الحصى والحمار
تأليف: د. ملكة أبيض – سليمان العيسى
صاح المزارعُ محمودُ بابنهِ الصغير:
اِسمعْ يا عادلُ, اِذهبْ إلى المزرعةِ،
وأحضرْ حماري, وخذه إلى أعلى التلَّ حيثُ تسكنُ السيدة أمُّ علي, فلديها
بعضُ الغسيلِ الذي يجبُ أن تعيده إلى أمَّكَ, ويمكنكَ أنْ تحمله على
الحمارِ وتعودَ به إلى البيتِ.
قال عادلُ
حاضر يا أبي!
وذهبَ لإحضارِ الحمارِ الرماديَّ الصغيرِ.
كان الحمارُ حيواناً صغيراً سميناً قوياً, حسنَ الطَّبعِ.
أخرجه الصبيُّ على الفورِ من المزرعةِ, وقفز على ظهره، وساقه في الطريقِ.
كان الفصلُ شتاءً, وكانتِ الطُّرقاتُ قد تجمَّدتْ في الليلِ, ولذلك بدتْ في الواقعِ صعبةً, شديدةَ الانزلاقِ.
سار الحمارُ بشكل طبيعيَّ, ولم تصادفه أيَّةُ صعوبةِ مادام الطريقُ مستوياً.
ولكنْ ما إنْ بدأ يتسلَّقُ التلَّ, حتى راحت نعاله تنزلقُ.
كان عدل صبيّاً قليلَ الصَّبرِ, فما كاد الحمارُ يتعثَّرُ في سيرهِ ويتوقَّفُ حتى صاح فيه:
هيَّا, تحرَّكْ, إلى الأمام, هيَّا..!
حاولَ الحمارُ أن يتحرَّكَ, ويخطوَ إلى الأمامِ, ولكنَّ أقدامه انزلقتْ بشدَّةٍ, فخافَ السقوطَ, لذلكَ وقفَ جامداً.
ضربه عادلٌ بالعصا وهو يصرخُ:
هيَّا ! ألا تريدُ أن تتحرَّكَ, أبُّها
المخلوقُ البليدُ ؟ كيف أستطيعُ أن أصلَ إلى قمَّةِ التلَّ وأعودَ منها إذا
ما بقيتَ واقفاً على هذا الشكلِ ؟
لم يتحرَّكِ الحمارُ من موضعه. غضبَ
عادلٌ وحاولَ جاهداً دفعه إلى الأمامِ, ولكنَّ الحمارَ لم يتزحزحْ، ولم
يقمْ بأيَّةِ حركةٍ. لقد قرَّر ألاَّ يعرَّضَ نفسه للسقوطِ, ولكسرِ قدمه,
إذا كانَ يستطيعُ تلافيَ ذلك.
على جانبِ الطريقِ, كانت هناكَ أكوامٌ
من الحصى الصغيرةِ. وحين ازدادَ الصبيُّ غضباً وسخطاً ذهبَ إلى كومةِ من
تلكَ الأكوامِ، والتقطَ قبضةً منها, ورماها بقوةٍ على الحمارِ.
أصابتِ الحصى مؤخَّرةَ الحمارِ وجعلته يقفزُ، ويسيرُ إلى الأمامِ خطوةً أو خطوتين.
صاحَ عادلٌ, وهو منبسطُ الوجهِ:
ها,ها.. هذا إذن يجعلك تتحرَّكُ !
والتقطَ قبضةً أخرى من الحصى وألقاها على الحمارِ بكلّ قوَّته.
أصيبَ الحمارُ المسكينُ في مواضع كثيرةٍ منْ جسمهِ, فنهقَ بأعلى صوتهِ, وكأنَّه يقولُ:
خطرٌ خطرٌ يتهـدَّدني
لا أرمي نفسي في الخطرِ
أنا لي عينـانِ أرى بهما
وأراك خلـوت من النَّظرِ
اِرفـعْ يدكَ الحمقـا عنّي
لا أرمـي نفسي في الخطرِ
صاح عادلٌ:
تحرَّكْ ! أقولُ لكَ: تحرَّكْ !
ولكنَّ الحمارَ لم يتحرَّكْ أكثرَ من خطوةٍ أخرى أو خطوتينِ, وهذا ما جعل الصَّبيَّ يزدادٌ غضباَ ويرمي المزيدَ من الحجارةِ عليهِ.
في تلك الأثناء...
وصلَ إلى المكانِ صبيٌّ صغيرٌ كان يصعدُ الهضبةَ.
نظرَ إلى عادلٍ وهو على هذهِ الحالِ من الغضبِ والهياجِ, وقالَ له:
إنَّ هذه الحصى تؤذي الحمارَ. توقفْ عن إلقائها على الحيوانِ المسكينِ. ألا ترى أنَّهُ خائفُ من التحرُّكِ لأنَّ أقدامه تنزلقُ ؟
أجابَ عادلٌ:
أوه ! إن هذا الحمارَ غبيَّ. هذا كلُّ ما في الأمرِ. وأنا لا أريدكَ أنْ تتدخَّلَ في شؤوني, و إلاَّ رميتك أنتَ أيضاَ بالحصى.
لم يأبه الصّبيُّ لعباراتِ عادلٍ الغاضبةِ, بل قالَ له بلهجةٍ مهذَّبةٍ:
هل تريدُ أنْ أساعدكَ ؟
أجابَ عادلُ بفظاظةٍ:
كيف تستطيعُ مساعدتي ؟ ليس هناكَ إلاَّ هذه الحصى لإجبارِ الحمارِ على الحركةِ.
قال الصبيُّ:
أنت على حقَّ. ولكنّي أستطيعُ استخدامَ الحصى نفسها بطريقةٍ مختلفةٍ, تجعله يتحرَّك فعلاً. هلْ أريكَ كيفَ ؟
هزَّ عادلٌ رأسهُ موافقاً, وكان على
يقينٍ من أنَّهُ ليسَ من طريقةٍ لزحزحةِ الحمارِ عن مكانهِ إلاَّ تلكَ التي
استخدمها بنفسه, وهي إلقاءُ الحجارةِ على الحيوانِ المسكينِ بأقصى ما
يملكُ منْ قوَّةٍ.
قال الصبيُّ وهو يشيرُ بيدهِ إلى منزلٍ قريبٍ:
أنا أسكنُ هنا. سأغيبُ دقيقةً واحدً. إنّي ذاهبٌ لإحضارِ شيءٍ ما.
جرى الصبيُّ إلى سقيفةٍ بجانبِ المنزلِ, وعادَ يحملُ رفشاً صغيراً.
دهشَ عادلٌ, وتساءلَ بينه وبين نفسهِ:
ما الذي يريدُ الصبيُّ أن يعمله بالرَّفشِ:
راح الصبيُّ يملأُ رفشه المرَّةَ تلوَ المرَّةِ بالحصى, ويمدُّها أمامَ الحمارِ محاولاً أن يصنعَ له ممرّاً يستطيعُ السيرَ عليهِ.
ثم فسَّر ذلك لعادلٍ بصوتهِ الهادئِ الرقيقِ:
إنَّ الطريقَ هنا – كما ترى – خطرٌ,
شديدُ الانزلاقِ. والخيلُ والحميرُ تسقطُ دائماً في هذه العقبةِ الشديدةِ
الانحدارِ, وتكسرُ سيقانها. لذلكَ وضعت هذه الأكوامُ من الحصى لتخفيفِ
الخطرِ, بأنْ ينثرها الناسُ أمامَ حيواناتهم عند الحاجة.
أحسَّ عادلٌ فجأةً بأنَّه غبيٌّ قاصرُ النَّظرِ, وأنَّه عاملَ الحمارَ بقسوةٍ تصلُ حدَّ الدَّناءةِ, فقال:
(( أو ! )) ولم يزدْ على ذلك.
أكملَ الصبيُّ, وهو يملأُ الرَّفش بالحصى ثم يفرشه:
ليسَ من المعقولِ أنْ تتوقَّعَ من
الحيوانِ متابعةَ السَّيرِ إذا لم يكنْ يستطيعُ أن يضعَ قدمه على أرضٍ
صلبةٍ, ومن الأفضلِ أنْ تساعدهُ, لا أنْ نعيقهُ. ألا تعتقدُ ذلكَ ؟
قال عادلٌ بشيءٍ من الخجلِ:
بلى !
قالَ الصَّبيُّ:
والآنَ.. دعنا نرى ما سيقولهُ الحمارُ إزاءَ ما فعلناه له.
تعالَ, أيُّها الحيوانُ الطيَّبَ, سرْ يا حاذقُ على الحصى, وسترى أنَّ كلَّ شيءٍ على ما يرامُ !
دفع الحمارُ إحدى أقدامهِ, وشعر بأنَّ الحصى أعطته مرتكزاً جيَّداً على
الطريقِ المنزلق. سار خطواتٍ عدَّةَ فوق الحصى المنثورةِ, وصعدَ بأمانِ ذلك
الجزء الشديدَ الانحدارِ من الطريقِ.
قال الصبيُّ لعادلٍ:
ها قدْ حلَّتِ المشكلةُ ! أعتقدُ أنَّ الأمورَ ستسيرُ بشكلٍ حسنِ بعد الآنَ.
على كلَّ حالٍ, أنبهك إلى أنَّك سترى
أكواماً من الحصى إلى جانبِ كلَّ الأجزاءِ الشديدةِ الانحدار من الطريقِ,
وأنتَ الآنَ تعرفُ ما الذي ستفعله بها ؟
قال عادلٌ:
شكراً !
وصعدَ التلَّ مع الحمارِ.
فكَّر طويلاً فيما حدثَ له, وأيقن أنَّهُ تصرَّف بشكلٍ عبيَّ. ولكنَّ ذلكَ الصبيَّ تصرَّف تصرُّفاً ذكيّاً.
وكان فظّاً.. ولكنَّ الصبيَّ أشفقَ على الحمارِ.
وقد حاولَ أن يرغمَ الحمارَ بالقسوةِ.
ولكنَّ ذلك الصبيَّ ساعدَ الحمارَ, وجعله بلطفهِ يتحرَّكُ. ما أوسعَ الفارقَ بين السُّلوكينِ وما أكبره !
وفي غمرةِ شعوره بالخجلِ نظرَ إلى الحمارِ وقال لنفسهِ:
إنَّه مخلوقٌ صغيرٌ مسكينٌ. إني ألومُ نفسي اشَّد اللومِ على ما فعلتهُ بهِ.
قال الحمارُ وهو ينظرُ إلى عادلٍ:
هي.. ها.. هي.. ها !
هناك طريقتانِ لاستخدام الحصى..
تذكَّرْ ذلكَ يا عادلٌ !
وهناكَ دائماً طريقتانِ.. لعملِ أيَّ شيءٍ:
الطريقةُ الصحيحةٌ.. والطريقةُ الخاطئةُ.
هي.. ها.. !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق