لنشر عملك بالمدونة Ahmedtoson200@yahoo.com



الأحد، 19 ديسمبر 2010

"صندوق الذكريات" قصة للأطفال بقلم ممدوح رزق

 صندوق الذكريات
ممدوح رزق
إلى جدتي
( 1 )

الشتاء يجعلني في سعادة كبيرة .. أنا مثل أصدقائي أحب الأجازة والصيف والمرح واللهو على شاطيء البحر مع إخوتي .. لكن الشتاء هو أحب فصول السنة إلى قلبي .. أشعر دائما بالبهجة وأنا أرتدي الملابس الثقيلة التي تخفف من البرودة فتجعلها ناعمة ولذيذة خاصة وقت النوم آخر الليل تحت أغطية الفراش بينما أنصت لصوت المطر بالخارج .. المطر الذي يجعل الناس تظل في بيوتها فتصبح الشوارع خالية تماما .. أحب هدوء حجرات المنزل في الشتاء وكذلك وقوفي في الشرفة كي أشاهد غيوم السماء وقطرات المطر التي تنهمر فوق أسطح البيوت والأسفلت والسيارات .. في الصباح الباكر أشم رائحة الشتاء التي أعرفها جدا والتي تجعلني أشعر كأنني أطير بنشوة كالمسحور وأن كل شيء في الحياة يحتضنني بحب .. لكن هذا العام سعادتي بالشتاء ناقصة بسبب مرض جدتي التي تعيش معنا منذ سنوات .. أنا أحب جدتي كثيرا .. دائما تظل بجانبي حينما يغضب مني أبي أو أمي .. جدتي طيبة جدا ووجهها يفيض بالحنان .. عودتني أن تحكي لي قبل النوم حكايات جميلة حتى أصابها المرض ولم تعد قادرة على الحكي فأصبحت أدعو لها كل يوم قبل أن أنام بالشفاء حتى تعود وتسعدني من جديد بحنانها وحكاياتها الجميلة .

( 2 )

اشتد المرض على جدتي واشتد معه قلقنا جميعا عليها حتى جاء يوم حضر فيه الطبيب إلى منزلنا ودخل حجرة جدتي وأمضى قليلا من الوقت ثم خرج وهو يهز رأسه بحزن وأسف فراح الجميع يبكي بألم ومرارة .. أدركت أن جدتي ماتت وشعرت أن الزمن توقف فجأة وأنني غير قادر على أن أرى أو أسمع أوأفعل أي شيء حتى مشاركة أفراد أسرتي البكاء على الرغم من أن كل شيء بداخلي كان يبكي بحرقة شديدة .

( 3 )

مرت عدة أيام لم أستطع خلالها الذهاب إلى المدرسة .. كان الحزن أقوى منا جميعا .. في أي مكان داخل المنزل نرى وجه جدتي بملامحه الطيبة وابتسامتها الجميلة الرقيقة .. كان فراقها أكبر من أن نحتمله فأصبح كل فرد من الأسرة يعيش في حزنه .. قليل الكلام .. كثير التفكير في العجوز التي كان وجودها بيننا في حد ذاته سببا دائما للبهجة والفرح والاطمئنان .. كنت أظل وحيدا في حجرتي أتذكر أيامها الرائعة وحكاياتها الممتعة آخر كل ليل .. كنت أتذكر أيضا كم كانت ضعيفة بسنوات عمرها الكثيرة وجسدها الضئيل ومرضها الذي لم تستطع أن تتحمله .. لأول مرة منذ وفاتها شعرت بالدموع تسيل من عينيّ .. لم أكن أرى شيئا في هذه اللحظة سوى ابتسامة جدتي وهي تشرق بين تجاعيد وجهها الطيب .

( 4 )

عدت إلى المدرسة والحزن لا يزال ساكنا بداخلي .. في نهاية حصة اللغة العربية طلب منا الأستاذ أن نكتب في واجبنا المدرسي موضوعا عن ( الذكريات ) وما الذي تعنيه بالنسبة لنا .. في طريق عودتي من المدرسة إلى البيت كنت أفكر كثيرا في جدتي التي رحلت وتركتني .. كنت أسأل نفسي كيف هي الآن ؟ .. هل هي سعيدة ؟ .. هل لا تزال عجوزا وضعيفة ؟ .. ما الذي تشعر به في هذه اللحظة ؟ .. لم تتوقف الأسئلة بداخلي حتى وصلت إلى الشارع الذي أسكن به ولكنني قبل أن أصعد للمنزل وجدت امرأة عجوز تجلس فوق الرصيف المواجه للبيت وأمامها سلة مليئة بالليمون .. لا أدري ما الذي جعلني أتوقف لأشاهد هذه المرأة .. شيء لا أعرفه دفعني لتأمل وجهها ونظرات عينيها .. كانت تبيع الليمون بيدين مرتعشتين ثم وجدتها فجأة تنظر إليّ وتبتسم .. أدركت أنها لاحظت وقوفي وتطلعي إليها .. شعرت بالارتباك فصعدت مسرعا إلى منزلي حينما وجدت أمي سألتها :
ـ هل رأيتِ المرأة العجوز التي تبيع الليمون أمام البيت ؟
أمي : نعم
ـ أنا لم أرها هنا قبل ذلك
ـ لماذا تسأل عنها ؟
ـ لا شيء ...
صمت قليلا ثم سألت أمي :
ـ ألا تريدين أن أشتري بعض الليمون ؟
ـ لا بأس
أعطتني أمي النقود وعلى الفور نزلت إلى الشارع وذهبت إلى العجوز التي أخذت مني النقود وقبل أن تعطيني الليمون سألتني مبتسمة :
ـ لماذا كنت تقف وتنظر لي منذ قليل .. هل أشبه أحدا تعرفه ؟
فكرت قليلا ثم قلت :
ـ لا أعرف
ثم تمليت أكثر في ملامحها للحظات وعدت لأقول :
ـ ربما تشبهين جدتي
اتسعت ابتسامتها وهي تسألني :
ـ وكيف حال جدتك ؟
قلت لها في حزن :
ـ ماتت مند أيام
انتقل حزني إلى وجهها وصمتت قليلا ثم قالت :
ـ زوجي أيضا مات مند فترة قصيرة
وجدتني أسألها بتلقائية :
ـ هل لديك أحفاد ؟
ابتسمت ووجهها محتفظ بحزنه ثم قالت :
ـ ليس لدي أولاد حتى يكون عندي أحفاد
شعرت بمزيد من الحزن من أجلها وهي تناولني كيس الليمون .. أخدته منها وقبل أن أتركها قالت :
ـ لو كان عندي ابن أو حفيد كنت سأتمنى أن يكون مثلك
ابتسمت قائلا :
ـ شكرا لك
عدت إلى منزلي وأنا أشعر لأول مرة مند وفاة جدتي بقليل من البهجة لا أعرف سرها .

( 5 )

في المساء جلست لأكتب موضوع ( الذكريات ) الذي طلبه أستاد اللغة العربية .. كتبت عن أن الذكريات هي أوقات الماضي الجميلة التي نحتفظ بها في ذاكرتنا طوال حياتنا .. اللحظات السعيدة برفقة الأسرة والأقارب والجيران والأصدقاء وزملاء الدراسة .. الأماكن والأشياء والأحداث التي مرت وتركت تأثيرات رائعة في نفوسنا وتجعلنا نحب دائما أن نتذكرها دون أن ننساها أبدا .. كتبت سطورا كثيرة عن كل هذا وبعد ان انتهيت أغلقت كراستي وتوجهت نحو النافذة .. كانت السماء تمطر والرصيف المقابل خاليا .. قلت في نفسي أن بائعة الليمون العجوز قد عادت إلى بيتها وأنها الآن وحيدة جدا .

( 6 )

في الفصل قرأ كل تلميذ منا ما كتبه عن ( الذكريات ) وفي نهاية الحصة وقف أمامنا أستاذ الغة العربية وقال :
أنا سعيد جدا بكتاباتكم عن ( الذكريات ) لأنها جميلة حقا ويجمع بينها تعريفكم للذكريات بأنها فقط الأحداث الجميلة وهنا أريدكم أن تفكروا معي في أن الذكريات قد لا تعني الأشياء الرائعة فحسب وإنما هي أيضا الأحداث العادية التي تتحول حين تكبرون إلى أحداث جميلة لمجرد أنها أصبحت من الماضي .. الحياة في الطفولة قد تكون مليئة بالبهجة والسعادة والمرح ولكنها قد لا تصبح كذلك بعد أن تفارقنا هذه الطفولة .. ونحن أطفال نسعد بالعيش مع الأشخاص القريبين منا والذين نحبهم ونحرص عليهم ولكن حينما يغيب عنا أي شخص من هؤلاء ونشعر بالألم والحزن لفراقه فإننا لا نملك سوى أن نتذكر كل ما يتعلق بهذا الشخص .. كل ما جمعنا به وكل ما عشناه معه .. ليست الأشياء الجميلة فحسب وإنما كل الأشياء مهما كانت بسيطة ومهما كانت صغيرة ومهما بدت وكأنها لا تحمل معاني كبيرة أو تأثيرات قوية ولكن يكفي أنها تخص عالما لم يعد بوسعنا أن نعيشه مرة أخرى وأشخاص لم يعد بمقدورنا أن نعيدهم إلينا ثانية وأماكن لم يعد باستطاعتنا أن نسترد جمالها القديم الذي كانت عليه ولهذا نتمسك في كل لحظة بالحنين إلى هذا العالم وهؤلاء الأشخاص وهذه الأماكن .. من أجل ذلك نخلص دائما ونحافظ على ولاءنا للماضي .. نحافظ على صندوق الذكريات الكامن بداخل كل واحد منا ونرعاه جيدا باسترجاع الطفولة واستعادتها من جديد بقدر ما نستطيع .. لا تتوقفوا عن التذكر .

( 7 )

في طريق العودة من المدرسة إلى البيت ظللت أفكر في ما قاله الأستاذ عن الذكريات .. كنت أشعر أن في هذا الحديث رسالة لي تتعلق بموت جدتي وافتقادي الهائل لها .. وصلت إلى المنزل وقبل أن أصعد نظرت إلى الرصيف المقابل .. كانت بائعة الليمون العجوز تجلس في مكانها المعتاد وكالعادة ابتسمت حينما رأتني فبادلتها الابتسام .. لا أدري لماذا تأكدت لحظتها أنها بالفعل تشبه جدتي .. تشبهها كثيرا .. بعد أن أغلقت على نفسي باب الحجرة أصابني فجأة هاجس أربكني وجعلني أشعر الخوف .. ماذا لو عدت ذات يوم من المدرسة ولم أجد بائعة الليمون جالسة على الرصيف .. ماذا لو سألت عنها وعرفت أنها ماتت مثلما ماتت جدتي خاصة أنها عجوز مثلها .. وجدت نفسي أتجه إلى النافذة وأنظر منها إلى الرصيف المقابل كأنني أتأكد من أن بائعة الليمون لازالت جالسة في مكانها .. أنها بخير وستبتسم لي كما تعودت حين تراني .

( 8 )

هذا المساء جلست على مكتبي ، وبعد أن أنهيت واجبات المدرسة أخرجت كشكولا جديدا وبدأت أكتب عن كل شيء .. الشتاء والمنزل والجدة وأستاذ اللغة العربية وبائعة الليمون العجوز .. أكتب عن الحياة كما أفكر فيها وأشعر بها الآن .. بدأت أكتب وأنا أفكر في أن هذا أفضل ما يمكنني فعله للاعتناء بصندوق الذكريات الذي ينمو بداخلي .. أفضل ما يمكنني فعله كي أرى دائما ابتسامة جدتي وهي تشرق بين تجاعيد وجهها الطيب .

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

جميلة القصة

^^ يقول...

قصة رااائعة و معبرة جداُ