عِنْدَمَا تَغْضَبُ الكُتُبْ!!!
من سن ٧ إلى ١٢ سنة
خالد جمعة
الضَّجَّةُ
الكبيرةُ الَّتي حَدَثَتْ في
المَكْتَبَةِ العَامَّةِ والمَكْتَبَاتِ الأُخْرَىْ المُنْتَشِرَةِ في المَدِيْنََةِ
جَعَلَتْ إِبَاءَ تَتَسَاءَلُ عَنْ سَبَبِهَا، فهيَ تَعْرِفُ أنّ المَكْتَبَةَ هي
أكثرُ الأماكِنِ هُدُوءاً في المَدِينةْ، وكانتْ تذهبُ إلى هُناكَ
خِصِّيْصَاً كي تَقْرَأَ في هُدُوءٍ بَعِيْدَاً عن إزعاجِ أَبْوَاقِ
السَّيَّارَاتِ التي تمرُّ من أمامِ بَيْتِهَا. أمّا ما حَدَثَ ذلكَ النَّهارُ فلم يكُنْ
مَعْهُوداً من قَبْلْ، أُناسٌ تدْخُلُ في المكتبةِ وأُخرى تَخْرُجُ مِنها،
مُعَلِّمُونَ وآباءٌ ومجموعةٌ من الأشخاصِ لم تَتَعَوَّدْ إباء رُؤْيَتَهُم يَذهبونَ
إلى المكتبةِ من قَبْلْ.
قَرَّرَتْ
إباء أن تَدْخُلَ إلى المكتبةِ كي تعْرِفَ ما يَجْري هناك، فهي فُضُوليّةٌ بِطَبْعِهَا، تُحِبُّ
مَعْرِفَةَ الأشياءِ التي تَحْدُثْ، ولماذا تَحْدُثْ..
عندما
وَصَلَتْ إباء إلى بابِ المكتبةِ العامَّةِ مَنَعَها الكِبارُ من
الدُّخُولْ، لكنَّ صَوْتاً
قَادماً من دَاخِلِ المكتبةِ قالْ: دَعُوا إباءَ تَدْخُل إذا أَرَدْتُمْ منِّي أن أتحدَّثْ.. ازْدَادَتْ دَهْشَةُ إباءْ، فالصَّوتُ الذي
تَحَدَّثَ لم يَكُنْ يُشْبِهُ صوتَ أَحَدٍ من الذينَ تَعْرِفُهُم. سُمِحَ لها
بالدُّخولِ، ولكن المفاجأةَ التي لم تَكُنْ على بَالِهَا أن الصَّوتَ الذي كانَ
يتحدَّثُ هو صوتُ أَحَدِ الكُتُبِ في المكتبةْ.
وَقَفَتْ
إباءُ لِلَحظَةٍ وهي مُصَابَةٌ بالدَّهْشَةِ، كانت الكُتُبُ كلُّها تتحاورُ بصوتٍ مُنْخًفِضٍ يشبهُ صوتَ
خليَّةِ نَحْلْ، وكان من الوَاضِحِ أن الكتابَ الذي يَجْلِسُ في المُقَدِّمَةِ هو
الذي يتحدَّثُ باسمِ الجميعْ، ومن خِلالِ الكلماتِ البسيطةِ التي
سَمِعَتْهَا إباء هُنا وهُناك من الكتبِ المَصْفُوفَةِ على الرُّفوفْ، فَهِمَتْ
الأمْرَ كلَّهُ.. كانت الكتبُ
تقومُ بإضرابْ.. وهي لا تريدُ لأحدٍ أن يَقْرَأَهَا..
بدا الأمرُ
غريباً على إباء، كما أنَّها لم تعرفْ لماذا تقومُ الكتبُ بالإضرابِ وهي منذُ آلافِ السِّنينْ تسمَحُ
بالقراءةِ لكلِّ مَنْ يُريدْ. قالتْ إباء وهي تنظرُ إلى الكتابِ الذي جَعَلَها تدخلُ
المكتبةْ: ـ ماذا حَدَثَ
يا صديقي الكتابْ؟
تَنَهَّدَ
الكتابُ وَتَقَلَّبَتْ أوراقُهُ كأنَّ شخصاً نَفَخَ عليها وقالْ: ـ لَقَدْ قَرَّرْنَا نحنُ الكُتُبْ أن نقومَ
بإضرابْ، لن نَدَعَ أحداً يقرأَ جُمْلةً واحدةً طالما بَقِيَ الحالُ هكذا..
ـ أيَّ
حالٍ تَقْصِدْ؟ ـ أقصدُ حالَ الأطفالْ.. فما فائِدَةُ أن يقرأَ النَّاسُ
إذا لم يفعلوا شيئاً بقراءَتِهِمْ؟ فأنا أعرفُ من زملائي كتبِ الإحصاءِ
أنَّ كثيراً من الأولادِ لا يقومُ أهْلُهُمْ بتعليمِهِمْ وخصوصاً
البناتْ، كما أنني لا أقصدُ التعليمَ الذي يقومون فيهِ بِحَشْوِ عقولِ
الأولادِ بالمعلوماتْ.. بل التعليمَ الذي يدعو للتفكيرِ وفهمِ الحياةْ. ـ ولماذا أنتمْ مُهْتَمُّونَ بهذا الأمرْ؟
ـ ما فائدتي
أنا إذا كنتُ أحملُ كلاماً لا ينفعُ الأطفالَ الذينَ كُتِبَ من أَجْلِهِمْ..؟ ثُمَّ إن بقيَّةَ الكتبِ قد تَضَامَنَتْ معي
لأنّها تُحِبُّ الأطفالْ، ولأن أهلَهُمْ لا يشترونَ لهم كتباً للقراءة، ولو كان الأهلُ
لا يملكونَ المالَ لشراءِ الكتبْ، فلماذا لا يسمحونَ للأولادِ بالقراءةِ في
المكتباتِِِ العامَّةِ المَجَّانِيّةْ؟
ثم يَجِبْ
على الناسِ أن تعْرِفَ أنَّ الكُتُبَ تموتُ إذا لم يقرأَهَا أحدْ، لأنها تحسُّ أنّها بلا فائدةْ، أمسْ
فقطْ تُوُفِّيَ كتابان من كُتُبِ التاريخِ لأنَّ أحداً لم يقرأهما منذُ عشرِ سنواتْ،
فالعملُ الوحيدُ الذي خُلِقَتْ له الكتبُ هو أن يقرأها الناسُ، وهي لا يُمكنْْ
أن تفعلَ شيئاً آخر. لأن المعلوماتِ إذا مرَّ عليها زمنٌ طويلٌ دونَ أن
تُقرأَ يصيبُها مرضٌ يشبهُ الشَّلَلَ الذي يصيبُ الناسَ، فما فائدتها
إذا لم تُقرأ؟ لذلك اتَّفَقْنا مع الكتبِ في المكتباتِ الأخرى على
الإضرابْ، فلن تَجِدِيْ كتاباً واحداً يمكن قراءتُهُ حتى يقومَ الناسُ
بالسّمَاحِ لأطفالِهِمْ بالقراءةْ. ـ وما ذنبُ الأطفالِ الذين يقرأونَكُم؟
ـ نَحْنُ
نَعْرِفُ كيفَ نَتَصَرَّفْ، وسَأَقُوْلُ لكِ سِرَّاً صغيراً، إن إضرابَنَا لن يَسْتَمِرَّ إلى وقتٍ طويلْ،
فهو فَقَطْ كي نَجْعَلَ الناسَ يُفَكِّرونَ في مُسْتَقْبَلِ أولادِهِمْ؛ وسوفَ
نعودُ كما كُنَّا ولكن بعد أن يُحِسَّ الناسُ ما الذي تستطيعُ الكُتُبُ أن
تَفْعَلَهْ. ـ لكِنَّكَ
نَسِيْتَ شيئاً مُهِمَّاً يا صَدِيْقي الكتابْ، إنَّ التَّعْليمَ ليس فَقَطْ في المَدْرسةْ. تَنَهَّدَ الكَتَابُ بَأَلَمٍ وقالْ:
ـ أنا لا
أستطيعُ أن أُعَدِّلَ الدُّنيا كلَّها وَحْدِي يا إباءْ، وحتّى
لو اجْتَمَعَتْ معي كلُّ
الكُتُبِ في العالَمْ، فكلُّ واحدٍ من المَفْرُوضِ أن يَجِدَ وَسِيْلَةً
لتَصْحِيْحِ الوَضْعِ الخاطئِ في مَكَانِِهِ، أما أنا، فأكثرُ ما أستطيعُ فَعْلَهُ هو أن
أمنعَ النَّاسَ من قِراءَتي أنا وأَصْدِقَائي.
وَدَّعَتْ
إِبَاءُ الكِتَابَ وخَرَجَتْ من المَكْتَبَةِ، فَانْدَفَعَ النَّاسُ نَحْوَهَا لِيَسْأَلُوْها عن
الحُوارِ الذي دَارَ بينَها وبينَ الكتابْ، ولكنّها لم تُجِبْ على أيِّ سُؤالْ، فَقَدْ
قَرَّرَتْ أن تَكْتُبَ حِوَارَها معَ الكِتَابِ في قِصَّةٍ لِتَنْشُرَهَا في
الصُّحُفْ، أو على الأقَلّْ في مَجَلَّةِ الحَائِطِ في المَدْرَسَةْ،
فَرُبَّمَا الطَّريقةُ التي يُفَكِّرُ بها الكتابُ تُصْبِحُ الطَّرِيْقَةَ التي
يُفَكِّرُ بها النَّاسُ في وَقْتٍ قَرِيْبْ... رُبَّمَا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق