العــَــيْـــن
القصة الفائزة بالجائزة الإقليمية لأدب الأطفال من مؤسسة آناليند
د.عفاف طبالة
دق الجرس معلنًا نهاية اليوم الدراسي. سارع عمرو بالخروج من المدرسة.
تحسس
جيبه يطمئن لوجودها، وانطلق في طريقه. لم ينتظر صديقه حاتم لمرافقته كالعادة.
مشوار العودة للمنزل لن يستغرق اليوم إلا دقائق قليلة.
يأخذ المشوار وقتًا أطول
برفقة حاتم؛ ينشغلان بالحديث وأحيانًا يجلسان لِلَّعب بـ "الجيم بوي".
ابتعد عمرو عن المدرسة. شعر أن حاتم يتبعه. مد من خطوه حتى لا يلحق به. نظر
خلفه يتبين. لمحه يختفي وراء إحدى الأشجار. لم تظهر إلا عينه. كانت العين واسعة
بشكل غير معتاد.
لا.. ليس حاتم.
حاول أن يتذكر:
لمن هذه العين؟
لم يفلح. تساءل:
لماذا يتبعه هذا الشخص، ولماذا يتخفى؟ لا بد أنه لا يقصده هو.
واصل السير.
قبل أن يدخل من باب العمارة، نظر وراءه يطمئن أنه لم يعد يتعقبه. لكنه لمح
عينه بين السيارات المنتظرة في الشارع. شعر عمرو ببعض الخوف. صعد السلالم قفزًا.
عندما وصل لعتبة الشقة نظر يتأكد من أنه لم يتبعه لداخل العمارة. لمح عينه مرة
أخرى تلمع في عمق بئر السلم.
هل هي خيالات يصورها له الخوف؟
دخل وأغلق باب البيت بسرعة.
تنهد مرتاحًا؛ بهذا يكون قد تخلص من صاحب العين
الذي يتعقبه.
لم يكن في البيت غير الجد حسين. ارتمى عمرو على الأريكة. كان ينهج. سأله
الجد عن السبب. حدثه عمرو باقتضاب عن الرجل المتطفل ذي العين الواسعة الذي يتعقبه.
أثار كلامه قلق الجد.
خشي أن يكون هذا الشخص قد تعرض له بالأذى.
نفى عمرو وأكد أن
كل ما فعله هو مجرد تَتَبُّعه ومراقبته عن بعد.
فتح الجد باب الشقة يستطلع.
لم يكن هناك أحد. شك الجد في أن ما قاله عمرو
تخاريف محموم. في طريقه لمقعده جَسَّ جبين عمرو.
اطمأن.
ضحك ظانًا أنها حيلة من
حيل حفيده، يلجأ إليها عندما يحصل على درجة غير مشرفة ( مرضية ) في امتحان، ليتهرب
من رواية ما حدث في المدرسة.
كشف الجد لعمرو أنه فطن لحيلته وأنه لن يعفيه من حكاية أحداث اليوم، كما
يفعل دائمًا عند عودته.
هم عمرو بالحديث لكن فجأة أطلت عليه العين من الطرقة
المؤدية للمطبخ.
هل دخل عندما فتح الجد الباب؟
أشار للطرقة يثبت لجده ما يقوله.
لم يأخذ الجَد كلام عمرو مأخذ الجِد
وطالبه بأن يكف عن المزاح.
كيف لا يرى جده هذه العين ولماذا يراها هو فقط؟ هل يتخيل أشياء غير موجودة؟
لكن لماذا تطارده هذه الخيالات
اليوم؟
لن يصدقه جده مهما قال.
دخل عمرو حجرته وأغلق الباب وراءه. جلس على كرسي مكتبه المجاور للشرفة.
أخرجها من جيبه.
ما هذا؟ كيف وصل إلى الشرفة؟
كانت العين تطل عليه من وراء الستارة.
هذه العين تزعجه وتخيفه. يجب أن يبحث عن مكان لا يمكنها أن تصل إليه.
أعادها لجيبه وقفز إلى سريره وصنع من الغطاء خيمة جلس داخلها. في ظلام
الخيمة، في طرف الغطاء عند أقدامه، برزت العين مرة أخرى.
لا يمكنه أن يتجاهلها. هي تزعجه أكثر مما تخيفه. يجب أن يتخلص منها؟
خرج من غرفته بسرعة وأغلق بابها وراءه بالمفتاح وهو يتمتم: "سأحبسك
أيها المزعج المتطفل ذو العين الواسعة كي لا أراك مرة أخرى".
سمعه جده. أدرك بحكمته أن عمرو لا يمزح وأنه يعاني من مشكلة حقيقية، وأن
هناك ما يؤرقه بالفعل.
سأله: "هل مازلت ترى هذا الرجل ؟"
قال عمرو بضيق:
"لا أرى منه إلا مجرد عين تطل علي، تظهر لي أينما ذهبت". صمت الجد يفكر
فيما قاله عمرو.
هز رأسه كأنه فهم .
قال: "لماذا لا تحكي لي ما حدث في
المدرسة اليوم؟"
تردد عمرو بعض الشيء قبل أن يقول، متهربًا من محاولات الجد
لدفعه للحديث: "لم يحدث شيءٌ يذكر".
لكن الجد أستمر يستدرجه ليحكي.
قال
مستعينًا بروايات عمرو السابقة: "اليوم الخميس، في الحصة الأولى لغة عربية،
هل أعلن المدرس عن نتائج امتحان التعبير؟"
بدا عمرو مشتت الانتباه.
أكمل
الجد: "فهمت لم ترضيك درجتك في الامتحان."
قاطعه عمرو قائلاً:
"بالعكس حصلت على ثالث أعلى درجة في الفصل".
رد الجد في سعادة:
"عظيم لك عندي مكافأة".
ركد الحديث مرة أخرى فحركه الجد قائلاً: "الحصة الثانية للرياضيات..
أعطى لكم المدرس تمارين كنتَ كعادتك أول من أنجزها".
رد عمرو بأسف: "ليس
هذه المرة" وأضاف معترفًا، ردًا على نظرة تساؤل من الجد: "شغلني اللعب
بالجيم بوي الجديدة التي أحضرها حاتم".. ثم أكمل وقد لاحظ لومًا في عيني جده:
"كنت أريد أن أتدرب عليها ولم أجد أمامي فرصة إلا أثناء الحصة".
لم
يقتنع الجد بالعذر وقال: "كان عليك أن تفعل ذلك في الفسحة"
سارع عمرو
قائلاً: "في الفسحة تباريت أنا وحاتم على اللعبة الجديدة.." صمت وقال
بغيظ: "وهزمني".
استمر الجد يفتش في أحداث اليوم عن سرِ ما يعاني منه عمرو: "ما بقي من
يوم الخميس هي حصة الألعاب وحصة الإنجليزي"
قال عمرو: "تغيب مدرس
الألعاب.. وقضيت الوقت ألعب مع حاتم على الجيم بوي."
ضحك الجد وقال:
"وهزمك مرة ثانية؟".
قال بحزن: "نعم".
ثم أضاف مبررًا هزيمته:
"هو لديه وقت عند عودته للمنزل ليتدرب عليها.. وهذا ليس عدلاً".
لاحظ
الجد أن عمرو يشعر بمرارة فسرها الجد بأنها مرارة الهزيمة فسأله ليحول الموضوع:
"وهل مرت حصة الإنجليزي على خير؟"
بدأ عمرو يتلعثم وهو يقول: "طرد
المدرسُ حاتمَ من الفصل".
قال الجد: "انتهى اليوم الدراسي ورافقك حاتم
في طريق العودة للبيت كعادتكما". صمت عمرو ثم قال يختم رواية أحداث اليوم:
"عدت وحدي".
طوال حديثهما كان عمرو يرى العين تحوم حيثما يتجه نظره. حاول أن ينكر
وجودها، أو يتجاهلها أو يتفادى رؤيتها محولاً نظره من جهة لأخرى، دون جدوى. ها هي
الآن تبرز في مواجهته على باب حجرته، بحجم كبير تكاد تكون مجسمة. شعر بالخوف
الشديد.
ارتمى في حضن جده، ودفس رأسه في صدره وهو يقول: "خبئني يا جدي، لا
أريد أن أرى هذه العين."
احتضنه جده في حنان وقال بهدوء: "بيدك أنت وحدك
أن تصرف هذه العين بعيدًا عنك"
أخذ عمرو يبكي.
ربت جده على ظهره يهدئه:
"قل لجدك، ما الذي فعلته اليوم لا ترضى عنه، ولا يرتاح له ضميرك؟".
كان صوت عمرو مخنوقًا من البكاء وهو يقول بأسى: "طلبت من حاتم أن
يعيرني اللعبة الجديدة ليوم واحد لأتدرب عليها، لكنه رفض."
صمت قليلاً يستجمع
شجاعته للبوح: "عندما طرده المدرس من الفصل ترك أغراضه على الدرج
بجواري"
وأضاف بصعوبة: "ومن بينها اللعبة."
ثم انخرط في بكاء متصل،
نشيجه مكتوم في صدر جده.
فهم الجد. بدت على ملامحه علامات غضب وعدم رضا. بعد قليل تمالك نفسه. تغلبت
الحكمة والحنان على الغضب.
قال لعمرو الذي بقي رأسه مدفونًا في صدره: "كلنا
نخطئ، والذكي هو من يصحح خطأه."
قال عمرو بخجل محاولاً تخفيف ذنبه: "لم
أكن أنوي أن أحتفظ بها.. سأعيدها لحقيبة حاتم عندما تنتهي الإجازة".
قال الجد
بحسم: "لا، ليس هكذا يكون تصحيح الخطأ".
سأل عمرو بصدق: "كيف
إذن؟". قال الجد: "بالاعتراف لمن أخطأنا في حقه، والاعتذار له."
لاحظ الجد تردد عمرو فواصل: "أعرف أن المسألة تحتاج لشجاعة، وأعرف أن هذه
الشجاعة لا تنقصك. اذهب إلى حاتم الآن قبل عودة والديك، أعد له لُعبتَه واعتذر
له."
***
كانت العائلة تستعد للجلوس حول مائدة الطعام عندما وصل عمرو من عند صديقه
حاتم.
بدا عمرو للجد كَمَن تخفف من حمل ثقيل.
دعاه جده ليأخذ مكانه بجواره.
أثناء
انشغال الجميع بالأكل، مال عليه الجد وهمس له: "هل مازلتَ ترى العين؟"
تلفت عمرو حوله في أرجاء المكان.
ابتسم لجده ابتسامة عريضة، وهز رأسه بالنفي.
هذه القصة مستوحاة من قصيدة :"الضمير"
للكاتب الفرنسي: فيكتور هوجو
(1802 -1885 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق