ذئب الأهوار
رواية للفتيان
طلال حسن
" 1 "
جلس مطر على حافة الهور ، يحدق في الزورق المربوط إلى اليابسة ، والمياه تأرجحه يميناً ويساراً ،
حتى أنه لم ينتبه إلى طائر الرفراف المرقط ، الذي انقض كالسهم ، وغاص إلى الأعماق
، ثم خرج بعد حين، وفي منقاره سمكة تتخبط ، محولة الإفلات من الهلاك ، دون جدوى .
لقد مرت أسابيع ، وهذا
الزورق مربوط هنا ، يتأرجح في المياه الضحلة ، ولا عجب ، فمن يحلّ وثاقه ، ويخرج
به إلى الصيد في أعماق الهور ، وأبوه يقبع في السجن ، منذ أكثر من شهر ؟
وقبل أيام ، أخبرته أمه
بأنها ستزور أباه في السجن ، فتطلع إليها ، وقال : أريد أن آتي معك هذه المرة .
فردت قائلة : سآخذك معي ،
أنت وفاطمة .
واحتج مطر قائلاً : فاطمة
مازالت رضيعة .
فانصرفت عنه ، وقالت : هذه
رغبة أبيك .
وأفاق على أمه تناديه من
داخل الكوخ : مطر .
لكنه لم يرد ، فأقبلت عبر
باب الكوخ الضيق ، وقالت : بنيّ مطر .
وردّ مطر هذه المرة : نعم .
فقالت الأم : اذهب إلى البقال
، واتنا منه بكيلو من السكر، وخمس علب دخان .
ونهض مطر قائلاً : لن أذهب
إلى البقال .
وتساءلت الأم بحدة : ماذا
!
فرد مطر منفعلاً : لم أعد
أحتمل نظرات هذا البقال .
وبشيء من اللين ، قالت
الأم : أبوك في سجنه بحاجة إلى دخان .
وأشاح مطر عنها بوجهه ،
وقال : اذهبي أنت ِ .
ولاذت الأم بالصمت لحظة ،
ثم قالت : إنني لا ألومك ، لكن ما العمل ؟
ومضت قاصدة البقال ، وهي
تقول : ابق عند أختك ، سأذهب أنا ، وأمري إلى الله .
وحين رآها البقال تقف
قبالته ، حدق فيها صامتاً ، فقالت بصوت منكسر : صباح الخير .
وبشيء من التذمر ، ردّ
البقال : ديونكم ازدادت كثيراً ، يا أم مطر .
واقتربت منه ، وقالت :
غداً أزوره في السجن ، ولابد أن آخذ له بعض الدخان .
ولاذ البقال بالصمت لحظة ،
ثم قال : هذه آخر مرة ، كم علبة تريدين ؟
وأشارت بأصابعها الخمسة ،
وقالت في تردد : خمس علب فقط .
ودفع لها البقال خمس علب ،
فتناولتها منه ، وقالت : وكيلو سكر .
ودمدم البقال متذمراً :
اللهم صبرك .
وقدم لها كيس السكر ، وقال
: لا أدري كيف ومتى ستدفعون هذه الديون .
أخذت منه كيس السكر ، دون
أن تنبس بكلمة ، ثم مضت عائدة إلى الكوخ .
" 2 "
هبت أمّ مطر من فراشها ، قبل
شروق الشمس ، وهتفت بمطر ، وهي تتناول الصرة : مطر ، انهض بسرعة ، ستأتي الحافلة بعد قليل .
ونهض مطر ، وقد طار النعاس من عينيه ، فدفعت أمه إليه الصرة ، وقالت :
احملها ، فأنا سأحمل فاطمة.
وحمل مطر الصرة ، دون أن ينبس بكلمة ، وحملت أمه فاطمة ، وهي مازالت نائمة
، وأسرعت إلى الخارج ، عبر باب الكوخ الضيق ، وقالت : هيا ، أسرع ، إنني أسمع صوت
الحافلة .
وأسرع مطر ، فتقدمته أمه قائلة : أغلق الباب ، واتبعني.
وعلى عجل ، أغلق مطر باب الكوخ ، وتبعها مسرعاً ، وهو يحضن الصرة إلى صدره
.
وجاءت الحافلة ، وتوقف في مكانها المعهود ، أمام المضيف، فأسرعت أم مطر ،
وهي تضم فاطمة إلى صدرها ، وجلست على مقعد في الخلف ، وجلس مطر إلى جانبها ،
والصرة بين يديه .
وأغلق صبي السائق الباب بقوة ، ثم صاح : لم يبقَ أحد، لنسر .
وسار ت الحافلة ببطء ، وهي تتمايل يميناً ويساراً ، فوق طريق
وعر غير معبد ، مثيرةً الغبار وراءها . وكلما وصلت قرية ، توقفت قليلاً ، فينزل ركاب
، ويصعد آخرون ، حتى وصلت عند الضحى ، إلى المدينة ، التي يقع فيها السجن .
ونزلت أم مطر من الحافلة ، في
الكراج الغاص بالمسافرين ، حاملة طفلتها فاطمة ، التي استيقظت الآن من النوم ،
وراحت تتطلع حولها مذهولة . وشقت طريقها صامتة ، وسط الزحام صوب السجن ، الذي يقع
في طرف المدينة ، ومطر يسير بحذر لصقها ، وقد احتضن الصرة ، وكأنه يخاف أن ينقض
عليه أحدهم ، ويختطفها منه .
ووصلوا السجن متأخرين ، ودخلوا مباشرة إلى الباحة ، حيث تجمع عشرات السجناء
، يحيط بهم أهاليهم وأقاربهم من الرجال والنساء والأطفال . ولمحهم أبو مطر ، الذي
كان ينتظرهم على أحرّ من الجمر ، فأسرع إليهم ، وقال : تأخرتم .
وردت أم مطر قائلة : ماذا نفعل ؟ حافلة القرية ، أنت تعرفه ، وتعف سيرها
لبطيء .
وأخذ أبو مطر فاطمة ، وراح يدغدغها ويقبلها ضاحكاً، وهو يقول : هذه
الملعونة ، لقد كبرت ، وصارت حلوة .
ويبدو أنّ شعر لحيته قد آذاها ، فأخذت تتلوى باكية ، وتدفع وجهه عنها
بيديها الصغيرتين . وأعادها أبو مطر إلى أمها ، ونظر إلى مطر ملياً ، ثم قال :
أهلاً برجل البيت ، كيف حالك ؟
وردّ مطر باقتضاب : بخير .
والتفت أبو مطر إلى زوجته ، فقالت : كلمه ، يريد أن يخرج بالقارب ، ليصيد
وحده في الهور .
وهزّ أبو مطر رأسه ، وقال : لا يا بنيّ ، لا ، لا ، الهور غدّار ، وأنت ما
زلت صغيراً .
وردّ مطر قائلاً : نحن بحاجة إلى طعام ، ولا أريد أن نستدين أكثر .
ونظر أبو مطر إلى زوجته ، ثم التفت إلى مطر ، وقال : اذهب إلى أبو حيدر ،
إنه بمثابة أخ لي ، وقل له ، إنّ أبي يسلم عليك ، ويريد أن تأخذني معك للصيد .
ولاذ مطر بالصمت ، وقالت له أمه : أبو حيدر يحبك ، مثل حيدر ، ويمكنك أن
تتعلم منه الكثير .
وأطرق مطر رأسه، فأخذت أمه الصرة من بين يديه ، وراحت تفتحها ، وهي تقول :
جئتك ببعض الطعام ، وخمس علب دخان .
ورفعت عينيها إليه ، وكأنها تعتذر ، وأضافت : البقال لم يعطنا أكثر .
وأخذ أبو مطر الطعام وعلب الدخان صامتاً ، فقالت أم مطر : لابد أن نذهب
الآن ، فطريق العودة طويل ، وأخشى أن تفوتنا الحافلة .
ثم نظرت إليه متسائلة : أبو مطر ، ألا تريد شيئاً ؟
قردّ أبو مطر : سلامتكم .
" 3 "
افتقدت أم مطر ابنها ، بعد
العصر ، فأخذت فاطمة بين ذراعيها ، وخرجت من الكوخ . ولمحته يجلس في مكانه المعهود
، قرب حافة الهور ، يحدق في الزورق ، الذي كانت المياه تأرجحه يميناً ويساراً ،
وكلبه " الذب " يجلس
منتظراً عن بعد .
واقتربت منه ، وقالت : مطر ، يبدو أنك لم تذهب إلى أبي حيدر .
وردّ مطر ، دون أن يلتفت إليها : الأفضل أن أذهب للصيد وحدي ، إنني لم أعد صغيراً .
وقالت أمه : لا تكن عنيداً ، افعل ما قاله لك أبوك .
ولاذ مطر بالصمت ، فأضافت أمه قائلة : هيا يا بنيّ ، انهض ، واذهب إلى أبي
حيدر .
ونهض مطر على مضض ، ومضى مبتعداً ، دون أن ينبس بكلمة، فهتفت به أمه : لا
تتأخر ، سنتعشى بعد قليل .
وحثّ مطر خطاه ، فأسرع " الذئب " في أثره ، محاذراً الاقتراب منه
، فتوقف متأففاً ، والتفت إليه ، ونهره قائلاً: لا تتبعني ، عد إلى الكوخ .
وتوقف " الذئب " ، فصاح به مطر : لست بحاجة إليك ، هيا ، عد .
وأرخى " الذئب " ذيله وأذنيه ، ثم عاد ببطء ، وهو يتلفت . وما إن
استأنف مطر السير، حتى توقف " الذئب " ، ثم راح يتبعه عن بعد .
لاح كوخ أبي حيدر ، القريب من شاطىء الهور ، وأبطأ مطر في سيره ، وبدا
وكأنه يهمّ بالعودة من حيث أتى . ولمح الزورق مربوطاً إلى اليابسة ، قبالة الكوخ ،
فاقترب من الباب ، وهتف : حيدر .
توقف " الذئب " عن بعد مترقباً ، فهتف مطر ثانية : حيدر ، حيدر .
وبدل حيدر ، جاءه صوت أبي حيدر : مطر ، تعال يا بنيّ، تعال .
دخل مطر الكوخ ، وتوقف متردداً عند الباب ، حين رأى أم حيدر ، تقف إلى جانب
أبي حيدر ، الذي كان يرقد في فرشه ، وقد لفّ رأسه بكوفيته الخلقة .
ونظرت إليه أم حيدر ، وقالت : أدخل ، يا بنيّ ، أدخل .
وتقدم مطر بضع خطوات ، فتساءلت أم حيدر : كيف حال أمك ؟
وردّ مطر باقتضاب : بخير .
واعتدل أبو حيدر ، وهو يسعل بشدة ، ثم قال بصوت وأهن مبحوح : علمت أنك ذهبت
اليوم مع أمك إلى السجن ، وزرت أباك .
وردّ مطر : نعم ، زرته .
وتطلع أبو حيدر إليه بعينين ذابلتين ، وتساءل قائلاً : وكيف حاله الآن ؟
ونظر مطر إليه ، وقال : أبي بخير ، وقد أرسلني إليك .
وصمت مطر ، فقال أبو حيدر : خيراً يا مطر ، تكلم ، أبوك أكثر من صديق ، إنه
أخي .
وردّ مطر قائلاً : يريد أبي أن تأخذني معك للصيد في الهور .
وهمّ أبو حيدر أن يتكلم ، لكن نوبة من السعال حالت دون ذلك ، فردت أم حيدر
: إنه مريض كما ترى ، وقد لا يخرج للصيد فترة طويلة .
ولاذ مطر بالصمت ، ثم استدار ، ومضى نحو الباب ، لكنه توقف حين سمع أبا
حيدر يقول له من بين سعاله : مطر .. اطمئن .. سآخذك معي .. حالما أشفى .
" 4 "
خرجت أم مطر من الكوخ قلقة ،
فالشمس تكاد تميل للغروب ، وراء جدران القصب ، التي تقف شامخة على امتداد مياه
الهور ، ومطر لم يعد بعد من عند أبي حيدر .
وتلفتت حولها ، لقد أعدت طعام العشاء ، وانتظرت عودته ، لكن الطعام برد ،
ولم يعد ، وسخنت الطعام ثانية ، فمطر مثل أبيه ، لا يحب الطعام بارداً .
وسمعت جاموستهم العجفاء ، تصيح من وراء الكوخ ، فمضت إليها ، وراحت تطعمها
لعلها تسمن قليلاً ، وتدر ما يكفيهم من الحليب .
وعادت إلى مقدمة الكوخ ، وتطلعت متلهفة إلى البعيد ، ثم تنهدت متضايقة ، لا
أثر لمطر ، وهزت رأسها ، ترى لماذا تأخر هذا اللعين ؟
ودخلت الكوخ ، وسخنت الطعام للمرة الثالثة ، إنّ مطر يتضور من الجوع الآن ، فهو لم يأكل على الغداء شيئاً يذكر ،
ولابد أن يأكل حتى يشبع ، قبل أن يأوي إلى فراشه .
وتطلعت عبر باب الكوخ ، لقد غربت
الشمس ، ولا أثر لمطر . وأطرقت مغالبة إحساسها بالقلق ، لعل أبا حيدر استبقاه على
العشاء ، و .. واستيقظت فاطمة ، وراحت تتقلب باكية ، فأخذتها أمها بين ذراعيها ،
وألقمتها ثديها، وراحت فاطمة ترضع ، وهي تغالب النعاس ، دون جدوى .
وتناهى إليها وقع خطى ، وخفق قلبها ، إنه هو ، فهذه هي خطواته ، وانتظرت أن
يلوح عبر الباب ، ويدخل الكوخ ، لكن وقع الخطى ابتعد ، ثم تلاشى ، دون أن يظهر أي
أثر لمطر .
وأسرعت إلى الخارج ، وفاطمة ما زالت ترضع ، وإذا مطر يجلس في مكانه المعهود
، قبالة الزورق ، الذي كانت المياه تأرجحه يميناً ويساراً ، بينما أقعى "
الذئب " على مبعدة منه ، وقد لزم الصمت .
واقتربت منه ، وهتفت : مطر .
وردّ مطر قائلاً : نعم .
وقالت أمه : يبدو أنك لم ترَ أبا حيدر .
وقال مطر : كلا ، لقد رأيته .
وتساءلت أمه حائرة : ما الأمر ؟
وردّ مطر : إنه مريض ، ولن يخرج للصيد ، فترة طويلة .
ولاذت أمه بالصمت ، ثم قالت : حسن ، الطعام جاهز ، تعال نأكل معاً.
وردّ مطر ، دون أن يلتفت إليها : كلي أنت ، إنني لا أشتهي شيئاً .
وتجاهلت أمه ما قاله ، واتجهت نحو الكوخ ، وهي تقول : لن آكل حتى تدخل ،
إنني أنتظرك ، لا تتأخر .
ودخلت أم مطر الكوخ ، ووضعت فاطمة
برفق تحت الفراش ، وتمددت إلى جانبها ،
وحاولت جهدها أن تبقى مستيقظة ، حتى يدخل مطر ، عسى أن يأكلا معاً ، لكنها استغرقت
في النوم ، بعد سويعات قليلة ، تاركة الطعام يبرد مرة أخرى .
" 5 "
فتحت أم مطر عينيها الناعستين
، والظلام ما زال مخيماً ، داخل الكوخ . لقد استيقظت هذه المرة ، لا على فاطمة
وبكائها ، بل على " الذئب " ، الذي كان ينبح في الخارج ، نباحاً متواصلاً
مجنوناً . واعتدلت في فراشها ، ماذا دهاه ، هذا الذئب الملعون ؟ إنه حقاً ، كما
يقول أبو مطر ، من نسل قائد الذئاب .
وبصوت هامس ، هتفت عبر الظلام : مطر .
وأنصتت ملياً ، لكنها لم تسمع رداً ، رغم أنها تعرف أنّ نوم مطر كنوم أبيه
ليس ثقيلاً . ولكي لا توقظ فاطمة ، زحفت في الظلام نحو فراشه ، وهمست ثانية : مطر
.
وثانية لم تسمع رداً ، يا للعجب ، ما الأمر ؟ ومدت يدها لتهزه برفق ، وهي
تهمس : مطر ، مطر .
وكادت تشهق ، عندما عرفت أنّ مطر ليس في فراشه . وهبت من مكانها ، ومضت إلى
الخارج ، وفاطمة تغط في نومها ، تحت دفء الفراش . وأسرعت إلى ضفة النهر ، حيث زورق
أبي مطر ، وخفق قلبها هلعاً ، حين رأت الحبل يتأرجح في الماء ، ولا أثر للزورق .
ورفعت رأسها ، وراحت عيناها تركضان رغم العتمة في أعماق الهور . هذا
المجنون مطر .. فعلها ، فأخذ الزورق ، وتوغل في الهور وحده ليصطاد .
وعلى الفور ، مضت تركض مسرعة ، نحو كوخ أبي حيدر ، تاركة فاطمة تصرخ باكية
تحت الفراش . وقبل أن تصل باب الكوخ ، راحت تصيح بأعلى صوتها : أبا حيدر .. أبا
حيدر .
ورغم مرضه ، هبّ أبو حيدر ، وهبت معه زوجته ، وأسرعا مضطربين إلى خارج
الكوخ . وصاحت أم مطر مولولة : الحقاني ، ابني مطر .
وشهقت أم حيدر ، وهي تلطم صدرها : مطر !
ولف أبو حيدر كوفيته الخلقة حول رأسه ، وتساءل بصوت واهن : ما الأمر ، يا
أم مطر ؟ ما الأمر ؟
ومن بين شهقاتها ، ردت قائلة : مطر أخذ الزورق ، لا أدري متى ، وتوغل في
الهور وحده ، ليصطاد .
وتنفست أم حيدر الصعداء ، وقالت : يا أم مطر ، أخفتنا اخفتنا كثيراً ، هذا
أمر هين ، ومطر لم يعد طفلاً .
وعدل أبو حيدر كوفيته ، وقال وهو يسعل : لا عليك ، اذهبي إلى كوخك ، وإذا
لم يعد بعد الظهر سأذهب بنفسي، وأعود به .
ولاذت أم مطر بالصمت ، ودموعها تسيل على خديها ، واحتضنتها أم حيدر ، وقالت
: امسحي دموعك ، وعودي إلى كوخك ، ومن يدري ، لعل مطر قد عاد الآن .
وقفلت أم مطر عائدة ، وقد بدأ الفجر يضيء الأفق ، وحين وصلت الكوخ ، تناهى
إليها بكاء فاطمة ، وأسرعت إلى حافة الهور ، حيث يربط الزورق ، وانهمرت الدموع من
عينيها مرة أخرى ، فلم يكن للزورق ، ولا لمطر ، أي أثر .
وتوقفت حائرة ، لا تدري ماذا تفعل ، وبكاء فاطمة ، ونباح " الذئب
" ، يصم الأذان . وبدل أن تمضي إلى فاطمة ، وتحاول إسكاتها ، أسرعت إلى الذئب
، وحلت وثاقه .
وعلى الفور ، انطلق " الذئب
" كالسهم ، وارتمى في أحضان الهور ، وراح يشق الماء كأنه قرش ضار .
" 6 "
حرك مطر المجدافين بشيء من
الصعوبة ، واندفع الزورق ببطء ، يشق طريقه في ممر مائي ضيق ، تحف به جدران عالية
من القصب .
وفزّ متلفتاً ، حين هبت بطة من بين أعواد القصب ، وتابعها مطر بعينيه
القلقتين ، وهي تطير بسرعة حتى اختفت، في نهاية الممر المائي الضيق .
وتابع تجديفه بهمة ، لقد قطع ممرات عديدة ، كان قد قطعها مراراً مع أبيه .
ولعل هذا هو الممر الأخير ، وسينفتح بعدها مسطح من المياه ، كان أبوه يفضل الصيد
فيه .
وتراءت له أمه ، لقد استيقظت الآن ، ولابد أنها ستعرف أين هو بعد أن تلاحظ
اختفاء الزورق ، ستقلق عليه بعض الشيء ، وربما ستلومه وتعنفه ، لا بأس ، فهي
سترتاح ، وترضى عنه ، عندما ترى السمك ، الذي سيعود به إليها مع المساء .
وعند نهاية الممر ، انتهت جدران القصب ، وانفتح الهور أمامه ، وبدت المياه
منتعشة ، تلمع مع أولى إشعاعات الشمس .
وتوقف لحظة ، يدرس المعالم التي حوله ، صحيح أنه جاء مع أبيه أكثر من مرة ،
لكن مع ذلك عليه أن يدقق ويتأنى ، كي لا يضل الطريق ، حين يريد أن يعود ، فقد
اختفى من هو أكبر منه ، وأكثر تجربة ، في أعماق الهور ، ولم يُعثر له على أثر .
وجدف بهمة مبتعداّ عن الممر ، وشق الزورق طريقه في مياه صافية شفافة ، بدت
عبرها النباتات المائية والأسماك على اختلاف أنواعها .
ولاح شريط من اليابسة ، يغص بالأسل والبردي والغزلان والطيور المختلفة .
وقرر أن يذهب إلى هذه اليابسة ، بعد أن يفرغ من اصطياد السمك ، ويأخذ لأمه بعض
البيض .
وتناهت إليه أصوات خافتة غامضة ، أشبه بصوت زورق يشق طريقه في ممر ضيق ، من
ممرات الهور . وتطلع إلى الممر ، الذي جاء منه ، لعله يرى زورقاً يقبل عبره ، وهذا
ما سيطمئنه ، وهو في هذا المكان الموحش المنعزل ، ومرّ الوقت بطيئاً ثقيلاً ، دون
أن يطلّ من الممر أي زورق .
وعنف مطر نفسه ، لأنّ قلبه خفق بشيء من الخوف ، ماذا ؟ أهو فتاة غرّة ، تصدق أنّ الهور مسكون ، وأنّ فيه آفة وغنفش و
.. ؟ كلا ، إنه رجل ، رجل كأبيه ، ولن يبالي
بالبقاء وحده في الهور ، حتى خلال
الليل ،الذي يخافه أحياناً الرجال أنفسهم .
وأمسك بالمجدافين بقوة ، وراح
يجدف لعله يجد مكاناً مناسباً ، ينشر فيه شبكته ، ويبدأ الصيد .
× الآفة والغنفش : كائنان خرافيان على شكل أفعى .
" 7 "
رمى مطر الشبكة ، أكثر من مرة
، في مياه الهور ، كما كان يفعل أبوه . ولم يتضايق كثيراً ، حين كان يسحب الشبكة ،
ويجدها فارغة ، فهذا ما كان يفعله أبوه أيضاً ، بل وكان أبوه يبتسم ، ويقول : لا
بأس ، لنرم ِ الشبكة مرة أخرى ، وأخرى حتى نصطاد ما نريده من سمك ، فالصيد بحاجة
إلى الصبر .
وطوال ساعة ، وربما أكثر ، ظل يرمي الشبكة في الماء، دون جدوى ، كأن قوة
غامضة كانت تبعد الأسماك عن شبكته . وهزّ رأسه ، إنه رجل ، وليس فتاة غرّة ، ليؤمن
بمثل هذه القوى ، فليرم ِ الشبكة في مياه الهور ، مرة أخرى وأخرى حتى يحظى بما
يريده من الأسماك .
وعند منتصف النهار ، رمى الشبكة مرة أخرى ، وغاصت في أعماق الهور ، حتى
كادت تختفي . وانتظر فترة ، ثم راح يسحبها شيئاً فشيئاً ، وإذا الشبكة تسحب بقوة ، ويُسحب معها مطر نفسه ، حتى كاد يسقط في
الماء . وأرخى الشبكة قليلاً ، ثم نظر أسفل القارب ، وجحظت عيناه ، فقد رأى سمكة
ضخمة ، لم يرَ مثلها من قبل ، تحوم بعنف حول الشبكة . وخفق قلبه رغماً عنه ، أهذه
سمكة أم .. ؟ كلا ، لا وجود للأرواح ، لكن هذه السمكة ستبقى في ذاكرته ، ما بقي
حياً .
ودارت السمكة أسفل القارب ، ثم مضت مبتعدة ، حتى غابت في أعماق الهور .
وسحب مطر الشبكة مذهولاً ، من سيصدقه من أبناء قريته ، إذا تحدث عن هذه السمكة
الضخمة ، التي رآها في أعماق الهور ؟ حتى أمه ، التي تعرف أنه لا يكذب أبداً ، لن
تصدقه ، وربما ستظن ، بينها وبين نفسها ، أنّ خوفه وقلقه ووجوده وحيدا في مثل هذا
المكان المنعزل ، ربما كان وراء تخيله لمثل هذه السمكة، التي لم يرَ أحد مثلها من
قبل .
وتلفت حوله ، وقلبه مازال يخفق ، لا شيء هنا غير المياه والقصب والصمت .
وسحب الشبكة من الماء ، ووضعها جانباً ، ثم سحب المجدافين ، وراح يجدف متجهاً نحو
اليابسة . إنه متعب ، ولابد أن يرتاح قليلاً ، قبل أن يعاود الصيد مرة أخرى .
وتناسى مطر تعبه ، وتوغل في الغابة
، بعد أن سحب زورقه قليلاً ، وشده إلى شجرة قريبة من الماء . وشقّ طريقه بصعوبة
بين الأسل والبردي والقصب والأعشاب الكثيفة .
وحيثما سار هبت من قربه بطة أو إوزة أو حمامة ، تاركة أعشاشها ، التي لا
تخلوا غالباً من بيض طازج لذيذ . وخلع كوفيته ، وراح يجمع فيها البيض ، ستفرح أمه
بهذا البيض ، بقدر ما ستفرح بالسمك الذي سيصطاده .
وتوقف بعد أن جمع كمية من البيض ،
وشدّ الكوفية حولها برفق ، وقفل عائداً إلى الزورق . ووضع صرة البيض فيه ، ثم نزل
وتمدد على العشب ، لعله يرتاح قبل أن يعود إلى الصيد ثانية . وأغمض عينيه
المتعبتين ، أهو النعاس ؟ ربما ، فقد استيقظ ، على غير عادته ، قبيل الفجر ، وانسل
بالزورق إلى أعماق الهور ، لابد أنه بحاجة الآن إلى غفوة ، ولو قصيرة ، لعله .. ،
وفتح عينيه على سعتهما ، عندما ندت حركة مفاجئة من بين القصب ، أهو عربيد أم خنزير
أم .. ؟ ونهض متلفتاً ، ليعد إلى الزورق ، ويحاول أن يصطاد السمك ، نعم ، هذا أفضل
.
وعاد إلى الزورق ، وهو يحاول التماسك ، وأخذ المجدافين ، وراح يجدف مبتعداً
عن الجزيرة . وتذكر السمكة الضخمة ، وهو يرمي شبكته في الماء ، أكانت تلك سمكة
حقاً أم .. ؟ كلا ، وهزّ رأسه ، وهو يسحب الشبكة، إنه رجل وليس .. ، وكاد يضحك من
نفسه ، عندما رأى سمكة صغيرة تتخبط في الشبكة . وأخرج السمكة الصغيرة ، وراح
يتأملها ، ثم أعادها إلى الماء ، وهو يقول : أنت صغيرة ، هيا اذهبي واكبري .
وذهبت السمكة الصغيرة ، وغاصت في أعماق الماء ، حتى اختفت . وأمسك مطر
بالشبكة ، ورماها بكل قوته ، ثم سحبها ، إنها خالية أيضاً ، لا بأس ، فليرمها مرة
أخرى ، كما كان يفعل أبوه ، حتى يصطاد ما يريده من الأسماك .
ومرة أخرى رمى الشبكة ، وانتظر حتى غاصت إلى الأعماق ، وهمّ أن يسحبها ،
وإذا بها تُجذب ويُجذب هو معها ، بقوة أشدّ من المرة السابقة . وحاول أن يتماسك ،
وقلبه يخفق بشدة ، تذكر يا مطر ، أنت رجل وليس فتاة، وفي الأعماق لا توجد أرواح ،
بل أسماك ، وأسماك فقط .
وبصعوبة وبطء راح يسحب الشبكة من
الماء ، وقد ثبّت إحدى قدميه على حافة الزورق . وجحظت عيناه ، يا إلهي ، ما هذا ؟
إنها السمكة الضخمة نفسها ، لكنها هذه المرة ، داخل الشبكة .
وتوقف لحظة مذهولاً ، ثم أخذ ، وبكل قوة ، يسحب الشبكة ، من أعماق الماء ،
ويسحب معها السمكة الضخمة . وما إن اقتربت السمكة ، حتى راحت تتلوى بعنف ، وتضرب
الزورق بذيلها وزعانفها ، وكأنها تريد أن تحطمه .
وفكر مطر ، ما العمل ؟ فهذه السمكة ، لا يمكنه ، مهما حاول ، أن يرفعها إلى
الزورق ، فهي على ما يبدو ، أثقل منه ، ما العمل إذن ؟ وعلى الفور ، أخذ المجدافين
، وراح يجدف بقوة ، دافعاً الزورق ، ومعه السمكة الضخمة ، نحو الجزيرة . وما إن
اقترب من الشاطىء ، حتى قفز إلى الماء ، وراح يسحب الشبكة ، والسمكة تتلوى في
داخلها ، وخرج بهما إلى اليابسة .
وتهاوى على الشاطىء ، متقطع الأنفاس ، وهو يراقب السمكة الضخمة ، تتلوى إلى
جانبه . وداخلته مشاعر متضاربة ، حين رآها تهمد شيئاً فشيئاً ، مستسلمة لقدرها
المحتوم .
" 8 "
تناهت إليه من بين الأحراش ،
حركة طفيفة ، والتفت إلى مصدر الحركة ، وأنصت ملياً ، أهو خشف أم أرنب بريّ أم ..
؟ ونهض بهدوء ، وتسلل بين الأحراش ، لا يكاد يسمع له صوت . ستفرح أخته فاطمة، رغم
صغرها ، بهذا الخشف ، أو الأرنب البريّ، أو .. ، وتوقف مرعوباً ، إذ برز من بين
الأحراش خنزير فتيّ ، متوسط الحجم ، تكاد عيناه تشتعلان غضباً ووحشية .
لم يهرب مطر ، وأنى له أن يهرب ، وقدماه لا تكادان تحملانه ؟ وفجأة انطلق
الخنزير باتجاهه مباشرة ، وقد رفع ذنبه ، وخفض رأسه الضخم ، وبرزت أنيابه كخناجر
قاتلة. وتراجع مطر متعثراً ، وصاح بأعلى صوته : النجدة .. النجدة .
وتردد صياحه المرعوب في أرجاء
الهور : النجد..ة .. النجد..ة .
وجاءته النجدة فعلاً ، فقد برز " الذئب " من حيث لا يدري ، وانقض
على الخنزير ، ناشباً فيه أنيابه ومخالبه الحادة . وانتفض الخنزير صارخاً ، وطرح
عنه" الذئب " ، الذي تهاوى
منسحقاً على الأرض . وتراجع الخنزير الفتي ، ثم توقف ناخراً وتأهب ثانية للهجوم .
وتحامل " الذئب " على نفسه ، رغم جراحه الشديدة ، وزمجر مكشراً عن
أنيابه ، وحدق الخنزير فيه متردداً ، ثم استدار ، وولى هارباً ، حتى توارى بين
الأحراش .
والتفت " الذئب " إلى مطر ، وتطلع إليه ، وهو يئن بألم وانكسار ،
ثم تهاوى على الأرض . وأسرع مطر إليه ، وأخذه في حضنه ، وراح يمسد شعره الملوث
بالدم بيد حنونة قائلاً : أيها الذئب ، يا
ذئبي الشجاع ، لولاك لانتهيت هنا بين أنياب ذلك الخنزير المتوحش القذر .
وأغمض " الذئب " عينيه ، وهو يئن بصوت خافت ، وقال مطر ، وقد
استبد به القلق : لا ، لن أدعك تنتهي هنا ، انهض ، سآخذك إلى كوخنا ، واعتني بك
حتى تشفى ، هيا انهض .
ونهض مطر ، لكن " الذئب " لم ينهض ، بل بقي منطرحاً في مكانه ،
وأنفاسه تخفت شيئاً فشيئاً . ومال مطر عليه ، وصاح : أيها الذئب ، انهض ، انهض
لنعود معاً إلى الكوخ .
ومرة أخرى لم ينهض " الذئب " ، وبقي كما هو في مكانه ، ومدّ مطر
يديه ، وضمه إلى صدره ، ثم وضعه برفق في الزورق ، وسحب الشبكة ، والسمكة في داخلها،
وأخذ المجدافين ، وراح يجدف بصعوبة ، متجهاً نحو كوخهم .
" 9 "
جلست أم مطر قرب حافة الهور ،
وفاطمة في حضنها ، ترضع من ثديها مرة ، وتغفو مرة ، دون أن تلتفت إليها .
ومرت ساعات وساعات ، وعيناها الغارقتان بالدموع ، تجوسان في أعماق الهور .
وكلما لاح زورق من بين القصب ، تابعته بلهفة ، لعل مطر يهل أخيراً ، ويضع حداً لما
تعانيه من خوف وقلق .
وبعد منتصف النهار ، أقبل أبو حيدر وزوجته ، وصاح أبو حيدر ، وهو يغالب
سعاله : ها أم مطر ؟
وتساءلت أم حيدر ملهوفة : أم مطر ، أخبريني ، يا أختي، ألم يعد مطر ؟
وأجهشت أم مطر بالبكاء ، وهي ترد قائلة : لن يعود مطر ، لن يعود .
وقال أبو حيدر ، وهو يسعل : كفى يا أم مطر ، كفى ، مطر لم يعد صغيراً ،
وسيأتي بعد قليل ، حتماً سيأتي ، وسترين .
وارتفع بكاء فاطمة ، لكن أم مطر لم تلتفت إليها ، وقالت من بين دموعها : يا
ويلي ، ماذا سأقول لأبي مطر ، ماذا سأقول له ؟
وردت أم حيدر قائلة : ماذا ستقولين ؟ أنت لم ترسليه إلى أعماق الهور ليصطاد
، وإنما هو الذي ذهب ، وم دون علمك أيضاً .
وأجهشت أم مطر بالبكاء ثانية ، وقالت : آه يا أم حيدر ، أنت تعرفين مكانة
مطر عنده .
وازداد بكاء فاطمة ، فقالت أم حيدر : كفى يا أم مطر ، كفى يا أختي ،
والتفتي إلى ابنتك ، إنها تكاد تموت من البكاء .
ونهضت أم مطر ، وقالت بصوت باك : ماذا أفعل بفاطمة بعد مطر ؟
ونظر أبو حيدر إليها متأثراً ثم قال : لا عليك ، سأذهب إلى الكوخ ، وأعود
بزورقي ، ثم أذهبُ بنفسي للبحث عن مطر .
ومضى أبو حيدر متجهاً نحو كوخه ، وأسرعت أم مطر في أثره ، وصاحت : مهلاً يا أبا حيدر، لا
أستطيع الانتظار ، سآتي معك .
والتفتت أم حيدر إليها متسائلة : وابنتك فاطمة ؟
فردت أم مطر ، وهي تجدّ في أثره : سأتركها في الكوخ، مع ابنتك هنادي ، حتى
نعود .
" 10 "
رغم مرضه ، راح أبو حيدر يجدف
بقوة ، دافعاً زورقه عبر الممرات المائية ، التي ترتفع على جانبيها جدران القصب .
وفي أثره ، كانت زوجته تدفع زورقها مجدفة
بقوة ، لا تقلّ عن قوته . وعلى مقربة منها ، جلست أم مطر ، تتطلع على
امتداد المياه ، لعلها ترى مطر قادماً والتفتت أم مطر إلى أبي حيدر ، وصاحت : أبا
حيدر .
وردّ أبو حيدر ، دون أن يتوقف عن التجديف : نعم .
وصاحت أم مطر : ليتك تسرع ، فالظلام سيخيم بعد قليل.
وقال أبو حيدر ، وهو يحاول أن يجدف بقوة أكبر : سأسرع كما تريدين ، يا أم
مطر .
وقالت أم حيدر ، وهي تواصل التجديف : اطمئني ، يا أم مطر ، لسنا في الشتاء
ليحل الظلام سريعاً ، نحن في الربيع .
ولاذت أم مطر بالصمت ، وعادت إلى التطلع على امتداد المياه ، لعلّ وعسى .
وسار الزورقان ، أحدهما في أثر الآخر ، يشقان طريقهما في ممرات مائية ، بدت لأم
مطر أنها لن تنتهي مطلقاً .
ونهضت أم مطر ، واقتربت من أم حيدر ، وقالت : أم حيدر ، دعيني أعاونك .
وردت أم حيدر ، وهي تجدف : لم أتعب بعد ، أجلسي أنت الآن .
وجلست أم مطر في مكانها ، وقالت : إنني أتعبكما معي، يا أم حيدر .
وواصلت أم حيدر التجديف ، وهي تقول : لا تقولي هذا يا أم مطر ، أبو حيدر
وأبو مطر أخوان ، وأنت أختي .
وترقرقت الدموع في عيني أم مطر ، وقالت بصوت باك: آه يا أم حيدر .
وصمتت إذ غلبها البكاء ، فقالت أم حيدر : أم مطر ، أعرفك صبورة صلبة ،
تماسكي يا أختي ، تماسكي .
وردت أم مطر من بين دموعها : لم يعد لي صبر ، فبعد أبي مطر ، هاهو مطر يكاد
..
وصمتت أم مطر ، عندما سمعت أبا حيدر ، يهتف بصوت يخالطه الفرح : أم مطر .
وهبت أم مطر قائلة : نعم .
وهتف أبو حيدر ، وهو يتطلع إلى نهاية الممر المائي : مطر .
وصاحت أم مطر ، وعيناها الغارقتان بالدموع ، تنهبان المياه إلى حيث ينظر
أبو حيدر وأم حيدر ، : مطر ! ابني مطر ؟ أين هو يا أبا حيدر ؟ أين هو ؟
وأشار أبو حيدر بيده ، إلى زورق يتهادى في نهاية الممر المائي ، وقال :
أنظري ، هاهو رجلك الصغير مطر ، إنه أشجع من ذئب .
واقتربت أم حيدر بزورقها ، من زورق أبي حيدر ، حتى حاذته ، وراحت تنظر ،
وإذا مطر يقف في الزورق بجسمه الفارع ، يلوح لهم فرحاً ، وهو يصيح : أمي ، أبا
حيدر ، إنني هنا ، تعالوا أنظروا ، ما الذي اصطدت .
وهمت أم مطر ، أن تلقي بنفسها في
الماء ، لتطير على جناح السرعة إليه ، وفي الحال ، احتضنتها أم حيدر ، وهي
تقول ضاحكة من بين دموعها : مهلاً ، ماذا
جرى لك ، يا أم مطر ؟ أنسيت أنك لا تعرفين السباحة .
" 12 "
على شاطىء الهور ، قرب كوخ أبي
مطر ، راح عدة أطفال ، بنين وبنات ، يتشاغلون بهذه اللعبة أو تلك . وبين حين وآخر
، كان أحد الأطفال يرفع رأسه ، ويتطلع إلى أعماق الهور ، ثم يعود إلى التشاغل
باللعب .
وأطل السيد بعمامته السوداء ، وجسده الضخم ، من باب أحد الأكواخ ، وتساءل
بصوته الأجش : ماذا ؟ ألم يأتوا بعد ؟
وتوقف الأطفال عن التشاغل باللعب ، ونظروا إلى أعماق الهور ، ثم ردّ أكثر
من واحد منهم : لا ، لم يأتوا بعد .
وعاد السيد بجسده الضخم إلى داخل الكوخ ، وهو يقول: عندما ترونهم قادمين ،
أخبروني .
وعند الغروب ، رفعت إحدى البنات رأسها ، ونظرت إلى أعماق الهور ، ثم راحت
تتواثب ، وتصيح بفرح : جاءوا .. جاءوا .
وتوقف الأطفال جميعاً عن التشاغل باللعب ، ونظروا حيث كانت تنظر الطفلة ،
ثم راحوا يتواثبون ويصيحون بأعلى أصواتهم جاءوا .. جاءوا .. جاءوا .
وأقبل السيد بجسه الضخم مسرعاً ، ومعه أقبل عشرات الأشخاص ، رجالاً ونساء
وشباباً وشابات ، وتطلع السيد إلى البعيد ، وقال وهو يلهث : نعم ، لقد جاءوا ،
حمداً لله.
ونظرت امرأة عجوز بعينيها الكليلتين ، ثم قالت : يا إلهي ، إنني لا أرى
شيئاً ، عسى أن يكون مطر بخير .
وهتفت فتاة شابة ، كانت تقف إلى جانبها : إنه يخير ، وهاهو قادم مع أمه
وأبو حيدر وأم حيدر .
وصاحت طفلة ، كانت تتواثب على
مقربة منها : وكذلك كلبه .. الذئب .
وضحك أحد الأطفال ، وقال : لا يبدو هذه المرة مثل الذئب .
وتوقفت الطفلة عن التواثب ، وردت قائلة : إنه ذئب ، وسيبقى ذئباً على
الدوام .
وصل أبو حيدر أولاً ، ووثب إلى الشاطىء ، وكأنه قد تعافى ، وهتف فرحاً ،
وهو يردّ على تحيات مستقبليه ، من الرجال والنساء والشباب والشابات والأطفال :
انتظروا ، سترون عجباً .
وصاح السيد بصوته الأجش : المهم أنّ مطر عاد سالماً .
ورد أبو حيدر ضاحكاً : وغانماً أيضاً .
ووصل قارب أم حيدر ، ثم قارب مطر وأمه ، فأسرع أبو حيدر ، وسحب قارب مطر
إلى الشاطىء ، ثم أشار إلى الشبكة ، وقتا : انظروا .
وتزاحم الجميع ينظرون مذهولين إلى تلك السمكة الضخمة ، ترقد ساكنة داخل
الشبكة . وتساءل السيد بصوته الأجش مبهوراً : يا إلهي ، من اصطاد هذه السمكة ؟
وردّ أبو حيدر قائلاً : لن تصدق إذا قلت ، إن مطر هو الذي اصطادها .
وربت السيد بيده الضخمة على كتف مطر ، وقال : لماذا لا أصدق ؟ فهذا الشبل
من ذلك الأسد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق