فتحت فمها ، ربما لتردّ عليه ، لكن ، في تلك اللحظة
، جاءه صوت تيلفرتيش تصيح من بعيد : جوين .
وعلى الفور ، اختفت فتاة البحيرة ، كأن مياه الأعماق انشقت وابتلعتها ،
ووصلت تيلفرتيش إلى المرتفع ، وقالت : جوين ، ماذا تفعل عندك ؟
وردّ جوين بشيء من الحدة : هذه هي المرة الثانية .
ولاذت تيلفرتيش بالصمت محبطة ، فصعد جوين المنحدر ، وهو يقول : كنت أكلمها
، فتاة البحيرة ، وكادت تردّ عليّ ، حين ناديتني .
وتراجعت تيلفرتيش إلى الوراء ، وقالت : عفواً ، لن تكون هناك مرة ثالثة .
وانسحبت إلى بقرتيها ، صامتة حزينة ، وأخذتهما إلى طرف المرج ، وبقيت هناك
معهما ، حتى عادت وحدها قبيل المساء إلى القرية .
واعترى جوين شعور بالحزن والندم ، ربما ظلم تيلفرتيش ، وهمّ أكثر من مرة ،
أن ينهض من مكانه ، ويذهب إليها ، ويقدم لها شيئاً من الطعام ، كما يفعل كلّ يوم ،
لكنه لم ينهض ، ولم يذهب إليها ، وإن داخله شعور بأنه سيندم على ذلك .
وقبيل المساء ، وبعد أن لاحظ أن تيلفرتيش قد عادت ببقرتيها إلى القرية ،
نهض من مكانه ، وقاد بقراته الثلاث ، عائداً إلى القرية .
" 3 "
ــــــــــــــــــــ
أوى جوين إلى فراشه ، في وقت مبكر من
الليل ، وأغمض عينيه ، لعله ينام ويرتاح ، ومرت ساعات وساعات ، لكنه لم ينم .
وبدل فتاة
البحيرة ، أرقته تلفرتيش ، لعلها غضبت منه ، لقد كلمها اليوم بشيء من الحدة ، وهذه
أول مرة يحتد عليها ، ومن يدري ، فقد تأخذ بقرتيها غداً ، وترعى بهما بعيداً عنه .
وانقلب على جنبه
، لتفعل تلفرتيش ما تشاء ، إنها حرة ، واعتدل في فراشه ، وكان القمر يطل بدراً على
القرية من بين الغيوم ، ونهض متسللاً من الكوخ ، وبدون إرادة منه ، قادته قدماه
إلى المرعى ، ووقف فوق المرتفع ، المطل على البحيرة .
وبدل فتاة
البحيرة ، ذات الشعر الذهبيّ ، والعينين الزرقاوين ، لاحت له تلفرتيش ، تقف فوق
سطح الماء ، والقمر يطل عليها من بين الغيوم ، ماذا جرى ؟ وبهدوء استدار ، وقفل
عائداً من حيث أتى .
وحين وصل القرية
، لم يتجه إلى كوخهم ، وإنما اتجه إلى كوخ تلفرتيش ، وتوقف أمام نافذتها ، ومدّ
يده ، ونقر عليها برفق ثلاث نقرات .
وتناهى إليه وقع
أقدام خفيفة ، ثم فُتحت النافذة ، وأطلت منها تلفرتيش ، وما إن رأته ، يقف تحت ضوء
القمر ، حتى قالت مندهشة بصوت خافت : جوين .
ومال جوين عليها
، وهمس بصوت خافت : تلفرتيش ، جئتُ لأقول لكِ شيئاً .
وردت تلفرتيش
بصوت خافت : جوين ، نحن في منتصف الليل .
واستطرد جوين
قائلاً : غداً ، حين تأتين إلى المرعى ، لا تجلبي معك أي طعام .
وحدقت تلفرتيش فيه
مندهشة ، فقال جوين : سأعدّ طعاماً بنفسي ، لي ولكِ .
وابتسمت تلفرتيش
، وقالت : أشكرك .
وهمت أن تغلق
النافذة ، وهي تقول : اذهب الآن ، قبل أن يفيق أبواي .
ومدّ جوين يده ،
وأمسك درفة النافذة ، وقال : لحظة ، يا تلفتيش ، لحظة .
وقالت تلفرتيش :
نعم .
فتساءل جوين :
هل تجيدين الطبخ ؟
ونظرت تلفرتيش
إليه حائرة ، فتابع قائلاً : لا أريد للفتاة ، التي سأتزوجها ، أن لا تجيد الطبخ .
وندت حركة من
داخل الكوخ ، فأغلقت تلفرتيش النافذة ، وهي تقول بصوت متهدج ، والفرحة تغرق عينيها
بالدموع : اذهب ، لقد أفاق والداي .
31 / 8 /
2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق