مذكّرات كيان
هُزام مُنير جُبران
بَدَأَتْ قِصَّتي عِنْدَما كُنْتُ جَنينًا في بَطْنِ أُمّي.
هُناكَ، كانَ بَيْتي ضَيِّقًا.. لكِنَّهُ دافِىءٌ وَمُريحٌ.
هُناكَ، كانَ بَيْتي ضَيِّقًا.. لكِنَّهُ دافِىءٌ وَمُريحٌ.
بَقيتُ فيهِ تِسْعَةَ شُهورٍ، آكُلُ مِمّا تَأْكُلُهُ أُمّي، أَشْرَبُ مِمّا تَشْرَبُهُ وَأَسْمَعُ ما تَسْمَعُهُ، أَتَحَرَّكُ وَأَنامُ كَما أُريدُ، في جَوٍّ دافِىءٍ وَآمِنٍ.
وَفي كُلِّ شَهْرٍ كُنْتُ أَكْبُرُ قَليلًا...
في الشَّهْرِ التّاسِعِ، ضاقَ بِيَ الْـمَكانُ، وَساعَةُ وِلادَتي أَتَتْ... خَرَجْتُ مِنْ أُمّي... شَعَرْتُ بِالْبَرْدِ، وَضَايَقَني الضَّوْءُ، بَدَأْتُ أَصْرُخُ باكِيَةً، تَناوَلَتْني الْأَيادي... وَعَلَتْ هُتافاتٌ مِنْ حَوْلي... أَمّا أَنا... هَدَأْتُ فِي حِضْنِ أُمّي.
في الْأَيّامِ الْأولى، نِمْتُ كَثيرًا، ساعَدَتْني أُمّي أَنْ أَعْتادَ حَياتي الْجَديدةَ، نَعِمْتُ بِحَرارَةِ جِسْمِها، أَرْضَعَتْني حَليبًا دافِئًا لَذيذًا، وَبَدَأْتُ أَكْبُرُ وأَكْبُرُ...
أَصْبَحَ عُمْري ثَلاثَةَ شُهورٍ، ما زِلْتُ لا أَرى بِوُضوحٍ، وَلكِنّي أَصْبَحْتُ أُلاحِظُ أَشْياءَ كَثيرَةً. أَلْعابٌ مُلَوَّنَةٌ فَوْقي وَمِنْ حَوْلي، وَنَغَماتٌ موسِيقِيَّةٌ أَطْرَبَتْني. أَكْثَرُ ما ارْتَحْتُ إلَيْهِ وَجْهُ أُمِّي وَأَبي، كُلَّما نَظَرا إلَيَّ ضاحِكَيْنِ، ضَحِكْتُ وَضَحِكْتُ...
عُمْري الْآنَ سِتَّةَ شُهورٍ، جِسْمي كَبُرَ وَعَضَلاتي قَوِيَتْ، يدايَ تُمْسِكانِ بِالْأَشْياءِ، وَرِجْلايَ تَتَحَرَّكانِ كَما أُريدُ.
أَسْتَطيعُ الزَّحْفَ وَالِانتِقالَ مِنْ مَكانٍ إلى آخَرَ، أُحِبُّ التَّعَرُّفَ عَلى الْأَشْياءِ بَوَضْعِها في فَمي، أَتَذَوَّقُها بِلِساني... وَأَتَحَسَّسُها بِشَفَتايَ. عُمْري الْآنَ سَنَةٌ واحِدَةٌ. أَنا أَقِفُ، وَأَمْشي، يا سَلام! أَسْتَطيعُ أَنْ أَرَى ما يوجَدُ عَلى الطّاوِلَةِ، أَرْمي أَلْعابي عَلَى الْأَرْضِ، أُشاهِدُها وَهِيَ تَسْقُطُ مِنْ أَعْلى إلى أَسْفَلَ، وَأُعاوِدُ الْكَرَّةَ مَرَّةً أُخْرى، أَسْتَطيعُ أَنْ أَتَجَوَّلَ في الْبَيْتِ، وَأَتَعَرَّفَ عَلى الْأَشْياءِ، وَإنْ خِفْتُ، أَوْ جُعْتُ، أَوْ بَرَدْتُ، أَعودُ إلى أُمّي... ما زِلْتُ أخافُ إذا اخْتَفَتْ أُمّي عَنْ نَظَري.
في الْأَيّامِ الْأولى، نِمْتُ كَثيرًا، ساعَدَتْني أُمّي أَنْ أَعْتادَ حَياتي الْجَديدةَ، نَعِمْتُ بِحَرارَةِ جِسْمِها، أَرْضَعَتْني حَليبًا دافِئًا لَذيذًا، وَبَدَأْتُ أَكْبُرُ وأَكْبُرُ...
أَصْبَحَ عُمْري ثَلاثَةَ شُهورٍ، ما زِلْتُ لا أَرى بِوُضوحٍ، وَلكِنّي أَصْبَحْتُ أُلاحِظُ أَشْياءَ كَثيرَةً. أَلْعابٌ مُلَوَّنَةٌ فَوْقي وَمِنْ حَوْلي، وَنَغَماتٌ موسِيقِيَّةٌ أَطْرَبَتْني. أَكْثَرُ ما ارْتَحْتُ إلَيْهِ وَجْهُ أُمِّي وَأَبي، كُلَّما نَظَرا إلَيَّ ضاحِكَيْنِ، ضَحِكْتُ وَضَحِكْتُ...
عُمْري الْآنَ سِتَّةَ شُهورٍ، جِسْمي كَبُرَ وَعَضَلاتي قَوِيَتْ، يدايَ تُمْسِكانِ بِالْأَشْياءِ، وَرِجْلايَ تَتَحَرَّكانِ كَما أُريدُ.
أَسْتَطيعُ الزَّحْفَ وَالِانتِقالَ مِنْ مَكانٍ إلى آخَرَ، أُحِبُّ التَّعَرُّفَ عَلى الْأَشْياءِ بَوَضْعِها في فَمي، أَتَذَوَّقُها بِلِساني... وَأَتَحَسَّسُها بِشَفَتايَ. عُمْري الْآنَ سَنَةٌ واحِدَةٌ. أَنا أَقِفُ، وَأَمْشي، يا سَلام! أَسْتَطيعُ أَنْ أَرَى ما يوجَدُ عَلى الطّاوِلَةِ، أَرْمي أَلْعابي عَلَى الْأَرْضِ، أُشاهِدُها وَهِيَ تَسْقُطُ مِنْ أَعْلى إلى أَسْفَلَ، وَأُعاوِدُ الْكَرَّةَ مَرَّةً أُخْرى، أَسْتَطيعُ أَنْ أَتَجَوَّلَ في الْبَيْتِ، وَأَتَعَرَّفَ عَلى الْأَشْياءِ، وَإنْ خِفْتُ، أَوْ جُعْتُ، أَوْ بَرَدْتُ، أَعودُ إلى أُمّي... ما زِلْتُ أخافُ إذا اخْتَفَتْ أُمّي عَنْ نَظَري.
أَحْسَبُ أَنَّها ذَهَبَتْ وَلَنْ تَعودَ مَرَّةً أُخْرى، أَخافُ كَثيرًا... كَثيرًا أخافُ...كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ تُلاعِبَني لُعْبَةَ الـ«كوكو»؛ كانَتْ تَخْتَفي وَراءَ الْـمِخَدَّةِ وَتَظْهَرَ مُفاجِئَةً بِقَوْلِها: «كوكو»... «كوكو»، كُنْتُ أَخافُ حينَ تَخْتَفي، وَأَفْرَحُ كَثيرًا عِنْدَما تَظْهَرُ.
عُمْرِي الْآنَ سَنَةٌ وَأَرْبَعَةُ شُهورٍ...
أَسْتَطيعُ أَنْ أقولَ بِضْعَ كَلِماتٍ، مِثْلُ: ماما، بابا...
كَما أَسْتَطيعُ أَنْ أُقَلِّدَ صَوْتَ الْحَيَواناتِ.
فَالْقِطَّةُ تَقولُ: مْياوْوووو.
الْكَلْبُ يَقولُ: هَاوْوووو.
اَلْعُصْفورُ يَقولُ: سي سي، سي سي.
وَالْبَقَرَةُ تَقولُ: مْوَوووو.
ماما وبابا أَحَبّا ذلِكَ كَثيرًا... وَكَرَّرْتُها أَمامَ الضُّيوفِ.
أَسْتَطيعُ أَنْ أَمْشِيَ وَأَرْكُضَ، وَأَنْ أَصِلَ إلى أَماكِنَ بَعيدَةٍ، وَأَنْ أَلْـمَسَ أَشْياءَ جَديدَةً، وَأَتَعَرَّفَ عَلى مَواقِعَ عَديدَةٍ، وَأَكْتَشِفَ عَوالِمَ عَجيبَةً.
أُمّي وَأَبي كانا يَمْنَعاني مِنْ لَـمْسِ بَعْضِ الْأَشْياءِ، وَيُكْثَرانِ مِنْ قَوْلِ: «لا لا لا».
هذِهِ الْكَلِماتُ كانَتْ تُضايِقُني، وَفي بَعْضِ الْأَحْيانِ تُبْكيني، لِأَنَّها تَحُدُّ مِنْ مَعْرِفَتي وَاكْتَشافاتي...
لَوْ سَمَحا لي بِلَمْسِ الْأَشْياءِ وَالتَّعَرُّفِ عَلَيْها، وَهُمَا جالِسانِ بِقُرْبي، لِيُساعِدانِي، كانَ هذا أَفْضَلَ لِي...
عُمْري الْآنَ سَنَةٌ وَنِصْفٌ؛ اِجْتَمَعَتِ الْعائِلَةُ مِنْ حَوْلي: أُمّي وَأَبي وَجَدّي وَجَدَّتي، وَعَلى الْأَرْضِ صُنْدوقٌ كَبيرٌ، أَخَذْتُ أَنْقُرُ عَلَيْهِ...
حاوَلْتُ فَتْحَهُ، أَسْرَعَ جَدّي لـِمُساعَدَتي، فَأَخْرَجَ مِنْهُ شَيْئًا غَريبًا، مُلَوَّنًا، بِشَكْلِ وِعاءٍ...
أَسْتَطيعُ أَنْ أقولَ بِضْعَ كَلِماتٍ، مِثْلُ: ماما، بابا...
كَما أَسْتَطيعُ أَنْ أُقَلِّدَ صَوْتَ الْحَيَواناتِ.
فَالْقِطَّةُ تَقولُ: مْياوْوووو.
الْكَلْبُ يَقولُ: هَاوْوووو.
اَلْعُصْفورُ يَقولُ: سي سي، سي سي.
وَالْبَقَرَةُ تَقولُ: مْوَوووو.
ماما وبابا أَحَبّا ذلِكَ كَثيرًا... وَكَرَّرْتُها أَمامَ الضُّيوفِ.
أَسْتَطيعُ أَنْ أَمْشِيَ وَأَرْكُضَ، وَأَنْ أَصِلَ إلى أَماكِنَ بَعيدَةٍ، وَأَنْ أَلْـمَسَ أَشْياءَ جَديدَةً، وَأَتَعَرَّفَ عَلى مَواقِعَ عَديدَةٍ، وَأَكْتَشِفَ عَوالِمَ عَجيبَةً.
أُمّي وَأَبي كانا يَمْنَعاني مِنْ لَـمْسِ بَعْضِ الْأَشْياءِ، وَيُكْثَرانِ مِنْ قَوْلِ: «لا لا لا».
هذِهِ الْكَلِماتُ كانَتْ تُضايِقُني، وَفي بَعْضِ الْأَحْيانِ تُبْكيني، لِأَنَّها تَحُدُّ مِنْ مَعْرِفَتي وَاكْتَشافاتي...
لَوْ سَمَحا لي بِلَمْسِ الْأَشْياءِ وَالتَّعَرُّفِ عَلَيْها، وَهُمَا جالِسانِ بِقُرْبي، لِيُساعِدانِي، كانَ هذا أَفْضَلَ لِي...
عُمْري الْآنَ سَنَةٌ وَنِصْفٌ؛ اِجْتَمَعَتِ الْعائِلَةُ مِنْ حَوْلي: أُمّي وَأَبي وَجَدّي وَجَدَّتي، وَعَلى الْأَرْضِ صُنْدوقٌ كَبيرٌ، أَخَذْتُ أَنْقُرُ عَلَيْهِ...
حاوَلْتُ فَتْحَهُ، أَسْرَعَ جَدّي لـِمُساعَدَتي، فَأَخْرَجَ مِنْهُ شَيْئًا غَريبًا، مُلَوَّنًا، بِشَكْلِ وِعاءٍ...
تَمْتَمَ الْجَميعُ هاتِفينَ: «ها هِيَ نُونِيَّةُ (أَرْضِيَّة) كَيان!».
فَرِحْتُ كَثيرًا بِنونيَّتي الْجَديدَةِ، كُنْتُ أَرْكُضُ إلى ماما هاتِفَةً: «كاكا»... «كاكا»؛ وأُمّي تَبْتَهِجُ كَثيرًا، وَتَقولُ: «ياي ما أَجْمَلَ ما صَنَعَتْهُ كَيان!».
ثُمَّ نَذْهَبُ سَوِيّـًا لِلْمِرْحاضِ لِنُفْرِغَ مُحْتَوياتِ النُّونِيَّةِ هُناكَ، ثُمَّ نُوَدِّعُ مَعًا الـ«كاكا»، وَكُنْتُ أُرَدِّدُ: «باي كاكا... باي كاكا».
أَمّا الْآنَ، فَقَدْ حانَ وَقْتُ الْوَداعِ، سَأُكْمِلُ لَكُمْ حِكايَتي حينَ أَكْبُرُ، «باي... باي... باي...».
ثُمَّ نَذْهَبُ سَوِيّـًا لِلْمِرْحاضِ لِنُفْرِغَ مُحْتَوياتِ النُّونِيَّةِ هُناكَ، ثُمَّ نُوَدِّعُ مَعًا الـ«كاكا»، وَكُنْتُ أُرَدِّدُ: «باي كاكا... باي كاكا».
أَمّا الْآنَ، فَقَدْ حانَ وَقْتُ الْوَداعِ، سَأُكْمِلُ لَكُمْ حِكايَتي حينَ أَكْبُرُ، «باي... باي... باي...».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق