الثوب الذي تحبه الفراشات
نجيب كيلاني
كان ياما كان، في قديم الزمان، صبيَّةٌ سمراء، اسمها: (لينة). عندما جاء فصل الربيع، صارت الفراشاتُ تترك الأزهارَ، وتقف على ثوبها!
تعجَّبَ الناس من
منظرها الجميل، وحسدوها، فقال بعضهم:
-
ما أغبى الفراشات! ألم تجد غيرَ هذه البنت الفقيرة السمراء لتقف على
ثوبها؟!
وقال آخرون:
- هذا سِحر.. الصبيّة تعيش وحيدةً مع جدتها بعد أن مات
أبواها، ولا بد أنَّ الجدةَ صنعتْ لها ثوباً مسحوراً.
وقال
رجل أصلع وهو ينظر حزيناً إلى رأسه في المرآة:
كثيرٌ من الصبايا
شعرن بالغيرة، فرحن يسرن وراءها في الطريق حاملاتٍ مراوحَ كبيرة، يحركنها بشدة،
لعل الفراشات تغادر ثوبها، لكن الفراشات كانت ترفرف بأجنحتها، ولا تطير، فيزداد
غيظهن!
أما لينة، فكانت ترى تصرفات
الصبايا نحوها، وتسمع الأقاويل من جدتها، تنقلها إليها بعد مشاويرها في الشمس الدافئة،
فتضحك البنت، وتضحك وهي تعمل في تطريز القماش. أحياناً تحمل قطعة القماش التي تطرزها،وترقص
بها على أنغام
لسانها: (تر لي لي لم.. تر لي لي لم).
أنهت لينة رقصها في
إحدى المرات، فقالت لها جدتها:
-
أما آن الأوان لنخبر الناس بالحقيقة؟
-
الحقيقة أمامهم يا جدتي، ولكنهم لا يرونها! الحسد عطَّلَ عقولهم!
ازدادت في الأيام
التالية حيرة أهل المدينة، وازداد تعلُّقُ الفراشات بثوب الصبية، فقيل: إنها صارت تدخل معها إلى
البيت! وقيل أيضاً: أخذت فراشاتٌ أخرى تتزاحم على زجاج شبابيكهم محاولةً الدخول،
فبدتِ الشبابيكُ كأنها تحفٌ مطلية بالفَراش!
وقالوا: إنَّ من لم
ير الصبيةَ وثوبها وفراشاته كان يترك عمله عند الصباح وينتظر قريباً من بيتها حيث
اعتادت أن تخرج لتأتي بالخبز.
وفي أحد الأيام وقع أمر خطير جداً: كان طباخ الملكة بين المنتظرين، وصادف أن تأخرت البنت في خروجها، فطال انتظاره وطال، وحينما عاد إلى القصر لم يستطع أن يقدّم الغداء لسيدة البلاد في الوقت المحدد! ولم يستطع أمامها إلا أن يعترف بغلطته ومكان غيابه، فصاحت بحراسها:
-
هاتوا لي حالاً هذه البنت التي تريد تعطيل الأعمال، وتخريب البلاد!
عندما وقفت لينة أمام
الملكة تبخَّر نصف غضبها، وهي ترى ثوبها المطرَّز بالفراشات، لكنها صاحت:
-
قولي الحقيقة أيتها الخبيثة. هل أنتِ ساحرة أم مخرِّبة؟
لم تفقد البنت
شجاعتها وهي ترد:
-
أنا مجرد فتاة تحب التطريز، وإني بارعة فيه يا مولاتي.
-
التطريز! وما علاقته بالفراشات؟!
التقطت لينة بلطف
شديد إحدى الفراشات من جناحيها، ورفعتْها عن الثوب، فظهرتْ تحتها زهرةٌ
رائعة خطفتْ بصرَ الملكة، وعقلها، حتى تمنت لو أنها فراشة لتقف على تلك
الزهرة! ثم تمتمت بذهول:
- يا الله! تقصدين أن هذه الزهرة من تطريز
يديك، وأن الفراشة تتشبث بها لشدة جمالها؟!
-
بكل تواضع، نعم يا مولاتي.
-
غير معقول! أنتِ في حدود الخامسةَ عشرةَ، ولدينا في المملكة عاملات تطريز
أكبر منك سناً، ولكنهن يعجزن عن
تطريز زهور كهذه! اقتربي لأنظر إلى أناملك.
أطلقت لينة الفراشة،
ومدت أناملها، فقالت الملكة وهي تتأملها:
-
أنامل عادية! بل إنها نحيلة جداً! هل تدخلين فيها الخيوط، وتستعملينها بدل
الإبرة؟!
تجاهلت البنت سخرية
الملكة، وأوضحتْ بأدب أن المهارة في حركة الأنامل، لا في ضخامتها، وأنها تعلمت الصنعة من جدتها
عندما كانت أقصرَ من شتلة الورد، لذا تفوقت على الجدة نفسها، وذكرتْ أيضاً أنها تطرز
الأزهار، وكأنها تلعب معها، وهي تحاول دوماً أن تبتكر زهوراً ليست موجودة في
بساتين الناس، ولكنها موجودة في بستان خيالها.
وقفت الملكة فجأة،
وهتفتْ:
-
كفى أيتها الصبية. كلامكِ أكبر من سنك! لن أصدقك حتى أمتحنك. إذا نجحتِ في
الامتحان جعلتكِ أميرةً على سوق
القماش والمطرَّزات. لا يبيع التجار شيئاً، ولا يشترون إلا بأمرك، وإذا أخفقتِ سلمتكِ إلى
الجلاد.
شعَّ الحماس في عيني
الصبية، فقالت وكأن قلبها لا يعرف الخوف:
-
أنا جاهزة. ما هو امتحانك يا مولاتي؟
-
اسمعي: بلغني البارحة أجمل خبر: لقد انتصر زوجي ملك البلاد بهمة جنودنا
وشجاعتهم على الأعداء الذين
احتلوا خمسَ مدن في الجهة الغربية من بلادنا، وهو الآن يبني ما دمرته الحرب، أما عودته
إلينا، فستكون بعد سنة. أي في فصل الربيع القادم، أريدك أن تطرزي لي ثوباً رائعاً تقف
الفراشات على أزهاره لألبسه في يوم العودة.
انحنت البنت قائلة:
-
بكل سرور يا مولاتي، وأنا مستعدة أن أعطي خبرتي للراغبات فيها لنصنع
أثواباً رائعة للجميع.
حين عاد الجيش
المنتصر والملك على رأسه وجدوا الفَراش في استقبالهم على ثوب الملكة، وعلى أثواب صبايا المدينة، فتضاعف
الفرح، وعرف من لم يعرف سرَّ الفراشات
التي كانت تقف على
ثوب الصبية الصغيرة، فهتف الجميع لبراعتها، كما هتفوا لعيد النصر، وبدءاً من ذلك اليوم صارت أميرةً
على سوق القماش.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق