السمكة
قصة للفتيان
بقلم: طلال حسن
" 1
"
ــــــــــــــــــــ
تهيأ الكاهن
العجوز للنوم ، فيومه كان طويلاً ، ومتعباً ، في معبد الإله مردوخ ، وقبل أن يدخل
فراشه ، سمع طرقاً على الباب .
وتوقف مستغرباً ، فمن يمكن أن يأتيه ، في مثل هذا الوقت
من الليل ؟ وحين فتح الباب ، وقد رفع بيده القنديل ، رأى أمامه صياد السمك .
ومال الصياد عليه ، وقال : عفواً مولاي ، الوقت متأخر ،
لكن الأمر هام .
وحدق الكاهن العجوز فيه ، بشيء من الضيق ، دون أن يتفوه
بكلمة ، فقال الصياد : معجزة ، معجزة إلهية ، يا مولاي .
والتمعت عينا الكاهن العجوز ، وهو يتمتم بصوت غير مسموع
: معجزة !
فقال الصياد مؤكداً : نعم ، يا مولاي ، معجزة .
ودمدم الكاهن العجوز ، وكأنما يخاطب نفسه : آه ،
المرتدون ، الويل لهم ، إنهم يشيعون أن زمن المعجزات قد ولى .
وصمت لحظة ، ثم قال : البارحة ، عند منتصف الليل ،
أثناء هبوب العاصفة الماطرة ، رأيت البرق يضيء بشعلته
الوهاجة الشجرة المعمرة .
وكأنما الصياد كان ينتظر هذه الفرصة ، فمال على الكاهن
العجوز ، وقال : المعجزة هنا ، يا مولاي ، ولكن ليس الشجرة المعمرة ، بل السمكة .
وتمتم الكاهن العجوز مذهولاً : السمكة !
فتابع الصياد كلامه قائلاً : مررت بالشجرة المعمرة ،
مساء هذا اليوم ، وحانت مني نظرة إلى تجويفها الضخم ، المليء بمياه الأمطار ،
فرأيتها ..
وفغر الكاهن العجوز فاه ، وقد اتسعت عيناه الكليلتين ،
فقال الصياد : رأيت المعجزة ، سمكة صغيرة ملونة ، لم أرَ مثلها من قبل ، تدور
سابحة في مياه تجويف الشجرة الضخمة المعمرة .
ورفع الكاهن العجوز القنديل ، وتطلع إلى الشجرة الضخمة
المعمرة ، التي كانت تنتصب كالشبح ، تحت ضوء القمر ، وسط الحقل ، ثم قال : لابد أن
أراها ، هذه المعجزة ، الآن .
واندفع الكاهن العجوز ، وسط الليل ، نحو الشجرة الضخمة
المعمرة ، والقنديل في يده ، ولحق الصياد به مسرعاً ، وقال : الوقت متأخر ، يا
مولاي ، دع هذا إلى صباح الغد .
واستمر الكاهن العجوز في اندفاعه ، وهو يقول : لن أستطيع
أن أنام ، إذا لم أرَ المعجزة .
وتوقف الكاهن العجوز ، أمام فجوة الشجرة الضخمة المعمرة
، وقد اتسعت عيناه المذهولتين ، وعلى ضوء القنديل رأى المعجزة ، رأى السمكة
الصغيرة الملونة ، وهي تدور سابحة في مياه الفجوة .
وتمتم خاشعاً : حقاً إنها معجزة ، آه الإله مردوخ قادر
على كلّ شيء ، الويل للمرتدين .
" 2
"
ـــــــــــــــــــ
من كل مكان ،
حيثما سمعوا بالمعجزة ، تقاطر الناس رجالاً ونساء وحتى أطفالاً ، لرؤية المعجزة ،
والتبرك بها .
وما إن رأوا السمكة الصغيرة الملونة ، تدور سابحة في
المياه المتجمعة في تجويف الشجرة الضخمة المعمرة ، حتى تأكدوا أنها معجزة حقيقية ،
أرسلها ـ كما قال الكاهن العجوز ـ الإله العظيم مردوخ .
ويوماً بعد يوم ، وتجربة بعد تجربة ، شاع بين الناس ،
الذين زاروا السمكة ، كراماتها وقدرتها
العجيبة على تلبية دعوات الناس ، مهما كان نوعها .
جاءت امرأة بطفلتها ، التي ولدت ضريرة ، وطلبت من السمكة
راجية ، أن تفتح طفلتها عينيها ، أسوة بالأطفال الآخرين ، وترى العالم .
وفتحت الطفلة عينيها ، وتلفتت حولها مندهشة فرحة ، وصاحت
: ماما ، إنني أرى .
ولأول مرة ، رأت الطفلة الأشجار والعصافير والسماء ،
وكذلك رأت المعجزة ، السمكة الصغيرة الملونة ، وهي تدور سابحة في مياه الفجوة .
وفي اليوم التالي ، جاءت المرأة إلى الكاهن العجوز ،
ومعها دجاجة مكتنزة ، قدمتها له ، وقالت له على استحياء : أرجوك ، اقبلها ، إنها
هدية .
وأخذ الكاهن العجوز الدجاجة المكتنزة ، وقال : سأقبلها
منكِ ، مادامت هدية .
وبعد أيام ، جاء شاب يحمل أمه العجوز ، التي أصيبت
بالشلل ، وما إن رأت الأم السمكة ، حتى شعرت بالدماء تتدفق في عروقه ، فصاحت :
بنيّ ، أنزلني ، لقد شفيت .
وفي ذلك اليوم ، عاد الشاب فرحاً إلى القرية ، وكيف لا
وأمه العجوز ، التي كانت مصابة بالشلل ، تسير إلى جانبه ، وكأنها عادت إلى أيام
شبابها الأولى .
وفي اليوم التالي ، جاء الشاب ، وقدم للكاهن جدياً
صغيراً ، فأخذه الكاهن العجوز ، حتى دون أن يشكره ، نعم فهو هدية .
وذات مرة ، جاءت شابة مع أمها ، ومالت على السمكة
الصغيرة الملونة ، وهمست لها بصوت لا يكاد يُسمع : أريد طفلاً .
وانحنت الأم على السمكة الصغيرة الملونة ، وعيناها
مغرورقتان بالدموع ، وقالت : ابنتي تزوجت منذ ثلاث سنوات ، ولم ترزق بطفل .
وأقسمت الأم ، فيما بعد ، أن السمكة الصغيرة الملونة ،
توقفت لحظة ، وتطلعت إليها وإلى ابنتها الشابة ، وبعد عدة أشهر ، جاءت الأم ،
ومعها خروف ، قدمته هدية للكاهن العجوز ، وهمست له فرحة : ألف شكر للسمكة المعجزة
، لقد حملت ابنتي .
وجاءت امرأة بطفل في حوالي العاشرة من عمره ، وعلى العكس
من أقرانه ، لم ينطق بكلمة واحدة ، وما إن رأى السمكة الصغيرة الملونة ، حتى صاح
منبهراً : ماما انظري ، سمكة صغيرة ملونة .
ورغم أن المرأة كانت أرملة فقيرة ، إلا أنها أهدت الكاهن
العجوز بطة ، وقالت له : اقبلها ، يا مولاي ، فأنا لا أملك غيرها .
وقبل الكاهن العجوز البطة عابساً ، فهي على أية حال هدية
، هدية للسمكة الصغيرة الملونة المعجزة ، والهدية لا ترد ، مهما كانت قيمتها .
ومع الأيام ، امتلأ بيت الكاهن العجوز بالهدايا ، ولم
يعد يتسع لمزيد من الدجاج والبط والجديان والحملان ، فباع معظمها ، ونوه للزائرين
، أن أفضل هدية تقدم للمعجزة هي النقود .
وهكذا انهالت النقود على الكاهن العجوز ، كلّ هذا وصياد
السمك ، يرى سمكته الصغيرة الملونة ، التي وضعها بنفسه في ماء التجويف ، تدرّ
ذهباً على الكاهن العجوز ، فقرر أن يطالب بحصته .
" 3
"
ــــــــــــــــــــ
تهيأ الكاهن
العجوز للنوم ، بعد يوم طويل متعب ، قضاه استعداداً للاحتفال بمرور سنة على ظهور
المعجزة ، السمكة الصغيرة الملونة ، في تجويف الشجرة الضخمة المعمرة .
وقبل أن يدخل فراشه ، سمع طرقاً على الباب ، فتوقف
متضايقاً ، ترى من يطرق الباب في هذا الوقت من الليل ؟ لابد أنه أحد زوار المعجزة
.
وفتح الباب ، والقنديل في يده ، وفوجىء بصياد السمك يقف
مبتسماً أمامه ، ترى ماذا يريد هذا الأحمق ؟ فقال متضايقاً : الوقت متأخر ، وأنا
متعب .
فمال الصياد عليه ، وقد اختفت ابتسامته ، وقال : مولاي ،
ليس لديّ ما أقتات به .
وحدق الكاهن العجوز فيه ، وقال بجفاء : أنت صياد سمك ،
ومازلتَ شاباً .
فقال الصياد بصوت متعب : إنني مريض ، يا مولاي ، ولم أعد
أقوى على الصيد .
وتململ الكاهن العجوز متضايقاً ، وقال : غداً هو العيد
الأول للمعجزة ، والناس جاءوا من كلّ مكان ، وهم يحيطون بها الآن ، والشموع مضاءة
في أيديهم ، اذهب غداً إليها ، وستشفيك .
وحدق الصياد في الكاهن العجوز ، وقال : أعطني شيئاً مما
أعطتك السمكة .
وبشيء من الغضب ، قال الكاهن العجوز : هذه أموال الإله
مردوخ ، ومعجزته السمكة ، يا بنيّ ، ولا يجوز لأحد ، مهما كان ، أن يمد يده إليها
.
وابتسم الصياد ، وقال : مولاي ، فيما يخص السمكة المعجزة
، أريد أن أصارحك .
وحدق الكاهن العجوز فيه صامتاً ، فقال الصياد : تلك
السمكة الصغيرة الملونة ، يا مولاي ، أنا اصطدتها بنفسي من النهر ، ووضعتها في
تجويف الشجرة الضخمة المعمرة .
ورفع الكاهن العجوز القنديل ، متطلعاً إلى الشجرة الضخمة
المعمرة ، وقد أحاطت بها مئات الشموع المضاءة ، وقال : هذا التجديف ، الذي تنطق به
، لو سمعه هؤلاء المؤمنون لمزقوك إرباً .
جمد الصياد في مكانه مرعوباً ، لا يحير بكلمة واحدة ،
فصفق الكاهن العجوز الباب في وجهه ، ومضى إلى الداخل ، وأوى إلى فراشه .
واختفى الصياد ، لا أحد يعرف أين ، ولا ماذا حلّ به ،
وظلت السمكة المعجزة ، تدور سابحة في مياه التجويف ، في الشجرة الضخمة المعمرة ،
ومريدوها وزوارها يزدادون يوماً بعد يوم .
26 / 7 / 2016
· ـ عن حكاية صينية قديمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق