لنشر عملك بالمدونة Ahmedtoson200@yahoo.com



الأحد، 5 ديسمبر 2010

" سارة تقابل القمر" قصة للأطفال بقلم عبدالحكيم محمود

سارة تقابل القمر
القصة الفائزة بجائزة سوزان مبارك لادب الطفل 2004

عبدالحكيم محمود
كان هذا الصباح محتلفا بلنسبة لسارة فامواج من السعادة كانت تحملها ، ونسمات الصباح الباردة التى طالما كانت تلسعها وهى تتخفى منها بملابسها الشتوية الثقيلة فى طريقها لمدرستها ؛ كانت اليوم بمثابة دغدغات محببة على وجنتيها المكتنزتين ، وزاد وجهها الوردى تألقا ، وأخذت عيناها تشعان ببريق مضئ كالشمس ، وهى تودع والدتها على عتبة منزلها وتشير إليها فرحة نشوانة .
فاليوم ، وبعد أن تؤدى امتحانها الأخير ، سوف تذهب فى رحلة طالما حلمت بها ؛ لتزور المعابد والآثار الخالدة فى مدينة الأقصر هى وجميع زملاء فصلها .
كانت سارة شغوفة بالتاريخ ، ودائما ما تجد فيه لذة ، وكانت ذاكرتها القوية الواعية إلى حد يدعو إلى العجب تثير دهشة مدرسيها عندما تستشهد ببعض الفقرات الطويلة المقتبسة من أحد كتب التاريخ التى قرأتها وكانت دوما ما تساعد زميلاتها فى حل المسائل المعقدة أو شرح بعض القواعد الصعبة عندما تطلب إحداهن المساعدة ، ولكنها اليوم وفى وقت الامتحان طلبت هالة منها أن تتهجى لها كلمة من الكلمات ، فرفضت سارة أن تجيبها مما أثار الفتاة عليها ثورة شديدة ، واتهمتها بالأنانية وعدم التعاون .
فى فترة الفسحة دارت مناقشة حامية حول تصرف سارة هذا ، وكان من رأى الكثيرات من زميلاتها أن سارة ارتكبت عملا مخالفا لحقوق الزمالة بينما ظلت سارة متمسكة برأيها وقالت لهم "إننى مستعدة دائما أن أقدم العون لكل إنسان فى وقت الشدة ، لكنى لن أقدم على تلقين الجواب لأحد أثناء الامتحان لأننى أرى فى ذلك عملا مخالفا لأصول الأمانة " .
ظلت سارة مشغولة البال مترددة ، هل ما فعلته هو الصواب ؟! أم كان عليها ألا تخاطر بصداقة زميلاتها باتباعها ذلك الأسلوب ؟ حتى لاحظت مشرفة الفصل انشغالها وعدم اندماجها مع زميلاتها فى الغناء والمرح أثناء الرحلة ، اقتربت منها بود وسألتها عما يشغلها ، فحكت لها ما حدث متسائلة "هل كنت على صواب فيما فعلت" ؟ .
فأجابتها الأستاذة سماء "اسمعى يا سارة لا خير فى الصداقة التى تشترى بالتساهل فى المبدأ ، وكان أوجب على زميلاتك أن يفهمن هذا وأن يحترمنك من أجله لأنهن يرون أنك لا تطالبينهن بأكثر مما تطالبين به نفسك" .
أزال حديث الأستاذة سماء غلالة الحزن من قلب سارة ورويدا رويدا أخذت تندمج مع زميلاتها وتردد معهن أغانى الرحلات الجميلة
***
سارت الرحلة على خير وجه والبنات فى سعادة وانبهار مما يشاهدن من معابد وأعمدة وتماثيل ومسلات تنطق بمجد الجدود العظام وهن يتنقلن بين معبد الأقصر فى البر الشرقى ثم إلى معبد الكرنك والرمسيوم ، يتأملن النقوش والرسوم على الحوائط ، يتعجبن من وادى الكباش ، ويتساءلن فى دهشة "كيف أمكن لهؤلاء الجدود العظام رفع هذه الأحجار الضخمة وتلك المسلات المبهرة الممتدة فى عنان السماء ؟، وهل حقا شيدوها بالقسوة وتسخير العمال والفنانين الذين قاموا ببنائها ؟." .
وهنا جاءت الأستاذة سماء لتقول "إن هذه الآثار الخالدة لم يشيدها هؤلاء الملوك بالسخرة إنما كانوا يستخدمون العمال عندما تغمر مياه الفيضان أراضيهم ولا يكون لديهم ما يشغلهم من أعمال الزراعة كما دلَّتنا النقوش الأثرية ووثائق البردي ، على أن فرق العمال كانت تحظى بنصيب كبير من رعاية الملك وعمال حكومته وتكريمهم .. والآن هيا بنا نلحق المعدية لكى نتم زيارتنا لمعبد الدير البحري ومنه إلى وادى الملكات فى البر الغربى لكى تتعرفن على نوع آخر من أنواع الفن المعمارى الخالد" ***
أخذت البنات تتدافعن لركوب المركب فى فرح وانشراح ، وأثناء ذلك اصطدمت سارة بزميلتها هالة وكادت تقع عليها من شدة الاندفاع .فما كان من هالة إلا أن سخرت منها وقالت لها "انتبهى يا ذات العيون الأربع..!!".
أثارت الكلمة حزنا شديدا لدى سارة لازمها طوال رحلة المركب .. فالتمست لنفسها ركنا بعيدا وأرادت أن تبكى لكنها تماسكت ؛ وأخذت تفكر "كيف لهذه الفتاة أن تلومها على شئ لا يد لها فيه ؟! وكيف تعتبر أن كونها تلبس نظارة طبية يتعبر شيئا مشينا تستحق أن تلام عليه ؟!" .
لم تدر سارة كيف وصلت المركب إلى البر الغربى ولا متى وصلت المجموعة إلى وادى الملكات إلا عندما جاءها صوت الأستاذة سماء وهى تقول "أنظرن يا بناتى !! أنظرن كيف تحتوى زخارف المقابر غير الملكية هى الأخرى على أروع اللوحات التى تصف الحياة العادية فى مصر !! فعقيدتهم أن المقبرة هى البيت الذى تسكنه روح الميت وزخارفها هى التى توفر المناخ الصحيح للتمتع بالسعادة الأبدية بعد أن يكون الإنسان قد أبلى بلاء حسنا فى إعمار حياته بالكثير من الأعمال الصالحة والنافعة له ولوطنه " .
ومن مكان إلى مكان أخذت سارة تشعر بالتعب بجانب إحساسها العميق بالحزن لإهانة زميلتها لها .. حتى انتابتها رغبة ملحة بعدم الاستمرار فى الحركة مع المجموعة ، وتوقفت بجانب إحدى الصخور المتواجدة على حافة الجبل فى ذلك الوادى الفسيح ، لكن فضولها دفعها لكى ترى ما وراء هذى الصخرة الضخمة .. فأخذت تدور حولها حتى وجدت فتحة صغيرة يخرج منها شعاع وحيد .
دخلت منها يدفعها فضولها لاكتشاف المجهول وكان عجبها شديداً عندما وجدت الفتحة تؤدى إلى ممر .. وعلى حوائط الممر زخارف عجيبة كأنها رسمت للتو والممر يؤدى إلى ردهة مستعرضة .. وهناك ممر آخر متقاطع مع الردهة ، وفى نهاية الردهة جهة الغرب نُقِرتْ كوةٌ بها تمثال رائع لفتاة غاية فى الحسن والجمال ، والكوة فى أعلى مكان من الحائط وأسفله تابوت حجرى كبير مغطى بغطاء من الرخام الأبيض منحوت على شكل صاحبة التمثال فى أعلى الحائط .
كان التعب قد أدرك سارة ولم تدر بنفسها إلا وقد سقطت من الإعياء بجانب التابوت ***
لم يمض وقت طويل حتى وجدت سارة يداً حانية تربت على خدها فى شفقة ورقة .. ففتحت عينيها وأغمضتها مرات عدة لا تصدق نفسها .. إنها نفس صاحبة التمثال فى أعلى الحائط ونفس الرسم المنقوش على الحائط وغطاء التابوت .. لكنها أمامها تربت على خدها وتكلمها وتقول بصوت ملائكى شفيف "شكرا لك يا عزيزتى على زيارتك ، لقد مضى وقت طويل لم يزرنِ فيه أحد وأنا أشعر بالوحشة والحزن لذلك .
لكن زيارتك لى أدخلت السعادة والسرور والبهجة على روحى" .
ثم قالت لها "ما اسم أميرتى الصغيرة ؟.
قالت سارة بصوت متهدج مرتعش : " اسس اسس اسمى سارة !!"
أجابت صاحبة المكان "مرحبا بك يا سارة كم هو جميل اسمك .. وأنا اسمى رادوبى."
أحست سارة بالأمان لصوتها الحنون وشعرت بالراحة والهدوء تجاهها فقالت "أهلا بك يارادوبى ، اسمحى لى أن أهنئك على جمال بيتك هذا، إنه يشبه بيوت الملكات، لا بد أنك ملكة ، هل هذا صحيح ؟ "
سعدت رادوبى بإطراء سارة وقالت "أشكرك يا سارة على حسن قولك فهذا هو بيتى فعلا .. لكننى لم أكن ملكة كما تظنين إنما إحدى الأميرات ، ولى حكاية مشهورة نقشت على أوراق البردى آلاف المرات .
 كيف لم تقرئينها ؟.
شعرت سارة بالخجل من رادوبى ولكنها استطردت بصوت متلهف "هل لى أن أسمعها يا رادوبى الجميلة ؟ "
قالت رادوبى : بكل سعادة "نعم بالطبع فأنا أحب أن تعرفي أيتها الصديقة قصتي ؛ كنت طفلة جميلة لأب تاجر ثرى حنون يدعى (سنوفر) وأم صالحة تدعى (تننت) ..نعيش فى قصر عامر يطل على شاطئ النيل العظيم فى مدينة (منف) ترفرف علينا أجنحة السعادة ويظلنا الإله العظيم برحمته …..لكن الأيام لا تدوم على حال ؛ فقد أصاب والدتى الحنون مرض خطير ولما أحست بدنو أجلها نادت علىّ وأجلستني بجوارها على الفراش وقالت لى "يا ابنتى الحبيبة لقد حانت ساعة رحيلى إلى العالم الآخر حيث أكون فى انتظاركم لنلتقى بعد حين ولن تمهلنى الأيام حتى أرى ملاكى الصغير أجمل عرائس منف وأنت تزفين إلى قصر فارسك المنتظر .. لكنى واثقة أن الإله لن يتخل عنك حتى تتحقق أمنيتى ، لكنى أرى أباك في عنفوان قوته وشبابه لابد أنه سيتزوج يوماً من امرأة أخرى وسوف يكون لك إخوة وأخوات من امرأة أبيك ، ولابد أن جمالك هذا سيكون مصدر غيرتهم وحسدهم ، ولسوف تتعرضين للحقد والاضطهاد وليس عليك إلا الصبر والإيمان بالإله الواحد فهو وحده الذي سيحميك".مدت يدها تحت وسادتها ، وتناولت صندوقاً من خشب الصندل مطعم بالذهب والأحجار الكريمة ، وقالت: احفظي هذا الصندوق في مكان آمن فهو صندوق مجوهرات أمك التي ورثتها عن عائلتها وأجدادها وفيها قلادة "حتحور" الجميلة التي لا تقدر لتحفظ عليك جمالك وتحميك من الغدر، احتفظي بها ولا تعيريها لأحد ، ولا تضعي التميمة على صدرك إلا يوم أن تزفي إلى عريسك في معبد حتحور إلهة الجمال .
ثم قدمت لي صندوقاً آخر من الأبنوس المطعم بالفضة وقالت : وهذا الصندوق يا ابنتي به حذاء نفيس ليس له مثيل وهو من جلد الغزال الذهبي اللون ومطرز بخيوط الذهب والمرصع بالإحجار الكريمة لكن قيمته يا رادوبي الحبيبة ليست في جماله فحسب بل إن له ميزة أخرى وهي أنه لن يتسع لقدم فتاة سواك ، كما أنه سيكون مصدر حظ عظيم لك في مستقبلك ، حافظي عليه واحفظيه في مكان أمين لا تراه عين مخلوق ، ولا تمتد إليه يد وسوف ترتدينه عندما يحين الأوان .وطبعت قبلة عميقة على جبيني وهي تسلم الروح .دمعت عينا سارة وهي تسمع هذا المشهد المؤثر لوفاة الأم ، لكن رادوبي مسحت الدمعة التي تلألأت فوق خدها ، وخلعت نظارتها وأخذت تنظفها بقطعة من الكتان الأبيض الناعم ثم ألبستها إياها وهي تقول : لا عليك يا سارة ، فهذا ما قد كان وهو مصير البشر أجمعين ، ولم يمر وقت طويل حتى صدقت النبوءة وتم ما قالته أمى الغالية فلقد تزوج أبى مرة أخرى وأنجب من زوجته بنتين ..
وتمر الأيام وينشغل أبى عن زوجته وبناته بالعمل ، ولكن مكائد زوجة أبى كانت تكثر يوماً بعد يوم ومحاولاتها للوقيعة بيني وبين أبي لا تتوقف …ورويداً رويداً تركني أبي فريسة لزوجته التي أخذت تعاملني كخادمة في بيت أبي ، أو وصيفة لابنتيها .. وأصبح كسائي هو ملابسيهما القديمة وطعامي هو فضلاتهن ، وكن يقلن لضيوفنا إنني مجرد خادمة البيت ولست اختهن …!
وذات يوم اكتشفت زوجة أبي وهي تفتش خزانة ملابسي صندوق مجوهرات أمي الغالية فأخذته وأخفته عندها ثم ذهبت لكبير الصاغة واستبدلته بمصاغ آخر لابنتيها ، حتى لا يقال إن المصاغ الذي تتزينان به هو المصاغ المسروق وعندما اكتشفت ضياع الصندوق تملكني الحزن والجزع ، وأخذت أبكي وليس لي من أشكو إليه أمري سوى الإله الواحد .. لكني عندها خفت على الصندوق الآخر فأخذته في الليل عندما نام الجميع وذهبت به إلى شجرة الورد التي تطل على بركة السباحة وهي الشجرة التي زرعتها أمي وأنا بعد طفلة ، لتنمو معي وألعب في ظلها .. وحفرت حفرة في ظل الشجرة أخفيت فيها الصندوق كما أوصت أمي في مكان لا تراه عين ولا تصل إليه يد …وتمر الأيام والسنون وحياتي تسير من سئ لأسوأ بينما صار جمالي في نضوج مستمر تحسدني عليه أخواتي ويحس كل من يراني أنني سيدة البيت وهن وصيفات لي .. !!
وذات يوم بينما البلاد تستعد لأعياد الربيع ، يعلن الأمير ابن فرعون أنه سيختار عروساً ينتقيها من بين فتيات منف الجميلات وحدد لذلك أحد أيام العيد ليقيم حفلاً في حدائق قصره ، وفي اليوم الموعود استعدت الفتيات من جميع أنحاء البلاد وأرسلت كثير من العائلات الكبيرة في أنحاء البلاد بناتها لتجربة حظهن ، خاصة أن الدعوة كانت مفتوحة لجميع الجميلات ، ويومها استعدت الأختان ولبسن أفخر الثياب وأجمل المصاغ ولكنني لم أفكر في طلب مصاحبتهن ولو كوصيفة ، ذلك لأنني لم أكن أملك ما يمكن أن أرتديه خارج المنزل أو حتى داخله ، إذا ما قام أحد بزيارتنا ولكنهن لم يكتفين بتركي وحيدة في القصر بل اغلقن عليَّ أبواب القصر ومنافذه حتى لا يكون أمامي مجال للخروج أو الهرب …وعندما وجدت نفسي وحيدة في القصر أحسست برغبة في الخروج إلى الحديقة للتمتع بشمس الربيع ونسماته وزهوره وأشجاره ، وما أن وصلت إلى شجرة الورد الحبيبة حتى أسرعت إليها متلهفة ، وأخرجت الصندوق وأخذت أتأمل الحذاء الجميل بداخله الذي أخفيته طوال أعوام ، وتملكتني رغبة شديدة في تجربته وارتدائه بعد أن أصبحت شابة كاملة الأنوثة ..ونظرت إلى قدمي فهالني قذارتهما من طول الإهمال وحرماني من الاستحمام في البركة التي بنيت خصيصاً لي حينما كنت وحيدة أبوي المدللة ..وضعت الحذاء الجميل على حافة البركة وخلعت ملابسي ونزلت لأستحم في غيابهن وأنا مطمئنة أنهن لن يعودن قبل منتصف الليل عندما ينتهي الحفل.
وبينما أنا في عز النشوة والسعادة تغمرني ، إذ بطيور الحديقة قد توقفت عن التغريد وهربت لتختفي بين الأغصان !!
فقد شاهدت نسراً ضخما يرفرف بجناحيه محلقاً فوق الحديقة باحثاً عن فريسة .. وفجأة !! يلمح النسر الحذاء الذهبي المرصع باللألئ فيظنه فريسة طيبة فينقض عليه في لمح البصر ويخطف أحد فردتي الحذاء الجميل ويحملها بين مخلبيه وبحلق بعيداً في الفضاء حتى يمر فوق مكان المهرجان فتفزعه دقات الطبول والدفوف وصوت الموسيقى ، فيسقط الحذاء من بين مخالبه ليستقر بين يدي الأمير الشاب ، وهو جالس فوق المنصة فأذهلته المفاجأة فإذا به يقلب الحذاء بين يديه ، ويتأمل رقة منظره وجماله وألوانه وصياغة الأحجار الكريمة التي ترصعه وأخذ يتخيل الصورة الرائعة لصاحبة الحذاء وأيقن أن الأمر قد حسمه الإله وأراحه من الاختيار !!.
أخذ الأمير يحدث نفسه : من صاحبة هذا الحذاء الرائع الذي أرسلته السماء ؟! لابد أن صاحبته رائعة الجمال وفوق مستوى البشر ..غادر المنصة مشغول البال وكان ذلك إيذاناً للجميع أن يعودوا إلى بيوتهم ، والتفت إلى حراسه وقال لهم : لابد من العثور على صاحبة هذا الحذاء أينما كانت ، لابد أن تحضروا أي فتاة تتسع قدمها لذلك الحذاء بشرط أن تدلنا على فردته الأخرى ..تقول سارة في أسىً : ولكن ماذا فعلت بعد أن ضاع منك صندوق المجوهرات أولاً ثم ها هو الحذاء الجميل أيضاً ، كان الله في عونك يا رادوبي .
قالت رادوبي : حزنت حزناً شديداً بالطبع وبكيت أياماً لكن ما كان يصبرني هو يقيني أن الإله عادل لا يظلم أحداً ، وأنني لم أقترف أي ذنب ولم أبادر بالأذى لأي مخلوق وأنه لابد ناصري ولو بعد حين .
قالت سارة : وماذا قال الأمير بعد ذلك ؟
قالت رادوبي : أخذت الأيام تمر والأمير يخرج كل ليلة ومعه فردة الحذاء لزيارة القصور والبيوت التي يدله أعوانه أن بها من تحمل نفس الصفات التي يحددها ، إلى أن أرسلت زوجة أبي "سنوفر" أحد أعوانها لدعوة الأمير كي تعرض عليه ابنتيها ، ويصل الأمير إلى قصرنا فتستقبله الأم وابنتيها في أبهى زينة ، وتحاول كل من البنتين أن تقيس الحذاء فلا تفلحان ، عندها يلمحني الأمير وأنا أقف خلف نافذة الحديقة أنظر إلى ما يدور في القاعة بملابسي المهلهلة ، وقد بهره جمالي الطبيعي فيسأل عني السيدة التي تقول له : إنها ابنة البستاني ، ولا يُسمح لها بدخول القصر ، فيخرج الأمير إلى الحديقة ، ويجذبني من يدي إلى داخل المجلس ، ويأمرني أن أقيس الحذاء فإذا به يلائم قدمي ، ولكن زوجة الأب صارت على دخولي المجلس وتجربة الحذاء بقدميَّ القذرتين .
قالت سارة : لابد أنك طرت من الفرحة يا رادوبي .قالت رادوبي : نعم .. ولكني خرجت إلى الحديقة لأعود بالصندوق الآبنوس وبه الفردة الأخرى وأقص عليه قصة الحذاء الذي خطفه النسر ، وليعلم أنني سيدة القصر الذي أعمل به خادمة لزوجة أبي وهو ملك لأمي ...هنا يأمر الأمير حراسه بإحضار العربة الملكية وأجلسني فيها إلى جواره كما أنا بملابسي القديمة وحذائي السحري ليقدمني إلى فرعون مصر والملكة الأم ويحكي لهم قصتي .
قالت سارة : وماذا رأى الفرعون حين إذ .قالت : كان كريماً معي ، وبارك زواجي بابنه ، وطلب من كبير الصياغ أن يقدم لي أجمل وأثمن الجواهر والمصاغ الموجود لديه ، لتقام الأفراح في اليوم التالي لأقف بجوار الأمير في أجمل زينة وأرقى الأزياء ، يزين قدمي حذائي الساحر الجميل .
قالت سارة : ها هي الحياة أخذت تبتسم لكِ مرة أخرى يا رادوبي.
قالت رادوبي : إنتظري يا عزيزتي لتسمعي المفاجأة التالية !!.
عندما هم الأمير أن يقدم لي هدية الملك ، فإذا به صندوق مصاغي الذي تتوسطه تميمة حتحور المقدسة إلهة الجمال ، وبينما هو يضع التميمة فوق صدري فإذا به يجدني أبحث بين جواهر الصندوق عن تميمة أخرى تعتبر توأماً مكملاً لتميمتي لأضعها على صدره ، وأقول له إنها هدية أمي لشريك حياتي ، "ليحمي الإله حبنا ويحمينا من عيون الغدر"، وهنا أمر الأمير بإحضار صائغ القصر ليعلم منه مصدر صندوق المصاغ ، ولما عرف الحقيقة وسرقته بمعرفة زوجة أبي ، فيأمر بالقبض عليها ومصادرة القصر والأموال ليردها لي فأنا صاحبة الحق في كل شئ !!
قالت سارة : لابد أن سعادتك اكتملت الآن يا رادوبي .
قالت : نعم بالطبع .. لكني لم أشمت بل طلبت من الأمير أن يصفح عن زوجة أبي وأختيّ لأن قلبي كما علمتني أمي لا يتسع للحقد والبغضاء .
قالت سارة : نعم الرأي ما فعلتِ ، وكيف صارت حياتك بعد ذلك .
قالت رادوبي : على خير ما يكون .. عشنا في سعادة وهناء ووهبتنا الآلهة البنين والبنات ، اللذين قرت بهم أعيننا ، حتى حانت لنا الساعة التي لابد منها لكل حي انتظاراً ليوم البعث والخلود ، حيث يعطي الرب كل إنسانِ على قدر ما قدم في حياته بميزانه الذي لا يخطئ ولا يظلم أحداً شيئاً .. والآن يا صغيرتي الجميلة ، ما رأيك في قصتي ؟.. وهل خففت عنك شيئاً من الحزن الذي رأيته مرسوماً على ملامحك عندما أتيت إلى هنا ؟.
قالت سارة : قصتك يا أميرتي جميلة ومليئة بالحكم والعظات ، ولكني لا أخفي عنك أني أجد لها صدىً في ذاكرتي فهي تشبه قصة "السندرلا" المشهورة .
قالت رادوبي : ومن تكون سندرلا هذه .قالت سارة : هي قصة لفتاة تشبه إلى حد كبير قصتك ، لكن من يرويها لا ينسبها إلى أصلها القديم ، فلابد أن قصتك بالتأكيد هي الملهمة لكل من كتب في هذا الموضوع من بعدك .
قالت رادوبي : أرجو أن تكرري زيارتي يا سارة فإن لدي الكثير من الحكايات الجميلة ، يمكن أن أحكيها لكي من حكايات أجدادك العظام .قالت سارة : بالتأكيد أيتها الأميرة ، فأنا يسعدني أن يكون بين أصدقائي إنسانة بمثل هذه الرقة وهذه الأخلاق النبيلة …وفجأة .. انتبهت سارة على أصوات تنادي :
 سارة .. سارة .. أين أنت يا سارة ..
وكلما نادى أحدهم ، تردد صدى النداء في جنبات الجبل يضخم الصوت ويردده بشكل مرعب ، وما هي إلا لحظات حتى وجدت حارس الأثر أمامها ، وفي يده مصباح ، ومن حوله مشرفتها سماء وزميلاتها يحتضنها ويحملنها إلى الخارج في سعادة بلقائهم لها بعد أن أعياهم البحث عنها في كل مكان .
والكل يسأل في لهفة ، أين كنت يا سارة ؟ وكيف ذهبت إلى هذا المكان ؟، ماذا حدث لكِ بالضبط ؟ .
وسارة لا تدر ماذا تقول ولكنها أخيراً قالت : يبدو أن التعب تملكني فنمت هناك في ذلك المكان الغريب ، حيث بات الزمن غير معروف ولا محسوس بالضبط، والمناظر فيه داخل غلالة من الضباب تظهر ثم تختفي، وجوه غامضة ، ووجوه جديدة ، واللغة غامضة ، تنطق بمعنى ولكنها عديمة المعنى …
فرح الجميع بعودة سارة بعد أن أحسوا أن شيئاً مهماً كان ينقصهم خلال فترة غيابها الوجيز ، وكان في مقدمتهم "هالة" التي أخذت تحتضنها وتقبلها وتعتذر لها عما بدر منها في حقها بعد أن عاتبها الجميع على ما قالت وأحست بالخزي يتملكها لذلك .. وفي رحلة العودة كان الجميع في سعادة وفرح ، يغنون معاً "سالمة يا سلامة .. رحنا وجينا بالسلامة" …
***
وما أن وصلت الحافلة سمع الجميع الأستاذة سماء تهنئهم بسلامة الوصول وتدعوهم لعقد اجتماع في الغد …في الاجتماع طلبت من كل منهم أن يقترح فكرة ليبدأ تنفيذها مع بداية العام الجديد ، على أن يكون مسئولاً عن تنفيذها بالتعاون مع الآخرين .قالت ندى : أنا أقترح أن ننشئ جمعية لتعليم صناعة الأشياء ، جمعية للأشغال اليدوية ، فمن المؤسف أن يقف الإنسان منا عاجزاً أمام مقعد مكسور أو إصلاح صنبور .
وقالت هند : وأنا أقترح جمعية لتعلم الموسيقى التي تسمو بالروح ، خصوصاً بعد أن رأيت صور العازفين للقيثار على حوائط المعابد من آلاف السنين، أليس لنا أرواح راقية كأرواحهم .
واقترحت سعاد : إنشاء جمعية لفن الرسم ، تكون مهمتها تزيين حوائط المدرسة بلوحات من صنع أيدينا .
أما هدى فكان من رأيها : أن أجمل شئ نفعله لمدرستنا هو أن نجعل الشعار المرفوع على بوابتها حقيقة تنطق عن نفسها ، سوف أدعو إلى تكوين جماعة للبيئة تحافظ على جمال ونظافة مدرستنا والبيئة المحيطة بها .
قالت الأستاذة سماء : اعتبروني أول المشتركين معكم في كل تلك الجماعات، وأنت يا سارة ماذا تقترحين ؟.
قالت سارة : أقترح جمعية لإحياء القصص الفرعونية القديمة ونسبتها إلى أصلها ونسميها جماعة رادوبي الجميلة .
قال الجميع : إقتراح جميل ولكن من تكون رادوبي الجميلة يا سارة ..؟ أخذت سارة تحكي …
***
وحوى وحوى .. إيوحه
عادت سارة إلى بيتها فى ذلك اليوم فرحة نشوانة بعد أن حكت لزميلاتها حكاية رادوبى ، بكل الحب والحماس ، وكانت سعادتها أكبر عندما رأت أن جميع من حضر الاجتماع قد قرر المشاركة فى جماعتها الجديدة ، جماعة " إحياء القصص الفرعونية القديمة " .
وما أن تناولت غدائها حتى قررت على الفور البدء فى إعداد البرنامج الخاص لتلك الجماعة الوليدة ، فأخذت تجمع كل ما تقدر عليه من كتب تحكى أيام الفراعنة المجيدة وحكاياتهم الخالدة . عندما غلبها النعاس كانت تمسك بين يديها أحد الكتب القديمة التى تحكى عن أحد أبطال حروب الهكسوس " أحمس بن أبانا " وهو رجل من عامة الشعب جنت له شجاعته فى الحرب أثناء حصار " أواريس " ثروة طائلة .. فكلما أحضر أسيرا كوفئ على ذلك بالذهب .
لكن الإجهاد الذى شعرت به جعلها لا تقوى على مواصلة القراءة فضمت الكتاب إلى صدرها وأغمضت عينيها وغاصت فى نوم عميق .. وماهى إلا دقائق حتى تراءت أمام عينيها صديقتها الحبيبة رادوبى الجميلة كنقطة ضوء ، اقتربت من فراشها فقبلت جبهتها ووجنتيها وأمسكت بيدها وأجلستها وهى بجوارها على حافة الفراش فبادرتها سارة مرحبة وشكرتها على زيارتها فى منزلها .
قالت رادوبى : إن هذا حقك على يا سارة فأنت من بدأت بالزيارة .
أخذت سارة تحكى لصديقتها ما حدث لها اليوم ، وما دار فى اجتماع المدرسة وكيف تأثر التلاميذ وسعدوا عند سماع حكايتها .
شكرتها رادوبى بحرارة وقالت : إن الفضل يرجع إليك يا عزيزتى ولقد شعرت بذلك اليوم وأسعدنى سعادة غامرة ، فها هو إسمى يتردد من جديد وحكايتى تعاد إلى الوجود لتحيا فى ذهن كل إنسان ، وتكون عبرة وعظة لكل المضطهدين والمعذبين بأن الغد لا بد أجمل وأن الشمس لابد ستطلع وأن الحياة تتحرك كحركة البندول ، تهتز بين السعادة والشقاء ، بين النجاح وبين الفشل بين الحزن والفرح ، ولا يتوقف البندول إلا بتوقف الحياة .. وهو ما دفعنى بأن آتى إليك لأشكرك وأزورك فى بيتك الجميل هذا .
 قامت سارة وأخذت يد صديقتها رادوبى قائلة : هيا بنا لأفرجك على حاجياتى ، هذا دولاب ملابسى وهنا مكتبتى الصغيرة وذاك مكتبى وعلبة أقلامى وكراساتى ، أما هذا الجهاز فهو الكمبيوتر الشخصى الخاص بى . وقامت بفتح الجهاز أمامها فرأت التماع الدهشة فى عينى رادوبى مما دعاها إلى إثارة دهشتها أكثر وأكثر ؛ بعرض العديد من البرامج والألعاب .
قالت رادوبى : ما هذه الآلة العجيبة يا سارة .
 قالت سارة : إنه جهاز من مخترعات زماننا يساعدنا فى عملنا ، وفى مذاكرتنا ، وعن طريقه يمكننا حفظ المعلومات واسترجاعها والكتابة عليه والقراءة بواسطته ، والاستماع والتعلم ، وإجراء الحسابات الرياضية والمنطقية وكذلك الاتصال بالآخرين مهما بعدت المسافات ، والحديث معهم ومشاهدتهم وتبادل المعارف والأفكار والعلوم دون مشقة أو حاجة إلى السفر وكل شئ متاح أمامنا ، وما علينا إلا أن نضغط على بعض الأزرار ونحن جالسون فى تلك الغرفة الصغيرة .. حتى نسافر إلى أى مكان أو زمان فى الماضى أو فى الحاضر أو فى المستقبل .
 قالت رادوبى وقد ارتسم على وجهها علامات الأسى : حقا إنه لشئ عجيب جهازك هذا يا سارة لقد أفسد المفاجأة التى جئت إليك بها وكنت أظنها سوف تبهرك . قالت سارة بحماس : مفاجأة ؟ إن مفاجأتك يا رادوبى لابد أنها شئ مثير إن حديثك كله مثير ورائع يا رادوبى ، أرجوك لا تترددى فى إخبارى بها .؟ قالت رادوبى : نعم .. نعم .. أشكرك على إطراؤك لى إننى عندما رأيت رغبتك فى سماع حكايات أجدادك قررت أن أصحبك لمقابلة سيدة من أعظم سيدات مصر على مدى العصور ؛ لترى بنفسك ماكان يحدث فى زماننا وكيف كان لهذه السيدة أعظم دور فى تحرير البلاد ، من احتلال بغيض تعرضت له فى إحدى دورات زمانها ، ففتت وحدتها واستغل ثروتها واستعبد أهلها .
قالت سارة : شئ رائع ، رائع حقا يا رادوبى ، إن هذا بالضبط هو ما كنت أتمناه إنها آلة الزمن العجيبة التى طالما حلمت بها ولكن من تكون تلك السيدة العظيمة يا رفيقتى وقائدة رحلتى ، وكيف لى أن أقابلها ومتى .
 قالت رادوبى : إنها جلالة الملكة المبجلة سيدة البلاد " إياح حتب " زوج الملك " تاعا الثانى " ووالدة الملك " كامس " والملك " أحمس " قاهر الهكسوس. قالت سارة : لابد أنها سيدة عظيمة بالفعل يارادوبى ، فكثيرا ما قرأت عن الملك أحمس قاهر الهكسوس لكنى لا أعلم كثيرا عن الملكة !!
ما اسمها ؟ .
قالت رادوبى : إنها الملكة إياح حتب يا سارة ، هل نسيت بهذه السرعة ؟ .
قالت سارة : كلا ولكنى أرى الأسماء صعبة بعض الشئ بالنسبة لى معذرة يا صديقتى .. ولكن مامعنى هذا الاسم ؟ .
قالت رادوبى : من حقك أن تعرفى معنى الأسماء يا سارة ولكن لماذا لم تسألينى أولا عن معنى اسمى ؟.
 ابتسمت سارة وقالت : إن اسمك يبدو مألوفا وسهلا وجميلا مثلك تماما يا صديقتى ، وعلى كل ، يكفى أن أعرف شخصك النبيل فلا أسأل عن شئ بعد ذلك .
قالت رادوبى : إن اسم رادوبى يعنى المرأة أو الفتاة ذات الوجه الوردى اللون الشقراء ، وهو يستخدم أحيانا كاسم وفى أحيان أخرى كصفة ؛ أما الملكة المبجلة إياح حتب فإن اسمها المقدس يعنى القمر أو قمر الزمان .. والآن ما رأيك أن نبدأ الآن فى التحرك لنكون فى شرف استقبال جلالتها عندما تحضر الاحتفال بأعياد الحصاد.نزلت رادوبى وخلفها سارة فى قارب كان راسيا بجوار الشاطئ حيث كان شاطئا النهر مفعمان بالعطور والروائح الجميلة ورائحة البخور تملأ المكان ، حيث كانت المباخر تطلق البخور عند حافة النهر ، وعندما وصلا بالقارب إلى الشاطئ الآخر .. كانت نسمات الصيف الرطبة تعبث بملابسيهما ، وإلى اليمين منهما كانت أحد المعابد يرتفع شامخا يحمل طابع المعمار الفرعونى الخالد والكتابة الهيروغليفية الملونة تتحلق حول الأعمدة الضخمة التى تحمل تيجانها رؤوسا على شكل زهرة اللوتس ، وتماثيل أبى الهول تبسط مخالبها على طول الممر فى تحد والمسلات الشامخة بقممها الذهبية تشير إلى السماء كرمز للتوحيد .. وفى منتصف الساحة أعدت مظلة حجرية ضخمة وأمامها منصة مزينة بنقوش ملونة ، وكل شئ فى المكان يحيطه غموض وترقب .. والجموع المحتشدة يهللون ويضحكون ، نوعيات مختلفة من أفراد الشعب ، فلاحون ونجارون وبناؤون ، صيادون ونحاتون وبحارة ونساجون ، وأطباء ورعاة وإسكاف ونحاسون ، صائغون وحدادون الكل سعيد مستمتع ..
 إلى أن انطلقت سحب من البخور فى أرجاء المعبد وامتلأ الجو بسحب فضية من دخان معطر يطلقه خدام المعبد إعلانا عن وصول الموكب الملكى ، فكف الناس عن الصخب ووقفوا مبهورين محملقين عندما بدأ الجنود فى المرور بثيابهم اللامعة ومن خلفهم العربات الملكية مشدودة إلى خيول قوية ومن ورائها مواكب الأزهار والراقصين والراقصات فى نظام رائع حتى مرت محفة الملكة من أمام الجميع ، فإذا هى خالية من جلالتها وجموع الشعب الذين تجمعوا منذ الصباح الباكر ينظرون إلى أعلى ويتساءلون : وأين يا ترى ملكتنا الحبيبة ؟! إياح حتب .. قمر الزمان لم لا تجلس على محفتها ، لماذا يبدو كرسيها خال بينما الخدام يسيرون بمحفة فارغة ؟؟ ، هل أصابها مكروه ؟؟ .
وتعالت الهمهمات دون جواب حتى اقترب الموكب من الجموع المحتشدة فإذا بأحد الفلاحين المسنين يصيح : ها هى ، هاهى مليكتنا الحبيبة زوج الملك وأم الملك هاهى تسير على قدميها الشريفين وسط رمال طيبة الطاهرة ، هاهى وسط حاشيتها تلمع كقطرة الندى فى ضوء الشمس .
قال آخر : وها هو عن يمينها ابنها المعظم الملك أحمس كالأسد الهصور مرفوع الهامة بكل الثقة والاعتزاز ، وعن يسارها كاهن المعبد ومن خلفهم حاشية القصر وكبار الأعيان .
قال فلاح مسن : يا لها من سيدة عظيمة .. هيا بنا جميعا لنرحب بها ، هيا فلتصيحوا معى جميعا .. وحوى يا وحوى إيوحه .. أهلا أهلا بقمر الزمان أهلا أهلا بالأم المقدسة ، إياح حتب ..
أخذت الجموع تستجيب وتردد خلفه بصوت منغم رخيم يملؤه الحماس والحب ، وكلماته تخرج من القلب لتعبر عن سعادة هذه الجموع بقدوم الملكة تشاركهم فرحتهم بأعياد الحصاد .
كانت سارة مبهورة بالمشهد الذى أمامها فاتسعت حدقتاها وزادت ضربات قلبها ، لكنها بادرت بالحديث إلى رادوبى : ما أعظم ما أرى ، ما أروع هذا المشهد يا رادوبى لا أظن أنه كان لى أن أشاهد شيئا بهذه الروعة ما حييت ، ولكن قولى لى .. لماذا يقولون وحوى وحوى إيوحه ؟؟ إن هذه الأغنية نقولها احتفالا بشهر رمضان الكريم .
 قالت رادوبى : نعم يا سارة إنها أغنية مصرية قديمة تقال ترحيبا بقدوم القمر .. والملكة كما تعرفين اسمها قمر الزمان وهم يدللونها بقولهم إيوحه .
 قالت سارة : شئ عجيب جدا ولكن هل من عادة الملكة أن تشارك فى الأعياد الشعبية بهذه الصورة ؟.
قالت رادوبى : نعم يا سارة دائما ما كانت تحرص الملكة إياح حتب على التواجد بين الجماهير بشخصها كفرد منهم ، تشاركهم لحظات الفرح وساعات الحزن ، ذلك الحزن الذى يخيم على سماء مصر منذ قدم هؤلاء الهمج ليكسروا وحدتها ويفرقوا شملها ويقسموها إلى ثلاث مقاطعات وممالك صغيرة بعد آلاف السنين ، على تكون تلك الأمة الموحدة التى كانت زهرة المدائن ومضرب الأمثال فى القوة والمنعة والرخاء والوحدة .
قالت سارة : إنه لأمر غريب حقا ما تقولين يا رادوبى كيف يستطيع قوم كما تصفينهم من الرعاة الهمج هزيمة دولة قوية ذات سيادة وعزة ، كما تقولين كيف يكون ذلك ؟ كيف استطاعوا كسر وحدتها بالرغم من كل ذلك ؟.
قالت رادوبى : إن لك عقلا يلمع كالماسة فى ضوء الشمس يا سارة ، معك كل الحق فى هذا السؤال ولكن يجب أن تعرفى أن غزو الهكسوس لمصر لم يتم بين عشية وضحاها ، فهم لم يدخلوا إلى البلاد دفعة واحدة ، بل وفدوا إليها كجماعات صغيرة متفرقة وهذه الجماعات أخذت تنمو تدريجيا وعلى مهل وأخذت تزداد عددا وقوة إلى أن أصبح لهم سلطان عظيم فى البلاد عن طريق تسربهم بهذه الطريقة ، فأخذوا يزدادون قوة مع مرور الزمن كالشجرة الخبيثة التى تنمو فى أرض خصبة فتزداد نموا ، ولقد ساعدهم على ذلك حالة الاسترخاء التى سادت البلاد فى تلك الحقبة والمنازعات الصغيرة على حكم البلاد ، فكانت فرصتهم السانحة فى الانقضاض على مقدرات الحكم واستعمار البلاد وكما يقول الحكيم " إن هدوء سطح البركة قد يخفى التماسيح التى ترقد فى قاعها " وليست القوة فى ألا نسقط ولكن القوة فى أن ننهض كلما سقطنا هذا هو الدرس الذى تعلمناه .
فجأة علا صوت دقات طبول المعبد وأشار الكاهن الأكبر بيده إلى الجموع الفرحة أن تنصت فأخذت أصوات الجماهير تخفت والهمهمات تقل ، فلقد تحركت جلالتها لكى تعتلى المنصة التى أعدت لها لتخاطب جماهير الشعب بصوتها الحنون ، وكلماتها الشافية ..
قالت رادوبى : علينا أن نصمت الآن حتى نستمع لخطبة الملكة على أن نكمل حديثنا فيما بعد .وقفت الملكة مشرقة معتدلة شامخة وقالت : شعبى الحبيب .. يا رجال ونساء طيبة الكرام إن قلبى يملؤه الفرح عندما ألتقى بكم وأرى فى أعينكم واسمع من أفواهكم ذلك الترحيب بشخصى .. لكنى مع تلك الفرحة لا أشعر باكتمالها كلما تذكرت أن جزءاً غالياً من أرضنا المباركة تسكنه تلك القبائل الهمجية التى تسربت إلينا كما يتسرب الماء من بين الأصابع ونشبت مخالبها كما ينشب المرض أظافره فى الجسد السليم حتى اصبحنا بين وعشية وضحاها تحت نير احتلالهم البغيض ، نأخذ الإذن حتى ترعى أبقارنا ومواشينا فى مستنقعات الدلتا .. مطالبين أن نقدم لهم الجزية فى كل عام ونعيش معرضين فى كل وقت لطيشهم وحماقاتهم ، لذلك لم يكن من بد من التصدى لهم بكل القوة والحسم وهو ما قام به ملكنا المرحوم تاعا الثانى الملك المبجل حتى لقى حتفه محارباً صلباً فى سبيل تحرير أرضنا الغالية راضياً سعيداً بما قدم من دمه ، رافضاً مبدأ الخضوع لأولئك الأوغاد ، ثم تبعه الإبن البار كامس فى كفاحه من أجل الحرية والرخاء وحقق عليهم نصراً غير مسبوق لولا أن اغتالته يد الغدر فى ساحة المعركة ، وأنا وجميع أبنائى على استعداد للتضحية بآخر قطرة من دمائنا وآخر نفس لنا فى هذه الدنيا من أجل حرية بلادنا ، وأنا أدعوكم فى هذا اليوم المبارك يا أبنائى .. ليتقدم كل قادر منكم إلى معسكرات التدريب التى أقامها ملككم المحبوب البطل أحمس فى كل بقعة من بقاع الجنوب ليستكمل ما بدأه أباه وأخاه المرحومين من تحرير لكامل تراب بلادنا الحبيبة مصر .. ومن لا يقدر على حمل السلاح عليه أن يبذل جهده وعرقه فى فلاحه أرضه أو العامل فى منجمه والصانع فى مصنعه والنساج على نوله والعابد فى معبده .. كل يقوم بعمله وكأنه فى ساحة القتال فبلادنا بحاجة إلى كل حبة عرق وجهد كل واحد منكم من أجل رفاهيتها وحريتها وفى النهاية أدعوا لكم أن يرعاكم الإله ويحفظكم ويعيد عليكم أعيادكم والسلام .تأثرت الجموع واهتزت مشاعرها بقوة لخطبة الملكة وأخذت تصفق وتصيح كلنا فداء مصر .. كلنا فداء الوطن عاشت الملكة المبجلة عاش الملك الأسد أحمس .. مرحباً بالنزال .. لا خضوع بعد اليوم .. الموت للهمج .بينما ارتفعت أصوات الموسيقى وأخذ الخازن يأمر مساعديه بأن يقدموا أرغفة الخبز وقطع اللحم وكؤوس الجعة الباردة ، وقطع الحلوى للجموع المحتشدة مع الدعاء للملكة الطاهرة بطول العمر والبقاء .وتحرك الموكب الملكى فى هدوء ليغادر المعبد .
قالت سارة : ماذا يا رادوبى .. ألن نقابل الملكة الآن .. إنها تنصرف .. إنى أريد أن أعبر لها عن إعجابى وتقديرى لشجاعتها .. هيا بنا لنلحق بها قبل أن تنصرف .
قالت رادوبى : إن لمقابلة الملوك أصول يجب أن تتبع يا سارة فصبراً يا صغيرتى ولا تتعجلى وتعالى الآن لنأخذ نصيبنا من الحلوى ونشاهد الراقصات والعازفات حتى يحين المساء .
قالت سارة : فعلاً يا رادوبى معك حق إنى أحب الحلوى جداً ومنظرها يبدو شهياً من على البعد ، فكيف تكون عندما نلتهمها .. ولكنى لاحظت اهتمام الناس وطربهم للموسيقى أكثر من إقبالهم على الطعام والشراب ؟.
قالت رادوبى : إن الموسيقى هى عنوان الذوق يا صغيرتى والذوق هو قائد السلوك المهذب ، السلوك الإنساني المتحضر ، والشعوب التى تحسن سماع الموسيقى هى شعوب يسود فيما بينها شعور عميق بالرحمة أما الذين لا يسمعون الموسيقى ولا يتذوقونها فإن القسوة تسكن قلوبهم ويظهر ذلك فى سلوكهم على الدوام .


قالت سارة : ما أبدع ما تقولين وما أعظم ذلك الشعب ، ولكن ما حكاية الملك تاعا الثانى ابن كامس مع هؤلاء الغزاة يا رادو .قالت رادوبى : ما شاء الله إنك تنطقين الأسماء بسهولة ويسر الآن لقد أصبحت اللغة طيعة فى فمك يا صغيرتى .
قالت سارة : إنه طول العشرة يا رادو .
قالت رادوبى : إن ملكنا المرحوم تاعا الثانى يعد من أعظم الملوك فى تاريخ مصر لقد وصل إلى الحكم فى طيبة وشمال الدلتا تحت تحت نير الاحتلال البغيض للرعاة وبقى ينتظر الفرصة حتى يحرر الدلتا من هذا الاحتلال قبل أن يأتى اليوم الذى يهدده فى عقر داره .. لقد شعر الملك أن جموع الشعب قد سئمت هذا الاحتلال وكلما قرر خوض المعركة كان يجد من يقول له إن هؤلاء الأسيويون لن يجرؤ على الاقتراب من طيبة وهم لا يعترضون مواشينا فهى ترعى فى مستنقعات الدلتا على الرغم من أنهم يستولون على أرض الدلتا فإذا ما أتو إلى أرضنا وحاولوا أن ينازعونا عندها سوف نحاربهم .وبقيت الحال كذلك حتى جاء اليوم الموعود عندما أرسل الملك أبوفيس ملك الهكسوس رسولا وقحا يقول إن أفراس النهر فى طيبة تقلق نوم الملك أبوفيس فى مقره فى أواريس وعليه أن يسكتها .. عندها تعجب الملك تاعا الثانى وقال كيف يصل صوت أفراس النهر إلى مخدع أبوفيس على الرغم مما بيننا وبينه من مسافات .. فعلم أنها خطة للتحرش بنا وأن اليوم الذى أعد له العدة قد حان فقرر أن يحارب هؤلاء الرعاة فجمع كبار الدولة وأخبرهم الخبر وقال لهم لقد طلبتم منى الانتظار أيها السادة وهاهم قد اقتربوا من غرف نومكم وقرروا أن يدمروا حضارتكم فماذا تقولون ؟.فأجابه الجميع : إنها الحرب يا مولاى .فقال الملك : إننى سأحارب وأنا واثق من النصر وأن الأرض ستحارب معى وترحب بى بوصفى الحاكم القوى سقنن رع حامى مصر وأنا أثق فى شجاعة جيشى وسنكون عاصفة من نار تحرقهم وتقضى عليهم . وبادر بإرسال جنود الاستطلاع ليتجسسوا على مواقع الأعداء وقامت طلائع قواته بتدمير مؤخراتهم وإثارة الذعر فى صفوفهم وكان خلال معاركه ينقض على أعدائه كالصقر وحقق عليهم انتصارات عديدة ، وخرب لهم الكثير من القلاع ودمر الحصون وعاد ومعه العبيد والقطعان من خيرات بلادنا التى طالما نهبها هؤلاء الرعاع المغتصبون .. ولما لم يجد الأعداء من سبيل للقضاء على هذا الملك القوى لم يكن أمامهم إلا استخدام سلاح الغدر والخيانة فتسلل عدد من الخونة إلى خيمة الملك وهو نائم وقاموا بقتله بطريقة خسيسة تدل على الوضاعة والجبن من مواجهته وظن أبو فيس أنه بذلك قد تخلص من إزعاج ملك الجنوب القوى تاعا الثانى خصوصا أن ولديه كامس وأحمس ما زالا صغيرين وزوجته السيدة إياح حتب ليس لها خبرة فى الحروب والقتال .قالت سارة : الأمر فعلا خطير يا رادوبى فماذا تملك سيدة أرملة وحيدة فى مواجهة هذا الملك الغاصب .قالت رادوبى : ألم أقل لك إنها سيدة عظيمة وأنها حبيبة الشعب إنها لم تستسلم للحزن بل جمعت كبار رجال الدولة وأعلنت أمامهم أن دم الملك تاعا الثانى لن يذهب هباء ولابد من الثأر له وتحرير البلاد كما أراد مليكنا المرحوم وأنها نذرت نفسها وأبناءها فداء لهذا الهدف النبيل ، وأمسكت فى يدها مقاليد الأمور بعزم وحزم ، وأخذت تساند ابنها كامس المحارب وتقوى من ساعده .. على أنه كان حديث السن ومع ذلك كان الجميع يعجب بشجاعته وقوته لقد تعلم كل أساليب الحرب وأصبح مقاتلا ليس له مثيل فى أرض المعركة ، يقود فرسين مقترنين ولا يسبقه أحد فى العدو ، قوى الساعد لا يكل ولا يتعب من استعمال المجداف .. لقد كان أفضل من يصوب بالسهم وهو يقود عربته الحربية ليصيب الهدف فى مركزه .أخذ يحقق كل يوم نصرا جديدا على هؤلاء الرعاة يحاربهم فى مياه النيل وفى مستنقعات الدلتا ، وفى الصحارى .. فلم يجدوا بدا إلا أن أخذوه على حين غرة كما فعلوا مع أبيه فتسللوا من خلفه وطعنوه ليتولى بعده الحكم أخيه الأصغر أحمس الذى لا يقل عنه قوة وشجاعة ، ومهارة .. حفظه الإله ورعاه .قالت سارة : حقا إنها لعائلة مجاهدة عظيمة يا رادو .قالت رادوبى : والآن هيا بنا لنلحق بحفل الاسقبال الذى تقيمه الملكة حتى تشاهدى ما يسرك .تبعت سارة رادوبى وهى وجلة خائفة من دخول المقصورة الملكية هكذا بلا استئذان .وما إن دخلت إليها حتى وجدت نفسها وجها لوجه أمام جلالتها وهى تبدو من فرط رقتها وحنوها كسحابة بيضاء تظلل من حولها فى يوم قائظ .أحست سارة بالاضطراب ولم تستطع أن تتحرك أو تتكلم بل وقفت ثابتة بلا حراك وأحست بالبهجة والخوف معا ، عندما أمسكت السيدة يدها وقالت مرحبا بك يا رادوبى أنت وضيوفك يسعدنى قدومك إلى حفل الاستقبال هذا .. ما اسمك يا صغيرتى ؟.
أجابت سارة : سارة يا مولاتى .قالت الملكة : ولكن يا سارة هل أخبرك أحدهم أن حفلنا الليلة حفلا تنكريا؟؟! لماذا تلبسين تلك الملابس الغريبة ؟تنبهت سارة إلى غرابة ملابسها وقالت : عذرا يا مولاتى أرجو عفوك .قالت الملكة : لا عليك يا صغيرتى أنت على الرحب والسعة أرجو لك وقتا طيبا معنا فى تلك الليلة .لم يمض وقت طويل حتى دخل المقصورة الملك أحمس وانحنى على يد والدته الملكة المبجلة مقبلا يدها وجبينها ولكن قلبه انتفض عندما شعر أن وجه الملكة يبدو شاحبا تعلوه صفرة تميل إلى البياض .. وأحس أنها متوعكة فهى لم تكن قد استراحت لأيام عدة فقال لها : إنك تضنى نفسك فى العمل المتواصل يا مولاتى بدرجة لا يحتملها بشر فكل احتفال يقام لابد أن تحضريه وكل قادم لابد أن تستقبليه وكل حجر ينشأ وكل تمثال ينحت لابد أن تشرفى عليه بنفسك ، إن صحتك لا تحتمل هذا الجهد .أحاطت الملكة رأس ابنها الحبيب بين كفيها وقالت :إن اليوم الذى أستريح فيه هو يوم تخبرنى أنك قد قضيت على أولئك الرعاة الأوغاد وحررت بلدك المقدسة مصر من شرورهم ، إن دماء أبيك المرحوم تاعا الثانى وأخيك كامس الحبيب تلوح أمام عينى فى كل ساعة ولن أهنأ أو أرتاح حتى تقتص لهم من قاتليهم الأجلاف ، ألا تعرف ما يعانيه الناس هناك منهم ومن عسفهم ، إن الناس تئن من الظلم والأخبار التى تأتينى تقول أن كل شئ قد آل إلى الفوضى فلا توجد حكومة وانعدم قانون قاعة العدل من الوجود وداسته الأقدام لقد أصبح الشعب فريسة لسوء النظام ، والفتن تضرب فى البلاد ، وكل أصحاب الحرف لا يقومون بعمل على الإطلاق لقد ترك الفلاحون أرضهم ولم يعودوا يعملون لأنهم لا يأمنون على أنفسهم ، والبحارة لا يقلعون بسفنهم إلى جبيل لإحضار أخشاب الأرز اللازم للمومياوات الذى من خشبه تدفن الكهنة ومن زيته تحنط الأمراء .. حتى بلاد كريت لم تعد تأتى الأخشاب منها .قال أحمس : نعم أعلم كل ذلك يا مولاتى وأكثر ولكنى أشفق على صحتك .وضعت الملكة إصبعها على فمه قائلة : اصنع لى معروفا واطلب من إحدى الوصيفات إناء به ماء ساخن .لم تكمل الملكة كلمتها حتى كان الإناء تحت قدميها والوصيفة تدلكهما لتزيل ما أصابها من تعب فى هذا اليوم .وبعد أن استراحت الملكة قليلا دخل أمين القصر ليخبرها أن كاهن الكهان وقائد الجيش وخازن الملك بالباب يريدون أن يشرفوا بالوقوف بين يدى جلالتها .رأت رادوبى أن الوقت قد حان لكى تنسحب هى وسارة من مقصورة الملكة لكن فضول سارة ورغبتها فى مشاهدة الحكاية حتى نهايتها دفعها لأن تبقى خلف إحدى الستائر لتشاهد هذا اللقاء الهام .أخبرت الملكة أمين القصر بلهجة فيها حدة أن مكان لقاء كهذا هو قاعة العرش الرئيسية وليس مقصورتها الملكية فكيف نسى أصول اللياقة وتكلم بهذا الطلب .اعتذر الأمين بأدب جم وأخبر جلالتها أن رغبته فى راحتها وعدم إجهادها هو الذى أنساه أصول اللياقة ، فهو يعلم مقدار ما بذلته جلالتها من جهد طوال الأيام السابقة من حضور احتفالات ومقابلة سفراء ومرور على مراكز التدريب .قبلت الملكة اعتذاره وطلبت منه أن يخبر جلالة الملك أحمس ليكون معها فى هذا اللقاء . فقال أن جلالته على علم تام بكل شئ وهو جالس كما البدر على عرشه فى القاعة الرئيسية فى انتظار تشريف جلالتها .لم يمض وقت طويل حتى دخل وزير الخزانة والمشرف على مخازن الغلال وكبير القضاة والمشرف على ماشية الفرعون وقائد الجيش ومعه مهندس الأسطول والمشرف على الورش الملكية والكاهن الأكبر ، أبدى الجميع الخضوع والطاعة وبدأ كل منهم فى عرض أخبار مهامه .فبشر وزير الخزانة جلالتها بأن الأموال متوافرة وأن السبب فى ذلك أن الشعب يقدم كل ما يستطيع منذ علم برغبة جلالتها فى خوض حرب التحرير الشاملة ولا يوجد من يمتنع عن دفع ضرائبه .وطمأن المشرف على مخازن الغلال جلالتها بأن المخازن مليئة عن آخرها وأن الرصيد يكفى لأعوام قادمة نظرا لوفرة المحصول هذا العام .أما قائد الجيش فقد طمأن جلالتها على حسن تدريب الجنود وتوافد أفراد الشعب أفواجا على مراكز التدريب فالجميع يعملون فى جد واجتهاد تحت قيادة الملك المحارب أحمس وقال لها ليت جلالتك معنا بالأمس إذن لشاهدته وهو يبارز جنوده البواسل فى إصابة الهدف بالسهم ويباريهم فى التجديف لأبعد مدى والسباحة عكس التيار ويسابقهم فى العدو ، أما عندما يقود عربته الحربية بيد ويصوب رمحه على هدف متحرك بالأخرى ليصيبه فى قلبه فلا يوجد من يجاريه فى هذا .إن ما يفعله جلالته يبث روح التضحية فى قلوب جنوده .. إن الجميع يقولون " إذا كان مليكنا العظيم يفعل كل ذلك بنفسه ويتقدم الجميع فلا يبقى لنا إلا أن نقدم أرواحنا رخيصة فداء لهذا الوطن .." وبعد قليل تقدم سفير جلالتها إلى بلاد بنت وطمأنها أن جميع ما طلبته من مؤن وبخور وعطور وبهار وأخشاب نادرة قد أحضره بخلاف عظيم الهدايا التى أرسلها رؤساء القبائل هناك وهم يقدمون لجلالتها كل خضوع واحترام ويتمنون لنا النصر .أما سفير جلالتها إلى كريت فقد بشر الجمع بأن حاكم كريت القوى أعرب عن استعداده للمساعدة بكل ما يملك وأن يمد الأسطول المصرى بما يحتاجه من سفن أو أخشاب ، وأنه معنا فى حربنا المقدسة حتى نحكم المصيدة عليهم من أعلى ومن أسفل لتكون نهايتهم المحتومة بإذن الله فهو لا ينسى فضل مصر عليه وعلى أجداده وعلى بلاده فهى منارة العلم والحضارة التى اقتبس من نورها كل متحضر .
ثم حان الدور على الحكيم إيبور فقامت الملكة من مقعدها لترحب به وقالت له باشة : كيف حالك يا أخى العزيز وكيف حال والدتك العزيزة ميريت إن الحكيم إيبور أيها السادة شقيقى من الرضاعة ووالدته العزيزة ميريت هى مرضعتى الملكية ولكنه لسوء الحظ فضل البقاء فى الإقليم الشمالى بسبب اعتلال صحته لكنه مع ذلك رجلنا المخلص هناك .. والآن أشكركم جميعا أيها السادة وكانت عين الإله معكم تحرسكم وتوفق خطاكم .هم الجميع بالانصرف ولكن الملكة استبقت الحكيم إيبور بإشارة من يدها كى تتحدث معه .
قالت الملكة : ما أخبار شعبنا تحت الاحتلال يا إيبور العزيز ؟.لمعت دمعة فى عينى إيبور الحكيم واضطربت ملامحه وقال : إن الحالة من سئ لأسوأ يا مولاتى لقد انتشرت الجرائم وأصبح الناس لا يأمنون على أنفسهم ، إن البلاد تدور على عقبها ، لقد انقلبت الموازين فاللصوص أصبحوا هم السادة أما الشرفاء فلقد صاروا مساكين منهوبين لقد مات السرور ولم نعد نتذوقه بعد ولم نعد نسمع فى الأرض إلا الحسرات والأنين ، إننى أرفع صوتى كى تنقذوننا من الألم الذى نحن فيه ، لقد عم البؤس وملكنا المحبوب الذى سيطفئ تلك النار راعى كل الناس ، الذى لا يحمل قلبه شرا سيجمع شمل شعبه ويضرب الشر و يقضى على الأشرار إنه الحاكم الطاهر النقى الخير المقاصد الذى يعز عشيرته ويجمعها ويسحق الأشرار ، إن الشعب فى شوق لذلك اللقاء ينتظر ملك الجنوب لينشر السلام فى الأرض ويفرح أهل زمانه ويبقى اسمه أبد الآبدين ، هل يقدر لى أن أرى ذلك اليوم لأكون فى خدمة جلالة الملك العادل ؟.هنا اعتدل الملك أحمس فى جلسته وقال " كم آلمنى ما حكيته يا سيدى وإنى لأطمئنك أن كل ما تمنيت سيكون ، وأن يوم النصر لقريب ، وأن نهاية هؤلاء الرعاة قد حانت ، فبشر قومنا عما قريب وأهلا ومرحبا بك فى قصر شقيقتك".تبسمت الملكة لما رأت من عزيمة وقوة الشكيمة لدى ولدها الحبيب المحارب أحمس وعندها اطمأن بالها على حال جيشها وجنودها وأخلدت إلى مقصورتها للنوم استعدادا ليوم مرهق جديد .ضغطت رادوبى على يد سارة وقالت أظن أن هذا يكفى يا سارة هيا بنا نخلد للنوم حتى نرى ماذا سيحدث فى الغد .قالت سارة : وأين ننام هل نذهب إلى حجرتى مرة أخرى ؟قالت رادوبى ضاحكة : كلا يا صديقتى إننا ضيوف الملكة ومكاننا هو قصر الضيافة الملكى .فى المساء التالى كانت الملكة ترأس حفلا صغيرا استمعت خلاله إلى مغامرات ابنها الشاب أحمس وهو يجد فى مطاردة فلول الهكسوس ، كيف ظل يتنقل بعجلته الحربية بين الصفوف حتى انتهى أخيرا من مطاردة فلول الرعاة حتى أواريس ولم يعد إلى معسكره إلا وقد أسر اثنان منهم وشد وثاقهم إلى عجلته الحربية ، كذلك تحدث الجميع عن بسالة الجندى أحمس بن أبانا الذى أثناء حصار أواريس طويل الأمد ترك رفاقه وذهب للسباحة على صفحة الماء منحدرا مع النهر وعاد وقد أسر واحدا من الهكسوس من الشاطئ الذى يعسكرون عليه وخاض به فى الماء إلى الشاطئ الذى عليه رفاقه والأسير على ظهره وكرر تلك الفعلة عدة مرات ، فأمرت جلالتها بمكافأته على ذلك بالذهب .باركت الملكة رجالها وقالت اعلموا يا أبنائى أن الأمل هو بذر الحبوب وانتظار الحصاد ، ولا حصاد للأمل بغير بذور العمل ، فاستمروا فيما بدأتموه واعلموا أن قطرات الماء تنحت الصخر باستمرارها ودوامها ، ولا يخالط اليأس نفوسكم أبدا لأن أشد ساعات الليل ظلاما هى تلك التى تسبق الفجر ، وأفضل الثمار هى أبطأها نضجا ، ولكن علينا فى كل حين قبل أن نذهب إلى عرين الأسد ، أن يكون فى يدنا سلاح يفوق قوته وعقل يكشف تدبيره حتى يتحقق لنا النصر ، فهيا أعدوا العدة لمعركتكم الحاسمة والإله يرعاكم .دخل القادة لعقد اجتماع لوضع الخطة النهائية لهجوم حاسم على الأعداء ..قالت سارة : أريد أن أحضر هذا الاجتماع النهائى يا رادوبى .قالت رادوبى : غير ممكن يا سارة إنه اجتماع سرى للغاية ، ولا يجوز لنا أن نقتحم الأسرار الحربية هكذا يا صديقتى ، كما أن وقت رحلتنا قد انتهى.
قالت سارة : انتهى ؟!
كيف ذلك ؟ يجب أن نعرف بقية الحكاية لابد أن أشاهد المعركة الفاصلة .
قالت رادوبى : كان بودى يا صغيرتى أن أحقق لك رغبتك لكنى أخشى عليك من جو الحرب والضرب والنزال ، وها قد حان وقت الرحيل .
قالت سارة : وما الحل إذن . أجابت رادوبى وهى مشفقة من فضولها : يمكن أن أحكى لك أثناء عودتنا كل ما حدث بشرط ، أن تحكى هذه القصة لزملائك . قالت سارة : شرطك عجيب يا رادوبى بالطبع سأحكى لهم .
تبعت سارة رادوبى واتجهتا نحو القارب الذى أقلهما فى أول مرة وأخذت رادوبى تحكى :أخذت المعارك تشتد بين أحمس والرعاة حتى أصبحت مدينة أواريس مدينة مخربة وسط سهول الدلتا ، وعلى أثر هذا الانتصار المبين اقتفى أحمس أثرهم متجها نحو الجزء الشمالى من صحراء سيناء ، إلى أن تحصنوا بمدينة شاروهين وضرب عليهم الحصار وفى النهاية استولى على المدينة ، وبعد أن أتم نصره وجه عنايته نحو إصلاح ما أفسده الدهر من آثار أجداده العظام وحول عنايته لإعادة بناء المعابد الهامة فى عاصمة ملكه ، وقد كانت البلاد تحتاج إلى تنمية ضرورية كى تنهض من كبوتها فاستعان بجيل جديد من المصريين الذين تجرى فى عروقهم دماء الحرية ، فأمر بفتح المحاجر لقطع الأحجار واستخراج الحجر الجيرى الأبيض الجميل ، لبناء المعابد ، ومد الجسور وشق القنوات ، وتعبيد الطرق .. وكانت الأحجار تجر بالثيران التى غنمها فى انتصاراته ويسوقها الأسرى الذين ساقهم معه إلى مصر .قالت سارة : وماذا عن الملكة المبجلة قمر الزمان ؟
قالت رادوبى : لقد عاشت جلالتها عمرا مديدا سعيدا تحظى بحب ورعاية ولدها الملك وأفراد شعبها حتى جاء موعدها المحتوم فقام ولدها الحبيب بإقامة هرم ومحراب كأثر لها كما حفر بحيرة مقدسة ، وغرس حولها الأشجار ، وعين لها كهنة، ومرتلون لكل منهم واجبه فى العناية بقبرها لقد كان يحبها أكثر من أى شئ ودائما ما كان يدعو لها ، ويقدم القربان الملكى بنفسه من الخبز والجعة والثيران والأوز والماشية ، إلى روحها الطاهرة .
قالت سارة : حقا إنها لسيدة عظيمة من مصر تستحق الخلود فشكرا لك يا رادوبى أن أتحت لى فرصة التعرف بها .انتبهت سارة على يد تهزها برفق وتقول : صباح الخير يا سارة .. من رادوبى هذه التى تشكرينها ، إننى أمك ولقد أعددت الإفطار والجميع فى انتطارك ، فهيا أسرعى .. قامت سارة وعلى شفتيها ابتسامة صغيرة وقالت : لا عليك يا أماه الحبيبة فالأمر شرحه يطول .
 تمت

هناك 3 تعليقات:

غير معرف يقول...

رائعة
شكرا لك ولكاتبها

غير معرف يقول...

رائعة
شكرا لك ولكاتبها

Unknown يقول...

قصة رائعة تحمل معنى كبير