طفل النبع
قصة للفتيان
بقلم : طلال حسن
" 1 "
ــــــــــــــــــــ
أوى الحطاب العجوز وزوجته ،
إلى فراشيهما مبكرين ، فأنفاس الربيع العطرة ، الدافئة ، كما تقول الزوجة ، تثير
النعاس ، وتدعو إلى النوم .
ولاحظ الحطاب العجوز ، وهو متمدد في فراشه ، أن زوجته ، على غير عادتها ،
لم تنم ، رغم أن أنفاس الربيع ، كانت تملأ فضاء الكوخ ، فانقلب مواجهاً لها ، وقال
: يبدو أن أنفاس الربيع ، لم تؤثر فيك .
وتنهدت الزوجة ، نعم ، إنها لم تنم ، وفكر الحطاب ، لابدّ أن هماً قديماً ،
استيقظ في داخلها ، ومنعها من النوم ، فقال الحطاب العجوز : نامي .
وتنهدت الزوجة ثانية ، وقالت : جارتنا ، زوجة البقال ، قالت لي إنها حامل .
ولاذ الحطاب العجوز بالصمت لحظة ،ثم قال : إنها في حوالي الستين من العمر .
وقالت الزوجة : وزوجها تجاوز الستين .
فقال الحطاب العجوز : إنهما يستحقان كلّ خير .
ولاذت الزوجة بالصمت فترة ، ثم قالت بصوت تغرقه الدموع : طالما تمنيت ، هذه
الفترة الطويلة ، أن يكون لي طفل يحمل ملامحك .
وسحب الحطاب العجوز الغطاء فوق وجهه ، وهو يقول : نامي ، يا عزيزتي ، نامي
.
" 2 "
ــــــــــــــــــــ
بعد أيام ، خرجت زوجة الحطاب
إلى الغابة ، مستغلة بقاء زوجها في الكوخ ذلك اليوم ، فقد تفتحت أزهار البابنج ،
ولابد لها أن تجمع شيئاً منها ، وتجففها ، فهي تحتاجها وزوجها عند إصابتهما
بالزكام ، وخاصة في فصل الشتاء البارد .
وعند شجرة الصنوبر الضخمة ، في أعماق الغابة ، حيث تكثر أزهار البابنج ،
لاحظت زوجة الحطاب العجوز وجود نبع ، لم تلحظه من قبل ، يترقرق ماؤه مكوناً بركة
صغيرة ، صافية ، كالمرآة .
وشعرت بالعطش ، بمجرد رؤيتها للماء الرقراق ، فانحنت على النبع ، وغرفت
بكفيها الشائختين قليلاً من الماء ، ورفعته إلى شفتيها الظامئتين ، واحتسته جرعة
بعد جرعة ، منتشية ، متلذذة ، وكأنها لا تحتسي ماء ، بل عسلاً خال من الشمع .
وعلى الفور ، أحست زوجة الحطاب العجوز بأنفاس الربيع العطرة ، الدافئة ،
تهب في أعماقها ، التي أيبستها الشيخوخة ، وكما تتفتح الأزهار ، على أغصان شجرة
التفاح ، في أول الربيع ، تفتحت في أعماقها مشاعر ، لم تعهدها منذ فترة طويلة .
وحانت منها نظرة إلى البركة الصغيرة ، الصافية كالمرآة ، وخفق قلبها بشدة ،
فبدل وجهها الشائخ ، المليء بالتجاعيد ، رأت وجهاً شاباً ، مليئاً بالنظارة
والحياة ، فتراجعت إلى الوراء مثارة ، ماذا يجري ؟ أحقيقة ما تراه أم .. ؟
واقتربت ببطء من البركة ، وقلبها مازال يخفق بشدة ، ورأت وجه الفتاة الشابة
نفسه ، يطل عليها من الأعماق ، وتوقفت مفكرة ، ترى ماذا سيقول زوجها ، الحطاب
العجوز ، حين يراها في هذه الهيئة ؟
" 3 "
ــــــــــــــــــــ
دُفع باب الكوخ ، فالتفت الحطاب
العجوز ، وفوجىء بفتاة شابة ، جميلة ، ترتدي ملابس عادية ، كأنها ملابس زوجته
العجوز ، تقف ناظرة إليه ، وعلى وجهها تشرق ابتسامة ربيعية واسعة ، فقال بصوت
متردد : أهلاً ومرحباً .
وضحكت الفتاة الشابة بمرح ، وقالت : يا للعجب ، يبدو أنك لم تعرفني .
وصمتت لحظة ، ثم قالت ، وهي مازالت تضحك : انظر إليّ ، انظر جيداً .
واتسعت عينا الحطاب العجوز ، وقد لمع في أعماقهما برق غريب ، وتمتم قائلاً
: أنتِ .. !
فهزت رأسها ، وقالت : نعم ، أنا
زوجتك .
وتمتم الحطاب مذهولاً ، وهو مازال يحدق فيها : لا .. لا .. هذا مستحيل .
واقتربت زوجته منه ، وأطبقت على كتفيه الضامرين بكفيها الشابين ، وقالت :
سيكون لنت طفل هذه المرة ، وسيحمل ملامحك أنت .
فقال الحطاب العجوز : لا تكوني مجنونة ، لقد انتهى زمن المعجزات .
فقالت زوجته الشابة ، وهي تدفعه برفق نحو الباب : عند شجرة الصنوبر الضخمة
، في أعماق الغابة ، نبع صافٍ ، شربت منه ، فصرت ما أنا عليه .
ودفعته عبر الباب ، وأضافت قائلة : اذهب ، يا عزيزي ، واشرب منه ، وسترى .
ثم قال ، وهي تغلق باب الكوخ : سأنتظرك ، يا عزيزي ، لا تتأخر .
وعلى أحرّ من الجمر ، انتظرت الزوجة الشابة ، داخل الكوخ ، أن يعود زوجها
من النبع ، شاباً كما كان ، في أيام زوجهما الأولى ، لكنه لم يعد ، رغم أن وقت
العصر أوشك أن يحلّ .
ونفد صبر الزوجة الشابة ، مع حلول العصر ، فخرجت من الكوخ منفعلة ، وصفقت
بابه بقوة ، ثم مضت مسرعة نحو أعماق الغابة .
وعند شجرة الصنوبر الضخمة ، قرب النبع ومائه الرقراق ، رأت طفلاً صغيراً ،
يقف متأملاً صورته ، في أعماق البركة الصغيرة ، الصافية ، وقد أولاها ظهره ، ترى
أين زوجها ، الحطاب العجوز ؟
وانتفض قلبها الشاب ، خوفاً وفرحاً ، حين التفت الطفل إليها ، ورأت في وجهه
، بشكل واضح تماماً ، ملامح زوجها ، الحطاب العجوز .
وما إن رآها الطفل ، حتى أسرع إليها فرحاً ، وقد فتح ذراعيه الطفلين ، فمدت
يديها بلهفة إليه ، وضمته إلى صدرها الأمومي الشاب .
آه أخيراً ، ها هو الطفل الذي
طالما تمنته زوجة الحطاب ، وهو يحمل الملامح التي أحبتها طول عمرها ، يقدمه هدية
لها ، النبع بمياهه الرقراقة ، وبركته الصغيرة ، الصافية ، كالمرآة .
13 / 8 / 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق