الصياد ووحوش الغابة
طلال حسن
" 1 "
ـــــــــــــ
أطفأ الصياد السراج ، بعد أن
أوت صغيرته " نونو " إلى فراشها ، واستغرقت في النوم . وتمدد في فراشه ،
وأغمض عينيه ، لعله ينام ويرتاح ، فقد كان متعباً ، ويريد أن يستيقظ صباح الغد مع
الشمس ، وينطلق على تنينه الطائر ، إلى الصيد في أعماق الغابة .
وتقلب في فراشه ، فقد تذكر الأفعى الشريرة ، ذات الرأسين البشعين، بأسنانها
الشبيهة بالخناجر ، التي كادت تفتك به ، لو لم يشعل المشعل ، الذي يحتفظ به لمثل
هذا الطارىء، ويجبرها على الابتعاد عنه .
وتقلب ثانية في فراشه ، آه أين النوم ؟ وتراءت له زوجته ، تحضن الصغيرة
نونو ، وتتوسل إليه قائلة : لم أعد أطيق البقاء في هذا المكان الخطر ، خذنا إلى
مكان آمن .
فرد عليها قائلاً : لقد ولدت وعشت في هذا المكان ، وأريد لابنتي أن تعيش
فيه أيضاً.
فضمت الزوجة نونو إلى صدرها ، وقالت : هذا المكان مليء بالوحوش ، ألا تخاف
على نونو ؟
وحدث ما كانت تخافه الزوجة ، فقد هاجمها الوحش ، قرب الجدول ، واختطفها
ومضى بها بعيداً ، وكانت صغيرتها نونو
نائمة في فراشها ، داخل البيت .
" 2 "
ــــــــــــ
استيقظ الصياد مبكراً ، رغم
أنه نام متأخراً ليلة البارحة ، فتناول فطوره مع صغيرته نونو ، ثم أخذ فأسه ، وقال
: بنيتي ، سأذهب الآن للصيد .
ونهضت نونو ، ورافقته إلى الخارج ، وهي تقول : لا تتأخر ، يا أبي .
وابتسم الأب ، وقال : هل أنت خائفة ؟
فردت نونو قائلة: إنني ابنتك .
وضحك الأب ، وقال : أعرف هذا ، أنت بطلة .
وركب الأب تنينه الطائر ، وفأسه في يده ، وقال : لا تخرجي من البيت مهما
تأخرت .
وهزت نونو رأسها ، وقالت : نعم ، يا أبي .
واستحث الأب تنينه الطائر ، وانطلق به صوب أعماق الغابة ، وهو يقول : أغلقي
الباب ، ولا تفتحيه لأحد .
وحلق التنين الطائر في الفضاء ، حاملاً الصياد على ظهره ، حتى غاب عن
الأنظار . وتلفتت نونو بحذر حولها ، ثم دخلت البيت ، وأغلقت الباب خلفها . وبدأ
الخوف والقلق يتسللان إلى أعماقها ، عندما تذكرت كيف أن الوحش ، هاجم أمها عند
الجدول ، واختطفها ، ومضى بها بعيداً ، ومنذ ذلك اليوم ، لم يظهر لها أثر في أي
مكان .
" 3 "
ـــــــــــــ
انطلق الصياد على تنينه الطائر
، فوق أشجار الغابة ، وعيناه تركضان يميناً ويساراً ، تبحثان عما يمكن أن يصطاده ،
ويعود به إلى البيت .
آه كم تحب صغيرته نونو الغزلان ، وخاصة الصغيرة منها ، وهز رأسه حزناً
وأسفاً ، فقد كانت زوجته تحب الغزلان أيضاً ، وتفضلها على الطيور والأرانب .
ومن بعيد لاح له غزال فتيّ ، يعدو بخفة ورشاقة ، بين الأشجار ، فمال
بالتنين نحوه ، وهمّ أن يطارده ، والفأس يلمع في يده ، وإذا به يسمع أحدهم يصيح
بصوت مختنق : النجدة .. النجدة .. النجدة
.
وبدل أن يلاحق الغزال الفتيّ ، ويحاول اصطياده ، استدار بالتنين الطائر ،
وانطلق نحو مصدر الصوت ، وفوجىء بالشجرة المفترسة ، تحيط بأغصانها المتشابكة كائناً
ضخماً ، ذا عين واحدة ، كأنه الغوريلا ، وتوشك على تحطيم أضلاعه ، والفتك به ، ثم
افتراسه .
وانقض الصياد بالتنين على الشجرة المفترسة ، وانهال بفأسه على أغصانها
الواحد بعد الآخر ، حتى أخمد أنفاسها . ونهض ذو العين الواحدة ، من بين الأغصان
الممزقة ، وانحنى أمام الصياد ، وقال : شبيك لبيك عبدك بين يديك .
ومد الصياد يديه إلى ذي العين الواحدة ، وأنهضه بهدوء ، وقال : أنا لا
أريدك عبداً ، بل رفيقاُ عزيزاً .
فأحنى ذو العين الواحدة رأسه قليلاً ، وقال : هذا شرف لي ، يا رفيقي .
" 4 "
ــــــــــــــ
التفت الصياد إلى التنين
الطائر ، وقال : والآن لنذهب ، ونصطد غزالاً ، من أجل صغيرتي نونو .
ووقف التنين الطائر ، وقد بدا عليه التعب ، وقال : كما تشاء ، يا سيدي ،
لنذهب ، هيا .
وحدق الصياد في التنين الطائر ، وقال : آه ، يبدو أن المعركة مع الشجرة
المفترسة قد أتعبتك .
وهمً التنين الطائر أن يعترض ، فسارع ذو العين الواحدة إلى مقاطعته قائلاً
: إنه متعب فعلاً ، ليرتح قليلاً ، ولنذهب أنا وأنت ، ونصطاد غزالاً لصغيرتك .
ولاذ الصياد بالصمت لحظة ، ثم التفت إلى التنين الطائر ، وقال : اذهب أنت
إلى البيت ، وابقَ مع نونو ، ريثما نصطاد الغزال ، ونلحق بك .
تراجع التنين الطائر ، وهو يقول : كما تشاء ، يا سيدي .
ثم حلق متجهاً نحو البيت ، وتراءت له نونو ، التي تحبه كثيرا، وحيدة في
البيت ، فأسرع في طيرانه ، ليصل إليها في أسرع وقت ممكن .
وتناهى من بعيد صوت غزال أو أكثر ، فهتف ذو العين الواحدة : رفيقي ، هناك
أكثر من غزال ، اركب فوق ظهري ، ولنبدأ الصيد .
وأسرع الصياد ، والفأس في يده ، ووثب فوق ظهر ذي العين الواحدة ، وصاح :
هيا فلننطلق .
وانطلق ذو العين الواحدة ، والصياد فوق ظهره ، يشق طريقه كالريح بين
الأشجار ، ومن بعيد لاح غزالان ضخمان يلوذان بالفرار ، فانطلقا في أثرهما ،
وكأنهما يقولان لهما أين المفر ؟
" 5 "
ـــــــــ
قبيل منتصف النهار ، توارت
الشمس وراء الغيوم ، وانحدرت الرياح راكضة من قمم الجبال ، التي تجللها الثلوج .
ورغم ملابسها الصوفية الثقيلة ، شعرت نونو بالبرد يتسلل إلى أعماقها . وكما يفعل
أبوها ، وضعت عدة قطع من الخشب في المدفأة ، وأضرمت فيها النار ، وسرعن ما بدأ
الخشب يشتعل ، وترتفع منه ألسنة اللهب ، وتتطاير حوله الشواظ المشتعلة .
وجلست أمام الموقد ، وقد شاع الدفء في البيت كله ، وراح النعاس ، على الرغم
منها ، يتسلل بهدوء إلى جفنيها ، ويقربهما من بعضهما شيئاً فشيئاً ، حتى أطبقهما
تماماُ .
ومن بين ألسنة اللهب ، ارتفع ضجيج وصراخ عاليين ، يصمان الآذان ، وفتحت
نونو عينيها المذعورتين ، وإذا الوحش ، الذي فاجأ أمها قرب الجدول ، واختطفها
بعيداً ، يندفع إليها من خلال الموقد المشتعل ، مندفعاً نحوها ، وكأنه كتلة من
اللهب .
وتراجعت زاحفة إلى الوراء ، وتمنت لو كان لها جناحان مثل الطيور ، لتفر
بهما من هذا الوحش ، وتنطلق بعيداً عنه ، إلى أبيها في الغابة ، ولكن آه هذه أمنية
مستحيلة ، فليس لها الآن ، ولن يكون لها ، جناحان أبداً .
واقترب الوحش منها ، وقد فتح فمه على سعته ، وبرزت أنيابه القاتلة ، وهمّ
أن ينهشها ، حين دُفع الباب بقوة ، واندفع مقبلاً عبره التنين الطائر . وتصدى
بشجاعة للوحش ، وحال بينه وبين الصغيرة نونو .
جنّ جنون الوحش ، فلطم التنين الطائر بكفه المسلحة بمخالب كالخناجر ، وصرخ
التنين الطائر متوجعاً ، وكاد يتهاوى على الأرض ، لكنه سرعان ما تمالك نفسه ،
وأسرع نحو نونو ، وأخذها بين ذراعيه ، وانطلق بها عبر الباب إلى الفضاء . وحاول
الوحش اللحاق به ، لكن دون جدوى ، ووقف لاهثاً ، يتطاير الشرر من عينيه ، مراقباً
إياه ، وهو يحلق بالصغيرة نونو ، مبتعداً بها عن الخطر .
" 6 "
ـــــــــــــ
أمسك الصياد بأحد الغزالين
الفتيين ، وترك الآخر ينطلق حراً بين الأشجار . وأخذ رأسه بين كفيه ، وراح يتأمل
عينيه السوداوين الجميلتين ، ثم قال مبتسماً : ستفرح نونو به .
وحدق ذو العين الواحدة فيه ، وكأنه يسأله : ترى من هي نونو ؟
واتسعت ابتسامة الصياد ، وقال : بشرة بيضاء كالثلج ،
وعينان زرقاوان كسماء الصيف ، و ..
وصمت لحظة ، وقد ظللت وجهه غمامة حزن ، ثم قال : صورة مصغرة من أمها
الراحلة .
وصمت ثانية ، فقال ذو العين الواحدة : لنذهب ، يا رفيقي ، أريد أن أرى نونو
.
وركب الصياد على ظهره ، والغزال بين يديه ، وقال : ستفرح نونو بك أيضاً ،
فأنت كائن طيب .
وانطلق ذو العين الواحدة يركض بين الأشجار ، مبتعداً قدر المستطاع عن أغصان
الأشجار ، التي تعترضهم ، خشية أن يصاب الصياد بأذى .
ومن بعيد لاح البيت من بين الأشجار ، فأشار الصياد إليه فرحاً ، وقال : ذاك
هو بيتنا .
وتطلع ذو العين الواحدة إليه متشمماً ، وتمتم بتوجس : أشم رائحة غريبة .
وتظاهر الصياد بالضيق ، وقال : ماذا ؟ نونو رائحتها كرائحة الورد .
وهزّ ذو العين الواحدة رأسه ، وقال : لا يمكن إذن أن تكون هذه رائحة نونو .
ونظر الصياد إلى البيت مدققاً ، ثم قال : أنت تثير قلقي ، فلنسرع إلى البيت
، عسى أن تكون وساوسنا في غير محلها .
وانطلق ذو العين الوحدة بالصياد والغزال ، يسابق الريح إلى البيت ، وكل
أمله أن يرى الثلج ، وسماء الصيف الزرقاء ، لا تعكرهما غمامة خطر واحدة .
" 7 "
ــــــــــــــ
لم يرَ الصياد صغيرته نونو
تنتظره كالعادة مبتسمة بالباب ، هاتفة بأعلى صوتها : ماذا اصطدت لي اليوم ؟
وإنما رأى الوحش ، يسد مدخل البيت بجسمه الضخم البشع ، وقال : هذا ليس نونو .
وتلفت الصياد حوله متسائلاً : ترى أين نونو ؟
وتوقف ذو العين الواحدة ، وقال : الأفضل أن تترجل ، يا رفيقي .
وترجل الصياد ، وأطلق الغزال ، دون أن يرفع عينيه عن الوحش ، ثم قال : أظن
أن هذا الوحش ، هو الذي اختطف زوجتي .
زمجر الوحش غاضباً ، فتقدم ذو العين الواحدة منه ، وقال : سيدفع الثمن
غالياً ، وفي الحال .
وهتف الصياد قائلاً : توقف إنه وحش فتاك .
لم يتوقف ذو العين الواحدة ، حتى عندما انقض عليه الوحش ، وقد رفع يديه
المسلحتين بمخالب قاتلة كالخناجر، وأهوى بهما عليه ، يريد تمزيقه . وعاجله ذو
العين الواحدة بضربة من كفه الضخمة القوية ، جعلته يترنح ، ويتهاوى نحو الأرض .
وقبل أن يتمالك نفسه ، ويتهيأ للانقضاض ثانية ، لطمه ذو العين الواحدة لطمات سريعة
على رأسه ، جعلته يفقد توازنه ، وأخيراً ، رفع يده عالياً ، وبكل ما يملك من قوة ،
لطمه على وجهه ، وندت من الوحش صرخة متوجعة ممطوطة ، هوى بعدها على الأرض فاقد الحياة
.
والتفت ذو العين الواحدة إلى الصياد ، وقال : لن يؤذي أحداً بعد الآن ، لقد
دفع الثمن .
وانتقض الصياد ، وانطلق إلى الداخل هاتفاً : نونو .
وظل ذو العين الواحدة جامداً في مكانه ، لا يلتفت يميناً أو يساراً ، وبعد
قليل عاد الصياد ، وحدق في ذي العين الواحدة ، وقال بصوت مرتعش : لا أثر لنونو .
والتفت ذو العين الواحدة إليه ، وقال : وكذلك التنين الطائر .
والتمعت فكرة في رأسه ، فقال وهو يندفع إلى الخارج : لعلهما هربا إلى الغابة
، تعال معي .
وعلى الفور ، استدار ذو العين الواحدة ، ومضى مسرعاً في أثر الصياد .
" 8 "
ـــــــــــ
انطلق الصياد ، متوغلاً في
الغابة ، يتبعه ذو العين الواحدة ،بخطواته الثقيلة ، كأنه يدك الأرض دكاً ، واتجه
نحو الكهف ، المطل على النهر ، فهو يعرف التنين الصغير ، ويعرف أين يمكن أن يأخذ
صغيرته " نونو " عند الخطر .
وصعد التل المؤدي إلى الكهف ، لكن ذا العين الواحدة ، توقف ، وقال : أشمّ
رائحة .
وتباطأ الصياد ، وهو يقول : اتبعني ، لابد أنهما في الكهف ، إنني أعرف منك
بالتنين .
وهزّ ذو العين الواحدة رأسه ، وهو يتلفت ، ثم قال : إنهما ليسا في الكهف .
وتراجع قليلاً ، ثم انحدر نحو النهر ، الذي كانت مياهه تضج متدافعة في
مجراه الصخري الضيق ، ثم صاح : أرأيت ؟ إنهما هناك ، عند الشاطىء .
وسار بخطواته الثقيلة ، يدك الأرض دكاً ، وتبعه الصياد هذه المرة ، وعيناه
تركضان أمامه ، تبحثان عن صغيرته " نونو " والتنين الصغير .
وتوقف ذو العين الواحدة ، وقال بنبرة قلقة حزينة : لا يبدو أن التنين بخير
.
وصاح الصياد ، دون أن يتوقف : ونونو ؟
وأشار ذو العين الواحدة بيده ، وقال : أنظر ، لابد أن تلك هي نونو .
واجتازه الصياد مسرعاً ، لكنه تباطأ حتى توقف ، حين رأى صغيرته " نونو
" تجثو على رمال الشاطىء ، وأمامها يرقد التنين الصغير بلا حراك .
وجثا الصياد إلى جانب صغيرته " نونو " متمتماً : نونو ، ماذا جرى
؟
وردت نونو من بين دموعها : بابا .. التنين .
وأخذ الصياد صغيرته " نونو " بين ذراعيه ، وقال : لا عليك ،
التنين سيكون بخير .
وفتح التنين عينيه الذابلتين ، وقال : أبا نونو ، آه الآن أستطيع الرحيل
مرتاحاً .
وانحنى الصياد عليه ، وقال : أنت بخير ، اطمئن .
فقال التنين بصوت متحشرج : الوحش اللعين ، لقد خرج على ما يبدو من وسط
نيران الموقد ، وكاد يخطف نونو ، لو لم أتصدّ له ..
وصمت لحظة ، ثم أضاف بأنفاس متقطعة : ولكن .. قبل أن أطير بنونو .. بعيداً
عن الخطر .. قاصداً الكهف .. ضربني الوحش .. بمخالبه القاتلة .. و ..
وقاطعه الصياد ، وهو ينهض محتضناً صغيرته " نونو " ، وقال :
اطمئن ، جراحك ليست خطيرة ، سآخذك إلى الكوخ ، وأعالجك حتى تشفى .
مالت الشمس متعبة إلى الغروب ، حتى لامست خط الأفق ، وقبل أن تنحدر مبتعدة
، رأت الصياد يحمل صغيرته " نونو " ، متوجهاً نحو الكوخ ، يتبعه ذو
العين الواحدة ، حاملاً برفق .. التنين الصغير .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق