الكلمات الممسوحة
ممدوح رزق
( الكلمات والحروف الممسوحة تتلاشي، تتبخر ..
تختفي من الوجود ولا تعود مرة أخرى ) .. تلك كانت إجابة والديه ومعلميه في المدرسة
على سؤاله: ( أين تذهب الكلمات التي يمسحها ـ نتيجة أي خطأ ـ من كراساته أو هوامش
كتبه ؟ ) .. الإجابة التي لم تقنعه .. لماذا لا تذهب الكلمات الممسوحة إلى مكان لا
يمكن رؤيته ؟ .. كان ( علاء ) يفكر في ذلك كثيرا .. يعطي احتمالا قويا لانتقال تلك
الكلمات إلى عالم آخر .. ربما أيضا إلى ولد ما من ذلك العالم الذي لا يعرف عنه
شيئا .. يوم بعد يوم تزداد الفكرة قوة في ذهن ( علاء ) .. ربما هناك ولد مثله في
دنيا مختلفة تذهب إليه الكلمات والحروف الممسوحة بطريقة ما، ويستخدمها في حياته ..
من هو ذلك الولد، وأي عالم يعيش فيه؟! .. بعد تفكير عثر ( علاء ) على وسيلة يمكنه
بواسطتها التوصل إلى إجابة .. اشترى كراسة جديدة ثم كتب داخلها بالقلم الرصاص:
( مساء الخير .. أنا علاء .. لو كنت موجودا
بالفعل أتمنى أن ترد على رسالتي، وأن تخبرني من أنت وأين تعيش )
ثم مسح ما كتبه، وأغلق الكراسة متمنيا ألا
يطول انتظاره للرد.
في صباح اليوم التالي فتح ( علاء ) الكراسة
فوجد هذه الرسالة:
( صباح الخير .. أنا نسخة منك، وأحمل نفس
اسمك .. لا أعيش في عالم ثابت أو زمن محدد؛ فأنا اتنقل بين الحكايات والأماكن التي
تتخيلها أنت، وتحلم بها .. العوالم التي تستقر وتتغير في داخلك دون أن تخبر بها
أحدا .. أما الكلمات التي تمسحها من صفحاتك وتصل لي ( خاصة وانت تكتب موضوعت
التعبير ) فهي اللغة التي استخدمها في التخاطب مع كل ما بداخل الحكايات التي اتنقل
بينها: البشر والحيوانات والطيور والأشجار والعرائس والتماثيل والصور .. الكلمات
والحروف الممسوحة تتوالد منها كلمات وحروف أخرى كثيرة تساعدني في تحقيق أمنياتك
السرية ).
فرح ( علاء ) كثيرا بهذه الرسالة، وبعدها
كلما تخيل حكاية أو سفرا لمكان أصبح يكتب في الكراسة تصوراته وأحلامه عن تلك
الحكاية أو ذلك المكان ثم يمسحها حتى تصل إلى ( علاء ) الآخر فيستخدمها في تنفيذ
الرحلات والمغامرات المختلفة.
لكن بعد فترة سأل ( علاء ) نفسه: لماذا يظل
هو حبيسا في الواقع، ليس بمقدوره سوى التخيل وكتابة الكلمات ومسحها بينما ( علاء )
الآخر هو الذي يستمتع بالعيش داخل العوالم والأزمنة الساحرة .. قرر ( علاء ) ألا
يمسح الكلمات والحروف بعد ذلك .. أصبح كلما أخطأ في الكتابة يشطب على الكلمة أو
يضعها بين قوسين أو يضع عليها علامة x .. أحيانا كان يضطر
لإعادة كتابة الصفحة إذا ما تكررت الأخطاء حتى لا يضطر إلى مسح الكلمات.
ذات يوم استيقظ ( علاء ) من نومه فوجد ( علاء
) الآخر جالسا على طرف السرير .. رآه بالفعل نسخة منه .. حينما سأله عن سبب وجوده؛
أخبره ( علاء ) الآخر بأنه لم يعد يستطيع التخاطب مع الذين يعيشون في الحكايات
والأماكن المتخيلة بعدما توقفت الكلمات والحروف عن الوصول إليه؛ لذا قرر أن يأتي
ليعيش معه.
قال له ( علاء ) أن هذا مستحيل، فرد عليه (
علاء ) الآخر بأنه لن يمكن لأحد رؤيته وبهذا لن يشعر به أحد.
لم يعرف ( علاء ) كيف يتصرف: هل أخطأ حينما
توقف عن مسح الكلمات؟ .. أم أنه أخطأ من البداية حينما أرسل رسالة إلى ذلك الولد
الذي عرف فيما بعد أنه نسخة منه؟ .. لم يكن لديه الكثير من الوقت فقد كان عليه
الإسراع إلى الطاولة لمشاركة والديه وإخوته الإفطار .. حينما اكتمل جلوس الأسرة مد
( علاء ) الآخر يده وطوح الطبق من أمام ( علاء ) إلى الأرض فتناثر الطعام على
الطاولة .. وقف ( علاء ) فزعا، ونظراته المرتبكة غير قادرة على مواجهة أفراد أسرته
الذين حدقت عيونهم بغضب في وجهه .. كيف يفهمهم بأنه لم يفعل ذلك .. أمره والده أن
يترك الطاولة وألا يشاركهم الطعام طوال أسبوع كامل .. اعتذر ( علاء ) ثم توجه إلى
حجرته ليرتدي ملابس المدرسة وهو ينظر إلى ( علاء ) الآخر المبتسم بشماتة.
في الفصل وبينما كان المدرس يشرح على
السبورة؛ فوجيء ( علاء ) بأن ( علاء ) الآخر يمد يده ويضرب التلميذ الجالس بجواره
.. أسرع الولد بالتوجه للأستاذ شاكيا له ( علاء )، الأمر الذي جعل الأستاذ يطرده
من الفصل .. لم يعرف ( علاء ) كيف يُقنع المدرس بأنه لم يضرب زميله وإنما ( علاء )
الآخر الذي لا يراه أحد سواه .. كان ( علاء ) الآخر يواصل الضحك.
تأكد ( علاء ) أن هذا الولد الذي يمثل نسخة
منه سوف يدمر حياته انتقاما من عدم مسحه للكلمات .. في حجرته داخل البيت قرر (
علاء ) أن يتوصل لاتفاق مع ( علاء ) الآخر يضع حدا للمشكلة .. قال له:
( سأعود لكتابة الحكايات التي أتخيلها
والأماكن التي أحلم بها ثم أمسح ما كتبته لتستخدم أنت الكلمات والحروف الممسوحة في
التخاطب مع من في تلك الحكايات والأماكن من بشر وحيوانات وطيور وأشجار وعرائس
وتماثيل وصور .. لكنني أريدك بعد كل رحلة أن تفعل مثلي .. أن تكتب ما حدث وترسله
لي لأعرف ما لم أتمكن من تخيله، وما لم يأت في أحلامي ).
وافق ( علاء ) الآخر، وبالفعل اختفى من حياة
( علاء ) الذي عاد لمسح الكلمات، وانتظار الرسائل التي تحكي له وتصف ما لم يخطر في
باله.
* * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق