القط الأبيض
خيري عبدالعزيز
هاجمت فئران الحقل الجائعة بيت الفلاح
الممتلئ بالقمح والأرز والشعير؛ فأحضر الرجل
من عند أحد أصدقاءه قطا صغيرا أبيض اللون.. ورغم صغر سنه إلا أنه كان نشيطا سريع
الحركة وماهرا في اصطياد الفئران.. ولم يمر وقت طويل حتى أسقط منها الكثير, وأثار
الفزع والرعب بينهم..
وذات مساء, وفي وقت متأخر من الليل, وبعدما
خلد جميع سكان المنزل إلي النوم - وخاصة القط الأبيض - خرجت الفئران من مخابئها,
واجتمعت في حجرة الخزين الممتلئة بالغلال بجوار أجولة القمح, ووقف أكبر الفئران سنا, وأكثرهم حكمة علي أحد أجولة القمح مخاطبا
جموع الفئران الغفيرة التي التفت من حوله:
"أيها الفئران لم يعد لنا عيش في هذا
البيت, يجب أن نعود إلي الحقول التي أتينا منها حالا, قبل أن يقضي القط الأبيض
علينا واحدا تلو الأخر.."
ارتفعت أصوات الفئران بين مؤيد ومعارض, وفي
النهاية رضخ المعارضون لرأي الأغلبية, وغادروا البيت وهجروا جحورهم ومخابئهم إلى
الحقول والمزارع المجاورة.
وفرح الفلاح فرحا شديدا عندما لاحظ اختفاء
الفئران تماما من المنزل, وأصبح يكافئ القط كل صباح باللبن والجبن والخبز..
وتغيرت حياة القط الأبيض تماما بعدما هربت
الفئران من بطش مخالبه وأنيابه إلي الحقول والمزارع, فصار طوال الوقت إما يلهو مع أولاد الفلاح الذين أضحوا
يدللونه كثيرا, وإما نائما في تكاسل وتراخي في حديقة المنزل تحت ظلال الأشجار بعد
وجبة دسمة من الخبز والجبن واللبن...
ومع الوقت سمن القط, وزاد حجمه بشكل ملفت,
وبدأت أقدامه تؤلمه بسبب ثقل وزنه, وتحول أولاد الفلاح من تدليله وملاعبته, إلي
السخرية من شكله وبدانته, ونسوا ما كان عليه من جمال ورشاقة, وأنه ذات يوم طرد
الفئران من البيت, وأجبرهم علي المغادرة إلي الحقول والمزارع..
وكان القط يتألم في نفسه كثيرا لما آلت إليه
حياته, ولكنه لم يكن يفعل شيئا ليغيرها, بالعكس كان كلما شعر بالحزن زادت رغبته في
الطعام, فيزيد وزنه, وتزيد آلام أقدامه, وتزداد سخرية الصغار منه وتهكمهم عليه ..
ووجد القط نفسه في دائرة مغلقة, وحياة جديدة
مؤلمة غريبة عليه, وشعر بالندم الشديد يوم أن ركن إلي الراحة والكسل, وأكل بنهم
وشراهة علي غير جوع, واكتسب صفات لا تتناسب مع طبيعة القطط الرشيقة, التي تأكل ما
تصطاده بمهارتها في الصيد ورشاقتها وخفة حركتها..
وفي أحد الأيام رآه أحد الفئران - التي كانت
بالمنزل من قبل - يمشي بجوار سور حديقة المنزل بصعوبة بالغة, وتعجب الفأر من
التغير الذي طرأ علي القط؛ وأسرع وأبلغ الفئران بما رأي..
ولم تصدق الفئران نفسها عندما رأته نائما علي
بطنه في حديقة المنزل بجسده الضخم في تكاسل, وعيناه ممتلئتان بالنعاس؛ فعقدوا
العزم علي العودة إلي المنزل الممتلئ بالحبوب والغلال والخير الكثير مرة ثانية,
ورجعوا لجحورهم بالمنزل واحدا بعد الأخر, وشعروا بالسعادة البالغة عندما تأكدوا
بالفعل أن القط لم يعد كسابق عهده؛ فصالوا وجالوا في أنحاء المنزل غير عابئين
بوجود القط من عدمه, وانقضوا علي الحبوب والغلال في شراسة ونهم...
وتعجب الفلاح من الظهور المفاجئ للفئران بهذه
الضراوة البالغة, وتفجر غضبا شديدا في قلبه اتجاه القط؛ لتراخيه في تأدية واجبه,
فعاقبه بمنع اللبن والجبن والخبز عنه...
وقرص الجوع القط للمرة الأولي في حياته, فقد منع
الطعام الشهي عنه, وهو لم يعد يستطع صيد الفئران السريعة الخفيفة الحركة. ووجد
نفسه في مأزق لا يحسد عليه, فحياته تتعرض للخطر إن لم يتصرف بعقل وحكمة..
وأجبر القط نفسه علي الحركة والمشي وتسلق
الأشجار والجري في فناء الحديقة ليسترجع ليونته ورشاقته المشهورة بهما القطط..
في البداية كان يشعر بآلام مبرحه في سائر
جسده, وخاصة أقدامه التي كانت تئن تحت ثقل وزنه, ومع الوقت بدأت حدة الألم تخف
رويدا رويدا, وخاصة مع فقده للكثير من وزنه بسبب شدة المجهود وقلة الطعام, حيث أنه
لم يكن يأكل إلا الفتات المتبقي من طعام أولاد الفلاح...
وبالمثابرة, والمداومة, استعاد القط جسده
الجميل الممشوق, وعادت إليه رشاقته ومهارته في اصطياد الفئران, فصال وجال في أرجاء
البيت يقتنص منها كيفما شاء, مما سبب لها رعبا هائلا؛ ولم تجد مفرا من مغادرة
البيت مرة أخري, وهى تتعجب من إصرار القط وقوة إرادته ..
وكان الفلاح أشد الجميع إعجابا بالقط, لأنه
استطاع أن يبدل نفسه من حال إلى حال, وأراد أن يكافئه باللبن والجبن والخبز, ولكن
القط في نفسه قرر ألا يقع في الفخ مرة ثانية..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق