من نافذة القطار
سماح أبو بكر عزت
ليتنى زهرة جميلة تتفتح أوراقها، فتنشر البهجة والجمال.
ليتنى طائر حر طليق، عشه بحجم السماء، يغرد فيردد أنغامه كل الأطفال.. ليتنى وليتنى.. كل يوم، تكبر أحلامى المستحيلة.. وتشرق الشمس، فتتفتح الزهور، وتغرد الطيور، وتظل فى حقل القمح سنبلة صغيرة، لا أحد يشعر بوجودها ولا قيمة لها..
تتجدد أحلامى كل يوم مع صوت صافرة القطار، يمر كل يوم فى موعده، لا شىء يوقفه كطائر على الأرض يطير، يسابق الريح فى قوة وتحدٍ.
ليتنى أسكن نافذة القطار التى تصافح كل الأماكن والبلاد.. تسمعنى جارتى السنبلة العجوز، فتهز أوراقها قائلة فى عتاب: «لا تعرفين قيمتك أيتها السنبلة الصغيرة، فكما تحنو السماء على الأرض فترسل قطرات المطر التى تمنح كل الكائنات الحياة، تحنو الأرض بسنابل القمح الذهبية التى تتحول إلى غذاء، به تستمر الحياة، نحن وقطرات المطر أشقاء».
لا أقتنع بما تقول.. قطرات المطر حرة، طليقة، تتنقل كما تشاء، لكن سنابل القمح سجينة، جذورها تمتد فى باطن الأرض، صباحاً ومساء، صيفاً وشتاء..!
ذات شتاء، فى آخر يوم من أيام العام، سطعت الشمس فى السماء وأرسلت أشعتها الذهبية لتغمر الحقل بسخاء..
همس شعاع الشمس لكل سنابل القمح يسألها أمنيتها فى العام الجديد، تمنت سنبلة صغيرة أن تسكن قطعة حلوى لذيذة يفرح بمذاقها الأطفال، وحلمت جارتى السنبلة العجوز أن تسكن رغيف خبز شهياً طرياً يسد جوع الفلاح العجوز الذى تساقطت أسنانه، لكنه لا يزال يعمل بنفس النشاط والإخلاص.
فى المساء، هبت ريح حانية وحملت السنابل، طرنا وارتفعنا وتفرقنا.. وحملتنى نسمة رقيقة فحطتنى على نافذة القطار، أخيراً تحقق حلمى وصار حقيقة، نظرت حولى وشعرت بأننى صغيرة، وحيدة، أى نسمة هواء يمكنها أن تعصف بى، مر القطار أمام حقلى ووطنى ورأيته من بعيد، كم كان جميلاً، فسيحاً يتسع لكل السنابل ويضمها بحنان فتشعر بالأمان، تنعكس فوقه أشعة الشمس، فتشرق السنابل كقطرات من الذهب، يسطع القمر الفضى فتتلألأ كل سنبلة كقطرة من الفضة..
أطل راكبو القطار، وتأملوا حقل القمح بكل فرحة وأمل وانبهار.. توقف القطار قليلاً، فصعد إليه بائع الزهور وبائع الخبز والكعك. ضحك طفل صغير وهو يلتهم كعكة مستديرة.
رأيت ابتسامة جارتى السنبلة الصغيرة تطل من ملامحه البريئة الجميلة، وبكل الرضا والقناعة، أكل شيخ عجوز رغيف الخبز، ولمحت طيف جارتى السنبلة العجوز تدعو له بالصحة، وعرفت الفرق بين زهرة جميلة تمنح البهجة لكنها تذبل مع الوقت، وبين رغيف الخبز الذى يسد جوع طفل صغير وشيخ كبير.. الزهور جميلة، لكنها ليست مصدراً للحياة.. وبجوارى على نافذة القطار، وقف عصفور صغير يلتقط بسعادة فتات الخبز الذى تساقط من يد العجوز، وقطعة صغيرة من كعكة الطفل الصغير، ثم طار وهو يغرد لحناً جميلاً، بعدما ضمن قوت يومه، مهما حلق عالياً بين السحاب، يظل حلمه الدائم العش الآمن والبحث عن الغذاء.
من نافذة القطار، رأيت كل الأشياء، الحقول الخضراء، البلاد البعيدة، وكأننى طائر يحلق فى السماء.. وكلما رحلت، تمنيت أن أعود إلى حقلى، إلى الأرض التى ضقت بها وغادرتها، فضاقت على كل الأماكن، ولم أجد مكاناً أشعر فيه بالراحة والأمان.. من نافذة القطار رأيت الطائر يرحل، والزهرة تذبل، ووحدها سنبلة القمح، تتلاشى لتتحد مع جاراتها، وتصبح رمزاً للعطاء وللنماء، ينبض دوماً بحب الخير والجمال والحياة.
هناك تعليق واحد:
رائعة قصتك يا ماما سماح، تبعث على الانتماء وتحض على الخير والعطاء، مع الرضى بقدر الله، فلا فض فوك ، ودوما متألقة يا أختاه.
إرسال تعليق