نُسَيبَةُ
بِنتُ كَعبٍ الأنصاريّةُ
امرَأَةٌ
مِن أَهلِ الجَّنَّة.
بقلم: عبد الله
لالي
قالت نسيبة بن كعب الأنصاريّة للرّسول صلّى الله عليه وسلّم:
-
اُدْعُ
اللّهَ أَنْ نُرَافِقَك فِي الْجَنّةِ..
فقَالَ صلى الله عليه وسلم: " اللّهُمّ
اجْعَلْهُمْ رُفَقَائِي فِي الْجَنّةِ."
استقَيظَتْ نُسَيبَةُ بنتُ كعبٍ باكرا،
قبلَ كلِّ أفرادِ أسرَتِها بَلْ إنَّها لم تَنمْ منَ اللّيلِ الاّ أقلَّه، كان
الشوقُ يُرقِصُ قلبَها فأسرعَتْ وأيقَظَتْ ابنَها عبدَ الله وزوجَها زيدا بنِ
عاصمٍ فقال لها ابنُها عبد الله:
-
ما يزالَ الوقتُ مُبَكِّرًا يا أمَّاهُ فلِمَ العجلةُ..؟ ثمّ أنّي قلتُ لكِ
بالأمسِ لا دَاعِيَ لذَهَابِكِ أنتِ، سأرافِقُ أنَا أبي وعندَما نرجِعُ نأتيكِ
بتفاصيلِ كلِّ مَا حَدَثَ مَعَنَا.. !
قَالَتْ نُسَيبَة:
-
يا لَكَ مِن وَلَدٍ جَاحِد.. ! أتريدُ أن تَمنَعنِي مِنْ حضورِ
أوّلِ لقاءٍ بالنبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ يَشهَدُه أهلُ يَثرِبَ، أَتُرِيُد أن
يَفُوتَنِي لُقُاءُ نَبِيّ آخرِ الزَّمَانِ والفَوزُ بهذَا الشَّرَفِ العظيمِ..لا
واللهِ إنَّ ذلكَ لَنْ يكونَ أبدًا.
ابتسم زوجها زيدٌ وهو ينظر إلى ابنِه
عبدِ الله وقال:
-
أنت تعرف أمّك يا عبد الله إذا صمّمت على شيء أو أرادت أمرا فلن يُثْنِيهَا[1]
أحدٌ عن ذلك، دَعْهَا وما تُرِيدُ فقَدْ مَلأَ نورُ الإيمانِ قلبَها وترغَبُ في أن
تحظَى برؤيةِ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم والحديثِ إليه.
فقالَ عبدُ اللهِ:
-
واللهِ لقد أشفقتُ عليها من مشقّةِ السَّفرِ ورَهَقِ[2]
الطَّريق، فإذا كانت مُصِرّةً فلا بأس ولها ما أرادت.
وانطلقَتْ
الأسرةُ المؤمنةُ منْ يَثرِبَ في وفدٍ[3]
كبيرٍ مُكَوَّنٍ من سبيعين رجلا وامرأتين، وهم في أشدِّ الشوقِ واللّهفةِ للقاءِ
نبيِّ آخرِ الزّمانِ؛ محمّدٍ بنِ عبدِ اللهِ الّذِي حدّثَهم عنْهُ معلِّمُ القرآنِ
الرّائعِ مصعبُ بنِ عُمَير..
وكان
اللِّقاءُ في مكةَ في ليلة مظلمة لكنّها أشعّت بنور الرّسول البهي، لقد التقوا به
عند مكان يسمّى العقبة خارج مكة المكرّمة، وبايع كلّ من جاء من يثرب الرّسول صلّى
الله عليه وسلّم على أن يُهاجر إليهم في بلدهم فيحمونه ويدافعون عنه، ويعينونه على
نشر دعوة الإسلام، وكانت المبايعة مصافحةً، إلاّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
بايعَ نسيبةَ بنتِ كعبٍ والمرأةَ الثانيةَ وهي أسماء بنت عَمرو بالإشارة من بعيد
لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يجوز له مصافحة النّساء.
وأشرق
نور الإيمان في قلب المرأة العظيمة فقرّرت أن تبذل حياتها كلّها في سبيل الإسلام،
فلمّا هاجر النبيّ صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة المنوّرة كانت مع الحشد العظيم
الذي استقبله في المدينة المنوّرة، وظلّت ملازمة له في المسجد تحضر معه الصلوت
وتتعلّم القرآن والعلم إلى أن خرج الرّسول صلّى الله عليه وسلّم للقتال في معركة
أحد؛ فخرجت معه هي وابنُها عبد الله وزوجُها زيدٌ..
وكانت
نُسَيبةُ أثناءَ المعركةِ تسقي المقاتلين بالماء، وتُضمِّد جراحَ القتلى..وفي
بداية الأمر انتصر المسلمون ولكن بعد هجومِ خالدٍ بنِ الوليد بالخيل على المسلمين
من الخلف، ونزولِ الرماة من الجبل بدأ جيش المسلمين ينهزم ويتراجع، وبقي النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم وحده في الميدان ومعه نفرٌ قليل من المقاتلين، فَرَأَتْ
نُسيبةُ بنتُ كعبٍ ذلك، فقامت بشدِّ ثيابِها على جسمها وحملت سيفا، واندفعت تقاتل
دفاعا عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، ولكن لم يكن معها ترس[4]
تحمي به نفسَها مِنَ الأعداءِ، فنَظَرَ إليها النبيّ صلّى الله وسلّم فخافَ أن
يصيبَها أحدُ الكفّارِ بسهم أو رُمحٍ فصرخ في بعض المقاتلين الفارِّين أن يلقي ترسَه
لمن يقاتلُ، فألقاه الرّجل وأخذَتْه نُسيبةُ وجعلت تدافع به عن نفسِها وعن النبيّ
صلّى الله عليه وسلّم.
وجاء
ابنُها يدافع أيضا عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، فرأى أحدَ المشركين يريد
الاقتراب من النبيّ عليه الصّلاة والسّلام يرغب في قتله؛ فقذفه بحجر فأصاب عين
فرسه فسقط هو والفرسُ على الأرض فواصل عبد الله رميَ الحجارة عليه حتى قتله.
ثمّ
اقترب فارسٌ آخرُ منه وضربه حتّى جرحَه فجاءت إليه أمّه وضمّدت جرحه، ثمّ قالت له:
-
انهض ودافع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وكان
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يشاهد هذا المنظرَ العجيبَ فقال:
"
مَن يُطِيقُ ما تُطِيقِينَ يا أمَّ عُمَارة "
وقام
ابنها عبد الله يقاتل من جديد، فلمّا رجع الفارس الذي جرحه ضربه بالسيف حتى أسقطه
عن حصانه، وجاءت إليه أمّه وعاونته على قتله فقتله معها، وفي تلك المعركة أصيبت
أمُّ عُمارةَ إصابةً شديدةً في كتفها ظلت عاما كاملا وهي تداويها.
وفي
معركة ( أحدٍ ) لما رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شدّة قتال أمّ عمارة وابنِها
وزوجِها قال:
"
اللَّهمَّ اجعَلهُم رُفَقَائِي في الجَنّة "
وفي
آخر حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ظهر في اليمامة رجل كذّاب اسمه مسيلمةُ،
زعم أنّه نبيّ وشريك للرّسول صلّى الله عليه وسلّم في تلقي الوحي ودعوة الإسلام،
فأرسل إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم شابا بطلا شجاعا اسمه حبيبٌ ابن نُسَيبةَ
بنتُ كعب الأنصاريّةِ برسالة، فلمّا دخل عليه قال له:
-
هل تشهدُ أنَّ محمّدا رسول الله
فقال
حبيب:
-
نعم أشهد..
فقال
مسيلمةُ الكذّابُ:
-
وهل تشهدُ أنّنِي رسول الله..؟
فقال
حَبِيبٌ:
-
أنا أصمُّ لا أسمَعُ..
فاغتاظ
مسيلمةُ من ذلك غيظًا شديدًا وأعادَ سؤالَه مرّةً أخرى وهو يَكادُ يَنفَجِرُ من
الغَضب:
-
أتشهد أنّ محمّدا رسول الله..؟
فيقول
حبيبٌ:
-
نعم أشهد..
فقال
مسيلمةُ الكذّابُ:
-
وهل تشهدُ أنّي رسولُ اللهِ ..؟
فقال
الفتى الشجاع حبيب:
-
أنا أصمّ لا أسمع..
فأمر
مسيلمة بتقطيع جسمه عضوا عضوا ..وكلّما قطعوا منه عضوا؛ يسألونه:
-
هل تؤمن أنَّ مسيلمةَ نبيٌّ ..؟
فيقول
رغم الألم والجراح في صبر وثبات:
-
أنا أصمٌّ لا أسمع..
وظلّ
على تلك الحال وهم يقطّعونه عُضوًا عُضوًا إلى أن مات شهيدا في سبيل الله، فلمّا بلغ
خبر استشهاده أمّه قالت:
-
لمثل هذا أعددته وعند
الله احتسبته..
وصبرت واحتسبت وتمنّت لو أنّ الله
يمكنها من الانتقام من مسيلمةَ الكذّاب..
ومرّت الأيّام ومضت الشهور وتوفيَ
الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم، وأصبحَ أبُو بكرٍ الصّديقُ خليفةً من بعده،
واشتدّ أمرُ مسيلمةَ الكذّابُ وتبعه قومه وآمنوا به نبيّا، رغم علمهم بأنّه كذّاب
تعصّبا وجهلا، فقد قال له مرّة أحدُ أتباعه من قومه:
-
إنّ محمّدا ينزل عليه قرآن ..فهل ينزل عليك قرآن ..؟
فقال مسيلمة:
-
أنا أيضا ينزل عليّ القرآن .. !
فقال الرّجل:
-
اقرأ علينا منه شيئا..
فقال مسيلمة:
-
اسمع إذاً لقد نزل عليّ من السّماء ( يا ضفدعُ يا ابنةَ ضفدَعَينِ..نُقِّي
أو لا تَنُقِّينَ..نِصفُك في الماء ونصفك في الطّين.. ).
فضحك الرّجل حتى كاد يسقط على
الأرض ثمّ قال:
-
والله يا مسيلمةُ أعلمُ أنّك كذّابٌ وما نزل عليك وحي ولا شيء من السّماء،
ولكن كذّابُ بني حنيفةَ قومِنا خيرٌ من صادقِ قريش محمدِ بنِ عبد الله؛ البعيد
عنّا نسبًا وعشيرةً.
وأمر
الخليفة أبو بكر الصّديق خالدَ بن الوليد ليخرج في جيش كبير لمواجهة مسيلمةَ
الكذّابِ، فجاءت أمّ عُمارة إلى أبي بكر رضي الله عنه واستأذنته أن تخرج مع الجيش
لتقاتل عدوّ الله مسيلمةَ الكذّابِ، فقال لها أبو بكر:
-
حُقّ لكِ أن تخرجي مع الجيش يا أمّ عُمارة فقد قاتلت مع رسول الله في معركة
( أحد ) قتالا شديدا، شهد لك به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بدخولك الجنّة، ولن
أمنعك من المشاركة في هذه المعركة ضدّ مسيلمة الكذّاب وقد قتل مسيلمة ابنَك حبيبا.
وخرجت أمّ عُمارةَ نسيبةُ بنتُ كعبٍ
مع الجيش وشاركت في معركة ( حديقة الموت ) باليمامة، وكان لها فيها مواقفُ من
البطولة باهرةً، أراد أحد جنود مسيلمة أن يضربها بالسيف وجرحها جرحا خفيفا، فردّت
عليه بالضربة ضربات فولّى هاربا، ثمّ بعد فترة من القتال وجدت الرجل الذي ضربها
مقتولا وقربه فارس شجاع يمسح سيفه، فلمّا اقتربت منه عرفته فصرخت فرحة:
-
أنتَ قتلتَ هذا الخبيثَ يا عبدَ اللهِ ؟
فقال
ابنُها عبد الله :
-
أجل يا أمّي أنا قتلتُه..
فقالت أمّ عُمارةَ:
-
الحمد لله الذي أظفَرَكَ به، فقد جرحني وكاد يقتلني بسيفه، ولكنّي رددت
عليه الضربةَ ضرباتٍ
فقال عبد الله:
-
أعلم أنّكِ شجاعةٌ يا أمّي لا يُخشى عليكِ..
فقالت أمُّ عُمارَة:
-
ولكن ماذا فعل المسلمون بمسيلمةَ..؟ هل ظفروا به ؟
فقال عبد الله:
-
ابشري يا أمّاه لقد قتله وحشيٌّ الذي قتل حمزة رضي الله عنه، وقال: لقد
قتلتُ مسيلمةَ عدوَّ الله برمحي، كما قتلت حمزةَ أسدَ الله برمحي فعسى أن يَغفِرَ
لي اللهُ قتلَ حمزةَ. ولقد اشتركتُ مع وحشيّ في قتله.
وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
يزورها في بيتها، وزارها ذات يوم فقدّمت له طعاما، فأكل منه النبيّ صلّى الله عليه
وسلّم ولم تأكل هي فقال لها:
-
كلي.. !
فقالت أمّ عمارة:
-
إنّي صائمة يا رسول الله..
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
" إذا أُكِل عند الصائمِ الطعامُ صلَّتْ عليه الملائكةُ "
لقد كانت امرأةً مجاهدةً صالحةً تحبُّ اللهَ
ورسولَه، عاشت طولَ حياتِها في خدمةِ الإسلام والدّفاعِ عنه، وتوفيت عام 13 هـ في
خلافةِ عمرَ بنِ الخطّابِ رضي الله عنه.رحمها الله رحمة واسعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق