ليلة القدر
من كتاب ” حياة محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين قصه ”
عبد التواب يوسف
غربت الشمس عن الدنيا ، وحل الظلام ، وتناثرت النجوم في السماء ، ولم يظهر القمر ؛لأني ليلة من الليالي الأخيرة لشهر رمضان المبارك.
واستقبلني الناس في مكة مثل أي ليلة ،
فسهر البعض يسمُرُ ويلهو ، ونام البعض إلى أن يطلُعَ النهار.
والحقيقة أن الدنيا منذ خلقت كانت تنتظرني ..
لأني ليلة لي قدْري ولي ذِكْري ولي أثَري ! ؛
ولأني ليلة كلها نور ..
وهو ليس نوراً من الشمس ولا من القمر ولا من الكهرباء .. وإنما هو ( نور الله ) ..
أضاء الأرض وأضاء السماء.
وبفضل هذا النور، وبسبب ما حدث بعده ..
أصبحت خيراً من ألف شهر ..
أي خيراً من أكثر من ثلاثٍ وثمانين سنة !
أنا ليلة القدر ..
جئتُ في شهر رمضان .. سنة 610 ميلادية ،
أي قبل أن يبدأ التاريخ العربي الهجري بنحو ثلاثة عشر عاماً ؛
وكان خارج مكة غارٌ يسمى غار حِراء ..
كان محمد بن عبد الله يذهب إليه كثيراً ،
ويقيم فيه طويلاً ،
يناجي ربه ويصلي له ويعبده وحده ..
بينما كان أهل قريش يعبدون الأصنام.
وعندما جئتُ ..
كان محمدٌ – صلى الله عليه وسلم –
قد بلغ الأربعين من عمره ،
وكان في الغار يتعبد ويتهجد ، ويدعو ربه ويناجيه ويناديه
ويقول له ما معناه :
" يارب هذا الكون ، يا خالق هذه السماوات ،
يا خالق الشمس والقمر والنجوم ، يا خالق هذه الأرض وهذه الجبال ،
ياربي وخالقي ، وخالق الكائنات .. أريد وجهك .. أريد وجهك ! "
وبينما هو يردد الدعاء ، ويكرر هذا النداء ؛
تمتلئُ الدنيا بالنور .. نورٍ في الأرض ونورٍ في السماء ،
وينزل مَلَكٌ من السماء بأعظم كلمات سمعتها الدنيا ،
ويقول هذا المَلَك ..
الذي هو جبريل – عليه السلام –
يقول لمحمدٍ :
- اقرأ -
فيرد عليه الصلاة والسلام :
ــ ما أنا بقارئ.
فلم يكن الرسول يعرف القراءة والكتابة.
فيتقدم منه جبريل ،
ويضمه إلى صدره ثلاث مرات ، وفي كل مرة يقول له :
ــ اقرأ ــ
ويرد محمد في كل مرة :
ــ ما أنا بقارئ.
ثم أخذ جبريل يتلو على محمدٍ ، ومحمدٌ يردد من بعده :
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ* }
[ الآيات (1-5) .. سورة العلق ]
وانصرف جبريل ، وشعر محمد بالخوف ،
وأسرع إلى بيته ، ودخل إلى زوجته خديجة ، وكان يرتعشُ وعلى جبينه حباتُ عَرَقٍ ؛
فأسرعت به إلى الفراش ووضعت فوقه الغطاء.
وعندما بدأ محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – يدفأ ويهدأ ..
حكى لزوجته ما حدث ، وذكر لها كيف غمره النور رغم الظلام في غار حِراء ،
وروى لها كيف جاء جبريل وطلب منه أن يقرأ ،
وبماذا ردَّ عليه في الأول ،
ثم كيف ردد وراءه ما كان يتلوه عليه ..
وتلاه مرة أخرى عليها.
فحاولت السيدة خديجة أن تطمئن الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ فقالت له :
ــ إن الله معك ، فأنت إنسانٌ طيبٌ كريم ،
تحب أهلك ولا تكذبُ على أحد ، وتساعد كل الناس ، وتعطي الحق لصاحبه ..
إنك كريمُ الأخلاق صادقٌ أمين.
ورغبت السيدة خديجة في أن تطمئنَّ أكثر ..
فصحبت الرسول إلى ابن عمها
( ورقة بن نوفل )
وكان شيخاً عاقلاً وحكيماً ، قرأ كتباً كثيرة وصَاحَبَ أهل الإنجيل والتوراة ،
وعرف كثيراً من أمور الدين ؛
ولذلك كرِهَ الأصنام ولم يعد يعبدها.
سمع ( ورقة بن نوفل ) من سيدنا محمد ما حدث في غار حراء ؛
فقام من مكانه واحتضن سيدنا محمداً وهو يقول له :
ــ إن الذي نزل عليك هو وحيُ السماء ؛
فأنت نبيٌّ .. نبي أمة العرب ، بل نبي الدنيا كلها ..
إنك مثل ( موسى وعيسى ) عليهما السلام ..
اختاركَ اللهُ وأرسلكَ لتهدِيَ الناس إلى الخيرِ والحب والرحمة ..
والناسُ لن يصدقوك في أول الأمر ، وسوف يخرجونكَ من بلدك
؛ ولكنك في النهاية سوف تنتصر عليهم بعد أن تقاتلهم
وتحاربهم .. وكم أتمنى أن يطول بي العمر ، فأعيشَ حتى أدافع عنكَ وعن رسالتك.
هدأ سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – تماماً ،
وارتاحَ إلى كلام ( ورقة بن نوفل )
وتمنى أن تأتي ليالٍ كثيرة مثلي
- أنا ليلة القدر - ..
كي يسمعُ فيها صوتَ الوحي ينزلُ عليه ، وكان يخرج إلى الجبال وإلى الغار ، وينتظر الوحي في شوقٍ كبير.
وتحقق له ما تمنى .. فذات ليلةٍ .. شعر بنفسه يرتعدُ ويرتجفُ .. فنادى زوجته خديجة لكي تضع فوقه الغطاء .. قائلاً :
ــ دثريني .. دثريني ( أي ضعي الغطاء عليَّ ) !
فغطته السيدة خديجة في فِراشِهِ .. وإذا به يسمع صوت جبريل عليه السلام يقرأ عليه بصوتٍ لا يسمعه أحدٌ غيرهُ :
{ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ* }
[ الآيات (1-7) .. سورة المدثر ]
ثم توالىَ بعد ذلك نزول الوحي على النبيِّ – صلى الله عليه وسلم - ،
ونزل القرآن الكريم آياتٍ بعد آيات ..
وسأبقى أفخرُ أنا بأن بداية نزول الوحي ، ونزول القرآن ..
كانت في ليلتي – أنا ليلة القدر - ،
وقد كرمني الله ، وذكرني في القرآن وعظم قدري وشأني ، وجعلني ليلةً مباركةً.
ومن هنا .. ينتظرني المسلمون كل عامٍ في أيامِ رمضان الأخيرة ..
لأنهم يعلمون أن أبواب السماء تُفتَحُ حين أصلُ ، وأن الله يستجيب في ليلتي كل دعاءٍ.
{ حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيم *
أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * }
[ الآيات (1- 6) .. سورة الدخان ]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق