غضب الحروف..
ندى مهري
تفاجأت التلميذة رانيا وبقية زملائها في الفصل وعلى رأسهم معلمة اللغة
العربية أن جميع حروف اللغة العربية مختفية من الكتب والدفاتر، كل الجمل،
كل القصص، كل المواد اختفت وليس هذا فحسب، بل لم تتمكن المعلمة من كتابة
هذه الحروف على السبورة وكأن الطباشير فقد ذاكرة كتابته، فظل يلتفت بين
أنامل المعلمة.
دق جرس المدرسة على غير عادته، ودخل المدير إلى الفصل مندهشًا وحزينًا،
معلنًا عن توقف الفصل الدراسي والسبب غياب حروف اللغة العربية، ففرح أغلب
التلاميذ بهذا الخبر لأنهم يفضلون اللعب ومشاهدة برامج الأطفال في
التلفزيون على المدرسة، غير أن رانيا تحب المدرسة وهي أيضًا فضولية وعنيدة
ولا تستسلم بسهولة، وغياب الحروف جعل رأسها يمتلئ بالأسئلة والتفكير في حل
هذه المشكلة المستعصية.
وعندما رجعت للمنزل، وجدت كل الكتب الموجودة في مكتبة والدها بيضاء
الصفحات دون الحروف. بحثت بجد ونشاط على أي دليل يرشدها إلى مكان الحروف،
ولكن دون جدوى حتى وصلت إلى درجة اليأس، وأغلقت آخر كتاب بيدها، غير أنها
استغربت إذ لم يقفل جيدًا، فأحكمت إقفاله، ولكنه بقي مواربًا، وكأن شيئًا
بداخله يمنعه من ذلك، فأعادت فتحه فوجدت شيئًا أسود متكورًا اقتربت منه
وصرخت أنت حرف الهمزة؟ فأجابها الحرف: لا. لا. لا... أنا حرف الألف ولكنني
جد متعب، وشعرت ببرد شديد، فتكوّمت بهذا الشكل خاصة وأنني لم أستطع الخروج
من هذا الكتاب والرحيل مع إخوتي الحروف.
سألته رانيا بلهفة:
- ماذا حصل؟ لماذا اختفت الحروف من الكتب؟ وأين ذهب الجميع؟، فرد عليها حرف الألف بصوت مبحوح:
- مهلا... مهلا.. ألا ترين كم أنا مريض ويلزمني بعض الراحة فكيف أجيب على أسئلتك مرة واحدة!
- أعتذر منك يا حرف الألف، كيف يمكنني مساعدتك؟
- عجبًا منك أيتها الصغيرة، المريض أين يذهب عادة للتداوي؟ خجلت رانيا من ردّه وقالت بشيء من السخرية:
- إلى المستشفى، ولكن المستشفى عندنا لا يداوي الحروف. قاطعها:
- ستأخذينني إلى مستشفى الحروف.
- مستشفى الحروف، رددتها بتعجب، وأين يقع؟
- يقع في مدينة الحروف.
سألته مندهشة أكثر، وأين هي هذه المدينة؟
- هناك شرط للوصول لهذه المدينة.
- وما هذا الشرط؟
- يجب أن تنامي!
- ما هذا الشرط العجيب؟ كيف أنام الآن إنه ليس بوقت القيلولة، ثم مادمت
أخبرتني بهذا الشرط لن أتمكن من النوم لا بالليل ولا بالنهار، وأحتاج لمنوم
ومهدئ ليهدئ فضولي.
فأجابها:
- ما بك مندفعة أيتها الفتاة الصغيرة؟ عندما تغيب الشمس ستزورين المدينة.
وكما قال الحرف ألف ما إن أقبل الليل حتى شعرت سارة بثقل في جفنيها وما
إن أغلقت عينيها حتى وجدت نفسها أمام مدخل كبير يتوسطه باب فضي الشكل،
وقبضة يده على شكل عود مصنوع من خشب الأبنوس. يأمرها حرف الألف:
- هيا دقي الباب، وما إن فعلت حتى انطلق عزف ولحن جميل جدًا، عذب رقراق
من ذلك العود الذي هو قبضة يد الباب، وفتح الباب ودخلت هي وحرف الألف
المدينة، فوجدتها هادئة جدًا ولا ناس بها ولا ضجيج غير أنها بديعة الشكل،
مليئة بالجنائن والحدائق والأشجار المصفوفة على جانبي الشوارع، والبحيرات
البلورية المليئة بالأسماك المختلفة الألوان والأحجام، فانبهرت بجمال هذه
المدينة الخالية من السكان. مشيت هي والألف قرابة نصف ساعة ووصلا المستشفى
أخيرًا، جاءت الممرضة مستعجلة قائلة:
- أين كنت يا حرف ألف لقد قلقنا عليك جميعًا، تعال بسرعة لتعمل الفحوص؟
سألت رانيا الممرضة التي تهرول في ممر المستشفى الطويل حاملة حرف (الألف)
بين يديها:
- أين حجرة الحروف؟ فترمقها بعين مستفزة قائلة:
- لكل حرف حجرته الخاصة، من تقصدين بالزيارة، فأجابت:
- كل الحروف؟
- إذن اذهبي إلى تلك الغرفة وانتظري هناك حتى أطمئن على الألف، وآتي إليك.
ولأن رانيا شغلها الفضول، لم تستطع الانتظار، فتوجهت مباشرة وخفية إلى
حجرة من حجرات الحروف الأبجدية، فوجدت حرف «العين» ورأسه منفصل عن جسده،
وتربطه ضمادة، وحرف «القاف» دون نقطتيه اللتين تميزانه عن حرف الفاء، وحرف
الطاء عصاه ملتوية، وحرف الجيم دون نقطته التي تميزه عن الحاء والخاء،
وزارت بقية الحروف لتجد كل حرف مصابًا بعلة معينة وتساءلت:
- ما الذي حدث للحروف؟ لتسمع صوتًا يرد عليها من الخلف:
- ألا تعلمين أنكم السبب؟
ردت في اندهاش أكبر:
- نحن السبب!! من أنت؟ ومن تقصد؟
- أنا سيد الحروف، وأنا من أخذت جميع الحروف للعلاج لأنكم أتعبتم حروف
اللغة العربية لعدم قراءتكم الجيدة لها ونطقكم الخطأ، أغلب الوقت للجمل
والعبارات التي تتكون منها، ولا تحترمون أصول القواعد إضافة إلى عدم النطق
الجيد لمخارج الحروف أليس كل ما ذكرت أسبابًا كافية لأن تتعب الحروف وتهجر
المدارس والكتب لترتاح منكم؟
- ولكن نحن ندرس لكي نتعلم!
- ربما أنت تحبين الدراسة ولكن بقية التلاميذ لا يعيرون اهتمامًا للغتهم، وتجدينهم يتكلمون بلغات أفضل من لغتهم الأصلية.
- ولكن يا سيد الحروف إنهم لا يمثلون الأغلبية؟ ثم أعدك عندما أعود للمدرسة سأروي للجميع ما حدث للحروف وسنعتني أكثر باللغة العربية.
ابتسم بشوشًا:
- هل هذا وعد يا رانيا؟ أجابته بنعم، فقال لها:
- إذن سأعيدهم في الغد، ونصيحتي الأخيرة لك أن تكثري من القراءة وبصوت مسموع حتى تكسبين الفصاحة في الإلقاء وسلامة النطق.
- أعدك يا سيد الحروف، تجيبه فرحة مسرورة.
وأضاف سيد الحروف:
- ولا مانع من تعلم اللغات الأخرى، لكن المهم أن نحافظ على لغتنا لأنها
لغة أجدادنا منذ مئات السنين، كلماتها معبّرة عن تاريخ بعيد وتراث عميق،
لذلك احرصي أيتها الصغيرة أنت وزملاؤك على هذه اللغة الطيبة الأعراق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق