زوزان صالح اليوسفي
كانت الساعة تشيرُ إلى العاشرة والنصف ليلاً حينما تقدم
الأب نحو غرفة أبنهِ طارق بخطوات سريعة، والغضب يملأ تقاسيم وجههِ، وبالكاد كان
يسيطرُ على أعصابهِ؛ حيث أقلق نومه صوت أبنه طارق مِن خلال غرفتهِ وهو يلقي هذه
الأبيات الشعرية بحماس وبصوت مرتفع قائلا:
رَكِبْنا سَفِيناً بالمَجاز مُقيّراً
عسى أنْ يكونَ اللهُ مّنا قد اشْترَى
نفوساً وأموالاً وأهلاً بجّنةٍ
إذا ما اشتهينا الشئَ فيها تيَسّرا
وبينما طارق مشغول بإدائهِ المسرحي وعَالمهِ الخيالي،
فتح والدهُ الباب ليرى أبنهُ طارق واقفاً على سريرهِ وفي يدهِ سيفاً مِن لعبِ
الأطفال يُحركهُ يميناً ويسراً وهو يرددُ تلك الأبيات وكأنهُ في ساحةِ الوغى.
فأنتبه طارق وتسّمرَ في مكانهِ وهو يُحدق إلى والدهِ وقد
أحمّر وجههُ خجلاً وضاعت الكلماتُ بين شفتيه.
فنظرَ إليهِ والده بغضب يشوبهُ بعض الندم والعطف وسأل
قائلا: ما الذي جرى يا طارق؟!، أراك وكأنك في ساحةِ المعركة، صوتك يا بُنّي يصل
إلى آخر الجار! كما إنك أقلقت نومي وأنت تعرف أن أمامي عملٌ شاق غداً، لقد كبرت يا
ولدي على هذه الأدوار الصبيانية وسوف تبلغ الخامسة عشر مِن عمرك بعد شهور قليلة!
أجابَ طارق بإرتباك وخجل قائلا: آسف يا أبي، كنتُ أمثل
دوراً مَسرحياً ضمن نشاطاتنا في المَدرسة، ويجب أن أتدربَ جيداً لأفوز بهذا الدور،
فغداً سيكون هناك أختبارٌ لإختيار مَن الأفضل بين الطلبة ليمثل دورَ القائد طارق
بن زياد في المسرحية، في الحقيقة يا أبي أمنيتي أن أفوز بهذا الدور، فأنت تعلم بأن
جديِّ أسماني طارق على أسم القائد طارق بن زياد.
ثم أخذ طارق كتاباً مِن مكتبتهِ، وأستمر قائلا: أنظر يا
أبي هذا كتابٌ رائع عن سيرة البطل طارق بن زياد لقد أهداني إياها جديِّ بعد أن
أخبرتهُ بموضوع المَسرحية، ورغبتي في تمثيل دور البطل طارق، فشجعني ونصحني أن أتقن
دوري جيداً، وغداً سوف يأخذني جديِّ في رِحلة إلى سواحل البحر ليُطلعني على
المَواقع التي أنطلقَ مِنها القائد طارق بن زياد مع جيوشهِ لأكون على دراية تامة
بتمثيل دوري في المَسرحية، أنا آسف يا أبي لإزعاجك، لا شك أن صوتي كان مُرتفعاً،
لقد تحمستُ أثناء إلقائي القصيدة، والتي هي نفس القصيدة التي ألقاها البطل طارق بن
زياد على جندهِ حينما عبرَ المضيق.
سأل الوالد ببعض الفضول قائلا: وهل كان طارق بن زياد
شاعراً!؟
فأجاب طارق بحماس قائلا: أجل يا أبي لقد كان بطلاً
وشاعراً وخطيباً أيضاً، ألم تسمع خطبتهِ المشهورة حينما وصل اليابسة في بلادِ
الأندلس، لقد أحرقَ جميع السُفن التي عبروا البحر بها لكي يقطع طريق العودة على
جنودهِ ليجعل كل همِهم في النضال، وحينها خاطب جنوده خطبتهِ المشهورة التي قال لهم
فيها: أيُّها الناس أين المفرُ؟ البحرُ مِن ورائكم والعدو أمَامكُم وليس لكُم
والله إلا الصدق والصبر، وأعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع مِن الأيتام في مأدبة
اللئام.
هل تريد يا أبي أن أكُمل خطبتهِ؟، لقد حفظتها مِن أجل
المَسرحية.
أحتارَ الأب والنعاس يملأ جفونه، وبعد صمت ردَ بحنان
قائلا: حسناً يا عزيزي لقد شوقتني لقراءة الكتاب عن سيرةِ هذا القائد العظيم،
للأسف أن معلوماتي قليلة عن هذا البطل وإني أخجل بصراحة مِن ذلك، وأوعدك بأنني سوف
أستعيرُ مِنك الكتاب لأطلعَ عليهِ، أما بالنسبة لخُطبهِ، فأنا مُتشوق لِسماعها ولكنني
الآن مُتعبٌ جداً وأحتاجُ إلى النوم، لذا أرجوا مِنك يا عزيزي أن تؤجل ذلك إلى يوم
إجازتي حتى أتفرغ لك فيها.
فأجاب طارق بسعادة قائلا: حسناً يا أبي كما تريد.
وردَ الأب بحنان قائلا: والآن يا بُني يجب أن تنام
فالساعة قد تجاوزت العاشرة، وأنت على موعد غداً برفقة جدِك، يجب أن تأخذ قسطاً مِن
النوم لتكون نشيطاً ومُستعداً للرحلةِ.
فأجاب طارق بلهفة قائلا: حسناً يا أبي أنت على حق ولكن
أرجوا أن لا تخبر إخوتي بأنني كنتُ أقلدُ البطل طارق بن زياد؛ حتى لا يسخروا مني.
فأبتسم الأب قائلا: حسناً يا طارق، وأنت أيضا لا تخبرهم بأنني
أجهل عن القائد طارق بن زياد، لأنهم أيضاً سيسخرون مني لقلة معلوماتي.
فأجاب طارق مُبتسماً قائلا: بالتأكيد يا أبي سوف لن
أخبرهم.
فردَّ الأب بحنان قائلا: والآن أطفئ النور يا عزيزي،
وتصبح على خير .
فأجاب طارق قائلا:
تصبح على خير يا أبي .
أستلقى طارق في فراشهِ وأخذ كتابهِ عن سيرة طارق بن زياد
بين أحضانهِ وأغمضَ عينيهِ وغاصَ في نوم عميق.
رأى نفسهُ وحيداً في منطقةٍ جبلية، والبحرُ أمامهُ على
مدى البصر، وصوت الأمواج الهادئة على الساحل تملأ صداها المكان والشمسُ تقتربُ مِن
المَغيب، أخذ طارق يجول ببصرهِ لعلهُ يستكشف أين هو مِن هذا البقعة على الأرض، تفاجئ
حينما رأى رجلاً جالساً على إحدى الصخور، يبدو عليهِ مِن خلال ملابسهِ وسيفهِ
المُتدلي على خاصرتهِ كأنهُ قائداً مِن قوادِ المعارك التأريخية القديمة، كان يبدو
طويل القامة، ضخم الهامة، ذا هَيْبة ووقار، كان جالساً ينظر إلى المَغيب والبحر.
تقدم طارق نحوهُ، ولم يجرء بالحديث إليهِ، وتردد في
البداية، ثم سلمَ عليهِ قائلا: السلام عليك أيُّها السيد، هل لك أن تخبرني أين
نحن؟! وأي طريق أسلكهُ لأعود إلى مَنزلي؟!
أنتبهَ الرجل إلى طارق فنظرَ إليهِ ثم أجاب قائلا: مِن
أين أتيت أيُّها الصبي؟
أجاب طارق قائلا: أنا طارق مِن مدينة طنجة، وهل أستطيع
أن أتعرف عليك يا سيدي؟
نظرَ الرجل إلى طارق بإستغراب ورذَّ قائلا: طارق!، ومَن
أسماك بهذا الأسم !؟
فأجابَ طارق بفخر قائلا: جَديِّ أسماني بهذا الأسم، وقد
سبق أن أطلقَ أسم زياد على أبي، ثم جئتُ أنا ليُسميني طارق لحبهِ وإعجابهِ الشديد
بالبطل طارق بن زياد.
سادَ الصَمْت بينهما ثم سأل طارق بفضول قائلا: ومَن أنت
يا سيدي؟! إنك تشبهُ الفرسان وقواد الجيوش التأريخية، ولكن لماذا أنت وحيدٌ أين
جيشك؟! ولماذا يبدو الحزن على وجهك!؟
نظرَ الرجل إلى طارق ثم أجاب بحماس قائلا: أنا أميرُ
طنجة، أنا البطل المغربي، أنا قائدُ جيش موسى بن نصير، لم أهابُ الموت يوماً وما
ذقتُ طعم الهزيمةِ أو الخسارة أو الأستسلام، أنا مَن عبرَ المَضيق والجبال، (
وبدءَ الحماسُ يَعلو وجهِ البطل، فوقف على قدميهِ ساحباً سيفه مِن غمدهِ، وأخذ
يهزهُ يميناً وشمالاً كقائد يُحارب في ساحةِ الوغى ) وهتف قائلاً: أنا مَن قال
لجيشهِ البحرُ مِن ورائكم والعدو أمَامكم وليس لكم واللهِ إلا الصبر والصدق، أنا
مَن فتحَ الجزيرة الخضراء، وقرطبة، وملقة، وغرناطة، أنا مَن أشعلَ أنوارَ حضارة الأندلس،
التي تفوق كل الحضارات .
( وفي ظل هذا الحماس رمى البطل بسيفهِ وخرَ راكعاً، وقد
أمتلأت عيناهُ بالدموع ثم حملَ بين كفيهِ بعض التراب ونثرهُ وهو يهتفُ بحزن قائلا:
وا.. أندلساه.
كان طارق الصغير ينظرُ إليهِ بإستغراب وإعجاب، ولم يصدق
أنهُ أمام القائد طارق بن زياد وأخذ ينظر إليه بذهول وإعجاب!
ثم سأل قائلا: ولماذا أنت حزينٌ أيُّها البطل؟!
فأجاب البطل قائلا: إنا حزينٌ على قومي، فبعدَ تضحياتي
ونضالي وهدفي في توسيع أمتنا الإسلامية وبناء حضارةٍ راقية تحملُ إبداع الشرق
والغرب على صفحاتِ تأريخيهِ، إنهار كل مَا ضحيتُ مِن أجلهِ، فبعدَ ثماني قرون
أصابَ قومي الغرور وغرتهم الدُنيا والمباهج ومالوا إلى الترفِ والمَجون وتغاضوا عن
رسالتهم، وأنقسموا على حالهم وتفرقوا وأنهاروا، وسقطت إمارات أندلس واحدة تلو
الأخرى وأصاب الوهن كل شيء، وتركوا حضارتي وحيدة تأكلها النيران وتنهشها الذئاب
مِن كل حدبٍ وصوب.
سادَ الظلام والصمت المكان، وغربت الشمس وكأنها غرقت في
عُمق البحر ولم يَعد يستطيع طارق مِن رؤية البطل وأخذ ينظرُ حولهُ منادياً بأعلى
صوتهِ قائلا: أيُّها البطل طارق، لا تذهب أرجوك، حَضارتك باقية وما زالت، أسمعني
أيُها البطل الشجاع.
ولكن غابَ البطل عن طارق، وظل طارق يناديهِ بأعلى
صوتهِ!، وفي هذه اللحظة نهضَ طارق مِن نومهِ وهو يُنادي أيُّها البطل أين ذهبت؟،
ثم نظرَ حولهُ مستغرباً، حيث كان في فراشهِ، فأدركَ بأنهُ كان يحلم والكتاب بين
أحضانهِ مُمسكاً به بكل قوة، فأبتسم قائلا: يا إلهي!، لقد رأيتُ البطل طارق بن زياد!،
كم كان حلماً رائعاً!، يا ليت جديِّ كان معي، نهضَ طارق مِن فراشهِ، وكانت الساعة
تشير إلى السادسة صباحاً تقدم نحو نافذة غرفتهِ المُطلة على البحر ليفتحها كعادته
في كل صباح ويستنشق الهواء العليل، فتذكر حلمه الغريب وكان في غايةِ اللهفة لكي
يَسردها على جدهِّ.
أستعد طارق للرحلة، وقد أعدت والدتهُ بعض السندوتشات
ليأخذها معهُما.
أنطلقا الأثنان في رحلتِهم، مِن مدينة طنجة التي لا
يُفصلها عن الشاطئ الأسباني سوى بضعُ كيلومترات، كان طارق يحب مدينته طنجة وكان
فخوراً بها وبتأريخها وبالحضارات التي مرت عليها، كالحضارة الفينيقية والبونيقية
والرومانية، ومِن أكثر الأماكن الأثرية التي يهوها طارق هي بقايا مَسرح ساربنتيس
ومغارة هرقل الفينيقية التي تطل على بحر الأبيض المتوسط،، كما إن هذه المدينة
العريقة تعتبر بأنها المُثلث الذي يربط ما بين القارتين الأوربية والأفريقية مِن
جهة والبحر الأبيض المتوسط مِن جهة أخرى.
وحينما وصلَ طارق وجدهِّ إلى حيث المكان المقصود، أخرجَ
طارق مِنظار جدهِّ وأخذ ينظرُ مِن خلالهِ عَبرَ المَضيق إلى جنوب أسبانيا وجبل
طارق وجبل موسى، ثم أخذ يسردُ لِجدهِّ عن حلمهِ وكيف رأى القائد طارق بن زياد، وما
جرى بينهما مِن حِوار، وكان الجدُّ يصغي إليهِ بإهتمام!.
وعندما أنتهى طارق مِن سردِ حلمهِ أجابَ الجد قائلاً:
والله يا ولدي إن حُلمك هذا غريبٌ!، يبدو إنك بعد أن قرأت سيرة القائد طارق بن
زياد ولإعجابك الشديد بشخصيتهِ، رأيتهُ في حلمِك، أسمع يا ولدي أريدُ أن أوضحُ لك
بعض الأحداث التأريخية المُهمة التي مَررنا بها سابقاً، ونمرُ بها الآن، فرغم
الصِدام الذي حصلَ بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية في الماضي، إلا
أن هذه الأحداث مَضت مع ما يحملهُ مِن آثار وسلبيات، وهناك الآن لحظات مِن الصفاء
والسلام بين الحضارتين الجارتين اللتان تربطهما بضع كيلومترات فقط مِن البحر، وإن
كلا البلدين بالنسبة للأخر هو جسر العبور ما بين الماضي والحاضر، وكلانا الآن نفكر
أن نبني جسراً ونفقاً بين بعضينا، ليُسهل علينا تبادل المعرفة والثقافة، وأن نجعل
الخير والسلام طريقنا لبناء أرقى الحضارات الإنسانية، لن تنقطع الصلة بين الحضارة
العربية الأسلامية والحضارة الأوربية، ولو تصفحنا التاريخ الماضي نرى عدم خلوا
إنتاج النوابغ مِن الأدباء الأوربيين في أنجلترا وفرنسا وألمانيا مِن الشخصيات
الإسلامية والحكايات العربية، وعلى سبيل المِثال شكسبير وبيرون وفولتير وغيرهم
كثيرين، وأن لافونتين الفرنسي الأصل أعترف بإقتباسهِ الأساطير مِن كتاب كليلة
ودمنة الذي عرفه عن طريق المُسلمين، كما أستلهم بوكاشيو حكاياتهِ مِن حكايات ألف
ليلة وليلة، وكان لدانتي صلة قوية بالثقافة العربية الإسلامية حيث كان على معرفة
بالسيرة النبوية وقصة الأسراء والمعراج، فالثقافة العربية الإسلامية جزء لا يتجزأ
مِن تكوين البنية الثقافية والحضارية الأسبانية، فيجب علينا جميعاً أن نحمل قلوباً
عامرة بالمحبةِ والسلام، وهدفنا واحد هو العلم والثقافة.
كان طارق يستمعُ إلى جدهِّ بآذان صاغية، ثم ردَّ قائلا:
حديثك جميل يا جديِّ، إذا رأيت مرة أخرى البطل طارق بن زياد في الحلم فسوف أخبرهُ
بكل ما حدثتني عنهُ وأنا متأكدٌ أنهُ سوف يُسعد كثيراً.
أبتسم الجد وأجاب قائلا: بالتأكيد يا عزيزي، والآن هيا،
لقد تحدثنا طويلاً، وبدأت أشعر بالجوع، هيا لنأكل شيئاً.
فأخذ طارق وجدهِ قسطاً مِن الراحة على الساحل وأكلا
الطعام حتى شبِعا، ثم أخرجَ الجد مِن حقيبتهِ كتاباً وأعطاهُ لطارق، وأخبرهُ
قائلا: لقد جلبت لك كتاباً آخر، وهي عن سيرة الرحَالة أبن بطوطة، فأرجو أن تقرأهُ
جيداً حتى نتحدث عنهُ وعن رحلتهِ ومُغامراتهِ في رحلتِنا القادمة، ولكن أنتبه يا
طارق حينما تنام هذه المرة فربما يزوركَ أبن بطوطة في حلمِك وقد تكون على إحدى
الجُزر النائية أو على ظهر حوت في عرض البحر!
فأجاب طارق ضاحكاً قائلا: يا ليتني يا جدي أحلم بأبن
بطوطة أيضاً كما حَلمتُ بالقائد طارق بن زياد ولكن أرجو أن لا أكون على إحدى جزر
أكلي البشر!.
فضحكا معاً وجلسا ينظران إلى الأفق البعيد مِن خلال
البحر وهما غارقين في الخيال بين أطلال الماضي والحاضر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق