كُن جميلاً يا صديقي....!
د .صفاء رفعت
عندما .... داعبت الريح وجه النهر
الجميل
بدأت موجاته تتراقص
و بللت ريش عصفور
صغير كان يغني
و قد توقف ليشرب متمسكا بحافة فرع صفصافة متدلٍ نحو النهر,
تفاجأ العصفور الصغير برشة الماء الباردة فانتفض مبتعداً عن النهر, و بدا حزيناً و هو يحاول
تمشيط جناحيه
بطرف منقاره الأحمر المدبب في ظل الشجرة,
و عندما لاحظت أزهار الشمس أنه قد توقف عن الغناء
قالت له : كيف تبدو حزينا
و أشعة الشمس الذهبية الرائعة تمتد بحنان
لتحيط بكل شيء و تمنح من دفئها للجميع ,
تأمل معي كم هي جميلة و هي تضيء المرج فتزيد اخضراره بهاءاً
و تتلألأ
على مويجات النهر المرتحلة في طريقها الطويل إلى البحر العميق البعيد .
و هنا توقف العصفور الصغير
و تطلع
بعينيه لأزهار الشمس الزاهية الألوان
وقال لها : نعم نعم , لقد رأيت البحر منذ
أيام عندما حلقت عالياً خلف الوادي
عند نهاية مجرى النهر,
إنه يشبه السماء
التي تتمدد في زرقة متناهية.
فتبسمت الأزهار و تعجبت من جديد
و سألته: كيف تبدو حزينا و لديك
جناحان
تحلق بهما في زرقة السماء الممتدة خلف البحار؟؟
فأخبرها بأنه قد شعر
بالبرد عندما بلل جناحاه ماء النهر,
فضحكت منه أزهار المرج كله
و طلبت منه أن يتوقف عن الاختباء في
الظل
و أن يمد جناحيه
في وجه الشمس ليمتد إليه دفئها فتجف...
و عندما بدء العصفور
الصغير يشعر بالدفء بدأ يغرد و يغني :
أنا العصفور
الصغير
في سماء الكون أعلو
و أغني و أطير
فأنا أحلى الطيور
فتملك الكل الفرح و الطرب و تراقصت معه الأغصان و الأزهار
و حتى النحلة المجتهدة توقفت عن جمع الرحيق
و بدأت ترقص مع الفراشات البيضاء
و الأرجوانية و الزرقاء
التي تناثرت على أوراق الأزهار المشرعة في وجه الشمس
و اخذ العصفور الصغير يصفق بجناحيه
سعيدا لهذه البهجة
التي استولت على الجميع . لكنه.... بدا حزينا من جديد
عندما وجد أن الجميع بدأوا يراقبون الفراشات الراقصة
بسعادة و إعجاب
و عندما سمع النحلة المجتهدة و هي تمتدح الفراشات الجميلة
و تخبرها بأنها أرشق الكائنات على الإطلاق ,
و زاد من ضيقه أن أحداً
لم يشعر بغيابه عندما توقف عن الرقص و عن الغناء
و انزوى على غصن بعيد وحيداً
شارداً...
و أخذ يفكر ملياً ...
و قرر فجأة أن يريهم جميعاً أنه أكثر
رشاقة من الفراشات الراقصة ,
فأخذ يطير متنقلا بين الأغصان و بدأ يحلق عالياً
في السماء
و يدور حول نفسه محاولا تقليد الفراشات الصغيرة في رقصاتها ,
لكنه بدا غريبا و يبالغ في حركاته المندفعة
حتى.... اصطدم بأحد الأغصان و ترنح
ساقطاً على الأعشاب الخضراء
و قد أصابه الدوار... و ضحكت منه الأزهار و الفراشات
و الأغصان
و النحلة المجتهدة و السيد دبدوب ....
شعر العصفور الصغير بالخجل الشديد
و بدأ يحس بأنه غبي و
قبيح و نزق...
و كان على وشك البكاء حين سمع صوت النملة الذكية تتحدث إليه
و قد توقفت عن جمع الحبوب عندما وجدته قد سقط بين الأعشاب,
قالت له صديقته
النملة الذكية :
لماذا تصرفت بهذا الشكل الغريب أيها العصفور الجميل؟
فقال لها : لست عصفورا جميلاً ولا
مميزاً أبداً
فالفراشات الملونة أكثر رشاقة مني
فهي تستطيع أن ترقص و تحلق
ببراعة في السماء
دون أن تصطدم مثلي بالأغصان و تسقط كدب بدين,,
وهنا قالت
له النملة: أخفض صوتك كي لا يغضب منك السيد دبدوب الطيب,,
ثم من قال بأنك لست
عصفورا جميلاً؟
دعك من رشاقة الفراشات ,
أليس لك هذا الصوت العذب الجميل الذي
علّم كل من في المرج الرقص و الغناء معك
و أدخل البهجة علينا جميعا
حتى أنني كدت أتوقف عن العمل لأستمع لك و أنت تغني بسعادة,
دعك من هذا و لتعد
لتحلق في السماء مغرداً للجميع لتزيد من بهجة هذا الصباح الجميل ,
و لتحاول
أن تقوم بعمل مفيد بينما تغني بصوتك العذب
فما أجمل العمل مع الغناء و ما
أسوأ أن يضيع منا يومٌ دون عمل مفيد..
و بالفعل , ابتهج العصفور الصغير بكلام النملة الذكية
فقد أكتشف
أنه يستطيع وحده أن يغرد بهذا الصوت العذب
بينما لا تفعل ذلك الفراشات الرشيقة
أو النحلة المجتهدة
و لا حتى الأزهار الملونة..
فأخذ يغني مبتهجا من جديد :
أنا العصفور الصغير
و أنا وحدي أغني,
و أغرد و أطير,
فأنا أحلى
الطيور..
و أخذ العصفور يجمع بعض عيدان القش
الذهبية ليغزل منها عشه
كما نصحته النملة الذكية
بأن لا يجعل يومه يضيع في اللعب و الرقص فقط ..
و بعد قليل.. عندما آذنت شمس النهار بالغروب,
سمع الجميع صوتاً
جميلا صادحا كأنما جاء من أرض الأحلام ,
حتى أن صديقنا العصفور كفَّ عن التغريد
لينصت له ,
لقد ذلك هو صوت الكروان الحالم و كان صوتا جميلا بالفعل ...
حتى إن السيد دبدوب الذي لا يتحدث كثيراً في العادة
توقف عن لعق العسل العالق
بأصابعه ليحيي طائر الكروان الطيب القلب
و قال بأن له لحناً ندياً حالماً و
أنه أجمل أصوات الطيور على الإطلاق...
و عندما حاول عصفورنا الصغير أن يصدح مادا صوته ليقلد لحن الكروان
نظر له السيد دبدوب بغضب و استياء
ليكف عن إصدار هذا الصوت الذي لم يكن
متناغما بأي حال.
و هنا أدرك العصفور أنه لم يعد مميزاً من
جديد ,,
فهناك من يملك صوتاً أعذب من صوته ,,,
و توقف عن جمع أعواد القش الذهبية و انزوى
شارد الذهن في ظل شجرة الصفصاف.
و عندما لاحظت النملة الذكية عبوسه و شروده
قالت له :
لماذا تبدو عابساً حزينا يا صديقي ؟
فهز رأسه بأن لا شيء...
ثم سألها بعد قليل: هل سمعت صوت الكروان ؟
و هنا فهمت النملة الذكية ما حدث فقالت
له : نعم ,
يا لجمال صوته الحزين الحالم ,
إنه يشعرك عندما يصدح في سكون
الليل منفردا وحيدا
بأنه آتٍ من عالم ملائكي السمات و أنه يخبيء وراءه حكايات لا
تحكى ...
. انه شاعر الطيور و طائر ليل العابدين و العشاق .. هل أحببت صوته؟؟
فهز رأسه مجيبا بنعم,,
و بقي حزينا لبرهة ,
بينما وقفت النملة تراقبه
في هدوء و حكمة,
ثم قطع الصمت قائلا لها :
لكنك قلت لي أنني عصفور مميز
لأن باستطاعتي أن أغرد مغنيا بصوت عذب ,,
و ها هو الكروان الحالم يتغنى بلحنٍ
أجمل من كل صوت آخر ,
لقد سمعت السيد دبدوب يقول إن صوته هو أجمل الأصوات على
الإطلاق,
وأراد مني أن أصمت حتى يتسنى له الاستمتاع بلحنه ..
فقالت له
النملة: نعم يا صديقي ,
إن صوت الكروان هو أجمل أصوات الطيور لكنه يصدح بالليل ,
و أنت تغرّد بالنهار,,
و أنت لديك ما يميزك كذلك حتى إن كان صوت الكروان
أجمل من صوتك ,
فمثلا لديك هذا الريش الملوّن البديع
و الذي يملأ العيون
بالبهجة عندما يتلألأ تحت أشعة الشمس أو ضوء القمر,
و بإمكانك أن تكون أجمل
و أكثر تميزاً بقلبك الجميل الطيب
حتى إن لم يكن لديك هذا الريش الملون الجميل..
و يبدو أن صديقنا قد أعجبه كلام
النملة
و بدا و كأنما اكتشف شيئاً جديدا لم يكن يعرفه,,
فبدأ يفرد جناحيه
تحت ضوء القمر الفضي ليتأمل كم هما جميلين فعلاً
و نام في عشه الصغير الدافئ
و هو ينتظر بفارغ الصبر
أن يرى ألوان جناحيه في شمس الصباح..
و في الصباح الجميل,,
كان العصفور سعيدا باكتشافه الجديد , و كان يتنقل بين الأغصان و
بدأ يساعد الطيور الأخرى في جمع الطعام لإطعام الصغار الذين لم يتعلموا الطيران
بعد, و يحمل الماء في منقاره ليسقي صاحباته الأزهار و بدأ يدل النملة الذكية
على مكان الحبوب التي رآها و هو يطير فوق المرج...كان سعيدا بكل شيء و بدأ يغني من
جديد:
أنا العصفور الجميل
بجناحاي أحلق,,
في سماء الكون وحدي,,
و أغني و أغرد,,
و أحب كل صحبي,,
فأنا أحلى
الطيور...
و بعد قليل ... حط الهدهد الحكيم
على غصنٍ بعيد ,,
فتوجهت إليه كل الأنظار و بدأوا
في الإحتفاء به
و أبدوا سعادتهم بمروره على مرجهم الصغير...
و أخذت الطيور
تستشيره و تسترشد بحكمة رأيه في عدة أمور
و كان الهدهد يجيب عليهم جميعا في
تواضع و ثقة
و قد بدا ملكاً متوجاً بتاج الحكمة,,
و أخذ صديقنا ينظر إليه ملياً...
و ظل صامتاً لوقت طويل,,
فقد شعر مرة أخرى بأن هناك من هو أهم و أكثر تميزا منه..
و بعد أن انتصف
النهار خرج العصفور إلى المرج من جديد
و قد انتزع بضع ريشات من ذيله و علقها
فوق رأسه
و وقف فوق غصن مرتفع مزهواً بنفسه ,
و أجاب من سأله عن ذلك بأنه
" تاج الحكمة"
فتعجب الجميع منه ضاحكين و تركوه وحده على غصنه,
و هبت نسمة
عابرة فأسقطت ريشات تاج الحكمة عن رأسه
فأخذ يلاحقها و هي تطير بعيدا بعيدً
ثم تهوي على الأعشاب الخضراء في ظل الشجرة,,
و هنا وجد صديقته النملة الذكية ,
فسألته لماذا انتزع هذه الريشات
من ذيله ليعلقها فوق رأسه ؟؟
فقال لها : لقد سقط تاج الريش من على رأسي,,
ألم تري السيد هدهد؟
أجابت : هل تقصد الهدهد الحكيم؟
فقال لها و هو يبكي :
ألم تخبريني بأنني عصفور مميز لأن لي ريش بديع ليس لأحد غيري ؟ ,
لكني اكتشفت أنني لست مميزا أبدا
فالهدهد الحكيم له ريش أكثر بهاءاً و وجاهة
من ريشي
حتى أن له تاج فوق رأسه لا تسقطه الريح ,
و قد التفت حوله كل أسراب
الطيور لتشيد به و تستشيره....
أما أنا فعصفور تعس بلا قيمة و لا أهم أحداً.
فقالت له النملة: الهدهد الحكيم هو
وحده من يحمل هذا التاج فوق رأسه ,
و كل الطيور تحبه و تسترشد برأيه لأنه أكثر
الحيوانات حكمة على الإطلاق
و ليس لأن له تاجا فوق رأسه ,
في الحقيقة لقد
منحه الله هذا التاج مكافئة له على جمال حكمته و رجاحة رأيه
و هو يستحقه فعلا ..
ألا تعتقد ذلك أنت أيضاً.
فأجابها: بلى.
قالت النملة الذكية : و لكنك
أيضا جميل ورائع و مميز و لا مثيل لك يا صديقي.
و هنا نظر لها العصفور
الباكي متعجباً..
فأكملت النملة الذكية : نعم ,, لا يوجد أحد مثلك على
الإطلاق ,
فأنت وحدك صديقي العصفور الصغير,,
لست بحاجة لأن تكون أكثر رشاقة
من الفراشات الراقصة,
أو أعذب صوتاً من الكروان الحالم ,
و لا أن يكون
لك تاج من الريش الجميل كالهدهد الحكيم
لكي تكون جميلا و متميزا و منفردا....
حاول أن تكون كما خلقك الله تعالى
و كما أراد لك أن تكون عصفورا نشيطا
جميل اللون عذب الصوت
له قلب طيب يحب الجميع و يساعدهم ,
أن تحب الجميع
و أن تكون سعيدا بتميزهم و مستمتعا بالجمال الذي منحه الله لهم جميعا ,
و تأكد
بأنه لا يمكن لأي منهم أن يحل مكانك ,,
فأنت وحدك صديقي.... العصفور المغرد
الصغير...
فقط ابحث في أعماقك عنك , و كن أنت.
يبدو أن كلام النملة الذكية
كان كافيا لجعل صديقنا العصفور يتوقف
عن نزقه و يتخلى عن كآبته ,
و بسط لها جناحيه و قال لها في سعادة و هو يتقمص
دور أمير أسطوري :
دعيني أحملك في جولة قصيرة حول المرج أيتها الأميرة ....
و بدأ يحلق سعيداً مغرداً
و هو
يغني :
كن جميلا يا صديقي,
و تمتع بالجمال,
فجمال الله يعلو,
سامياً فوق الخيال,
كن حنونا يا صديقي,
و اكتسب خير الخصال,
بنقاء القلب تبقى,
رائعاً في كل حال,
كن صدوقاً يا صديقي,
هاديا درب الجلال,
بإتباع الخير تغدو,
عاليا فوق الجبال...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق