سماح أبوبكر عزت
فارقتنى أيام الصيف المرحة الجميلة وتسللت ببطء أيام الخريف
لترحل فى هدوء مع آخر من جاءوا فى وداع الصيف على الشاطئ وبين الأمواج،
الصيف بالنسبة لى هو الحياة، ارتبط بى وصرنا أصدقاء، الصيف من دونى، من دون
البحر لا معنى له، ساكن بلا روح، أمواجى تمنحه الحيوية والسعادة، فترتسم
الابتسامة على وجوه كل الكائنات التى تخشى قسوة الشتاء، تأتى أيامه مندفعة
برياح غاضبة وسيول من الأمطار.
أنا البحر، لا تخيفنى رياح الشتاء القاسية، تهزمها وتعصف بها أمواجى
لا تزعجنى قطرات المطر، فهى جزء منى تتساقط فى حضن أمواجى، فتتلاشى بينها
فى ثوانٍ، لكنى بالرغم ذلك أخاف الشتاء.. . أيامه تحمل لى الوحدة القاسية
والعزلة والصمت، يظل الشاطئ خالياً تتطاير الرمال مندفعة فى يأس يحيط بها
السكون برغم عصف الرياح.
أشتاق لصدى ضحكات الأطفال حين تلمس أقدامهم لأول مرة الأمواج،
فيختلط الضحك بالخوف بالبكاء ورعشة تسرى فى أجسادهم ترتجف معها الأمواج،
للبحر ذاكرة وأمواجه تسكنها الكثير من الحكايا والأسرار، هكذا قالوا عنى..
ذاكرتى لا تنسى وجوهاً صافحتنى وترددت على الشاطئ عاماً بعد عام، وأطفالاً
صغاراً صاروا شباباً كنت أتأملهم تتراقص أمواجى فرحة، كلما زاد طولهم
يقتربون منها أكثر، لتحملهم وتبتعد بهم كأنها خيول تركض فى السباق.
وجه وحيد كنت دائماً أراه من بعيد، وجه طفل لم يجرؤ أن يقترب من
مياهى، لم تلمس قدماه أبداً أمواجى برغم أنه يأتى كل صباح حاملاً على
ذراعيه عوامات من المطاط على أشكال الطيور والحيوانات تساعد الأطفال على
السباحة، فتطفو بهم فوق الأمواج، رأيت الأطفال تنتظر قدومه لتشترى منه
العوامات وتختار بين الحيوانات، سمعتها تناديه: تعال يا أمير.. وتعجبت من
الاسم.. أمير! أمير ولا يستطيع أن يستمتع كأى طفل مثله بالبحر! فى كل يوم
من أيام الصيف كنت أنتظر أمير، أبحث عنه لعله يأتى من دون العوامات فأحقق
له أمنيته.
فى أحد أيام الشتاء، جاء أمير يحمل العوامات، كان الشاطئ خالياً
لكنى شعرت بسعادة أيام الصيف، ارتفعت أمواجى لترحب به واقترب أمير ولأول
مرة ألمس قدميه، كانتا غير أقدام كل الأطفال، خشنتين، متعبتين من كثرة سيره
على الشاطئ حاملاً العوامات. تستحق هاتان القدمان أن أمنحهما الراحة بعد
طول عناء.. صافحتنى يداه، كانتا صلبتين، قويتين، يدان تعملان تستحقان أن
يقبلهما الموج ويربت عليهما فى حنان.
اقترب أمير أكثر.. فرد ذراعيه فأطلق سراح كل العوامات، واندفعت كل
الطيور والحيوانات تقفز وكأنها فى غابة بين الأمواج.. غابة فى حضن البحر
يعيش سكانها فى حب وسلام يلهو فيها الأسد مع الغزال، والفيل مع الدرفيل،
واختلط الصهيل بالهديل، والزئير بالهدير، والنباح بالصياح.
وكانت ضحكة أمير هى أجمل ما سمعت، وابتسامته هى أجمل ما رأيت، ولمسة يديه أجمل ما أحسست.
تراقصت حوله الأمواج، واندفعت أجمل الأسماك لتغنى له أجمل الأغنيات، كان سعيداً لم يشعر بقطرات المطر ولم يزعجه اندفاع الرياح.
ولأول مرة أحب أيام الشتاء التى حققت حلم أمير، فاقترب من أمواجى ومنحنى لحظات من الحب والإحساس بالدفء والحنان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق