يوم للموسيقى.
من 8 : 10 سنوات
الحسن
بنمونة
تفيأ الراعي ظل شجرة ، وراح يبث ألحانا شجية
من نايه المصنوع من القصب ، وعيناه لا تفارقان قطيع الخراف التي يرعاها.
كانت الأنغام تسري في رحاب الدنيا ، رقراقة
كماء يجري في جدول .
سرت
في نسغ الأشجار وفي دماء الحشرات وفي مسام الأرض ، تلقفتها مسامع الخراف فصارت
تلتهم العشب التهاما ، أما الحشرات فقد وقفت تنظر إلى بعضها بعضا محتارة ، هل تدنو
من مصدر هذه الموسيقى الملائكية أو تغرب عنها ، فربما تكون فخا من فخاخ صيادين
مغرمين بجمع أصناف الحشرات للتباهي بها أمام الأصدقاء .
قالت أفعى لزوجها الثعبان :
_ لم نعهد هذا من قبل . كان يأتي
المكان غرباء فينصبون شباكا أو فخاخا فنقع فيها مرغمين لأن الجوع دفعنا دفعا إلى
الهلاك . أما أن نسمع موسيقى تخلب اللب وتشد الانتباه فهذا يدعونا إلى وقفة تأمل .
رد الثعبان قائلا :
_ هذا صحيح . إنني أحس بها تسري في دمائي ، وتخفف أحزاني وغضبي ، ولكنني
أخشى أن تخفف مفعول سمي ، لأنني أعيش به ولا أستطيع الفكاك منه.
_ وأنا كذلك ، أحس بها ناعمة تجبرني على التخلي عن حقدي وكراهيتي لكل شيء
يلمس جلدتي مخافة أن يهلكني . الموسيقى تدب الآن في كياني . فلندن من مصدرها ،
ولنكن حذرين .
وصارا يقتربان من مصدر الأنغام
شيئا فشيئا ، لا يصدران أي حركة تثير الانتباه.
قال الذئب في نفسه وقد اعتلى ربوة متفرسا في
الخراف الآمنة : ( يبدو سعيدا وهو يمسك بنايه ، لا يهتم لغير الموسيقى الشجية . هو
يعرف أنها لا تنبت العشب ولكنها تنثر الأمان عليه فتبث فيه روح الحياة . أنا ذئب
لا يسعى إلا إلى الظفر بطريدة يأكلها . أعترف أنني أملك قلبا قاسيا لا يرحم ، ولكن
لم عيناي تشخصان فيه لا تطرفان ، وبدني متيبس لا يتحرك . في ذهني صفاء ، هو خلي من
أي حيلة كنت أحيكها للإيقاع بالخراف . تبدلت أحوالي .
فلأدن منه ولأطلب منه ومن خرافه
أن يسامحني .
لم ينتبه الراعي إلى أن أشكالا من الطيور حطت
على أغصان الشجرة التي يقتعد الأرض جنبها مسندا ظهره إلى جذعها . كانت أعناقها
مشرئبة، مدلاة تكاد تنقطع عن أبدانها . كلها تسترق السمع إلى الألحان الشجية فتنهلها
نهلا . لم تصدر همهمة ولا خشخشة حتى لا تعكر صفوه .
قدست رغبته في أن يبقى الآخرون
صامتين ، مصغين ، منبهرين .
تعلمت منه أن تزن نبرات أصواتها
لتلد تغريدا ما له مثيل في عالم الطيور.
وحيته بأن رفعت مناقيرها
وأنزلتها تحية التقدير ، ونفشت ريشها .
كانت الألحان تلج قلوبها
فتبكيها .
هذا الطائر تذكر رفيق صباه وقد
رحل إلى الجنوب ، وذاك تذكر ولده وقد رافق زوجه إلى الشمال ، وثالث ورابع ..
كانت الذكريات تنهمر عليهم
كالمطر .
خرجت الديدان من جحورها تسعى إلى الشجرة ، وكذلك
فعلت الحشرات ، حتى الصرار لم يستطع أن
يقاوم إغراء الخروج من تحت صخرة تؤويه ، ونحا نحو الراعي .
الأشجار تمايلت وكأن ريحا خفيفة تلمس أغصانها
وأوراقها . كانت تؤدي رقصة ما شهدت الغابة مثلها .
بثت
فيها ذكريات أليمة ، تذكرت السيول التي
جرفت أصدقاء أو صديقات فأبعدتها عنها،
وذكريات سعيدة لما حلت عليها طيور من جهات العالم تبحث عن المأوى فآوتها ، بنت
أعشاشها ونعمت بالأمان والسلام.
لم تثقل كاهلها أبدا .
الأشجار رحيمة بمن يستجير بها.
هي هكذا منذ القدم.
الشمس تكاد تغيب .
ستظلم الدنيا ويعود الراعي إلى
بيته ، وتعود الحيوانات إلى الغابة .
هذه فرصة لا تتكرر مرات عديدة .
لا تقدر بثمن ، لا تباع ولا تشترى.
فرصة تجتمع فيها الحيوانات ،
المفترسة والمسالمة .
لحظة كتب عنها الفيل الذي استهواه
جنون التأريخ قائلا : هذا يوم الموسيقى الذي آلف بين الصديق والعدو.
لم ينتبه الراعي إلى أن غرباء
عن بني جنسه يحيطون به من كل جانب .
لم يسمع لغطا ولا صخبا ولا عراكا
بين هذه الأبدان المختلفة الأشكال والأحجام .
كان يسبح في ملكوت الموسيقى ،
يرتل آياتها ، لا يخطئ الضرب ولا يبدي تبرما . يميل رأسه ذات اليمين وذات الشمال مستنشقا
شذى عطرا لا يحسه إلا العظماء .
عندما أنهى عمله ، دوت تصفيقات
الإعجاب .
رفع رأسه ليرى من فعل ذلك ،
فألفى نفسه أمام حيوانات تتزاحم لتحظى بنظرة من عينيه البراقتين .
قام واقفا وانحنى إجلالا لها .
قال مفتخرا :
_ كان الناس يمرون بي فلا
يعيرونني انتباها . كانوا يقولون لي محذرين : انتبه لخرافك فقد يأكلها الذئب أو
تسرح بعيدا . لم أكن أحلم أن يأتيني معجبون من عالم آخر . الآن فهمت أن الموسيقى
لغة الكائنات كلها ؛ لغة تمحو خلافنا وحروبنا.
وتفرقوا كل ذهب إلى حال سبيله
يردد في نفسه اللحن الذي تنسمه هذا اليوم .
لم يكن يوما عاديا . كان يوما
سجله الفيل بيوم الموسيقى .
ولدت كائنات جديدة في هذا اليوم .
كلها سميت باسم موسيقي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق