الترمجان
بقلم: طلال حسن
"1 "
ـــــــــــــــــــ
قبل أن يأوي اتونغيت إلى فراشه
، قال لأمه : سأذهب غداً إلى الغابة ، وأصطاد بعض الترمجان .
فاعترضت أمه ، وقالت : لكن لدينا الكثير من لحم الفقمة والرنة ، يا بنيّ .
وتمدد اتونغيت في فراشه ، وقال : يعجبني لحم طائر الترمجان .
وتابعت الأم قائلة بشيء من الرجاء : ثم إن الجو ، في الغابة الآن ، بارد
جداً .
وسحب اتونغيت الغطاء عليه ، وقال : هذا هو الجو الملائم لصيد طائر الترمجان
، يا أمي .
وفي صباح اليوم التالي ، جلس اتونغيت قبالة أمه ، يتناول طعام الفطور ، ولم
تحاول أمه ، هذه المرة ، أن تثنيه عن الخروج إلى الصيد في الغابة ، فهي تعرف ابنها
عنيداً كأبيه ، الذي قتله ذات يوم عاصف ، ذئب قطبي شرس .
وعندما أخذ اتونغيت قوسه وسهامه ، مستعداً للخروج ، قالت له أمه : سأنتظرك
، لن آكل حتى تعود .
وابتسم اتونغيت ، وقال مازحاً : قد لا أعود قبل المساء ، يا أمي .
فقالت أمه مازحة : لو كنتَ متزوجاً لما خرجت من البيت أساساً .
وضحك اتونغيت ، وقال : سأتزوج ، يا أمي ، حين أرى فتاة تعجبني .
ومضى اتونغيت مبتعداً بخطى شابة ، فهتفت به أمه : بنيّ ، لا تتوغل كثيراً
في الغابة .
وردّ اتونغيت مازحاً ، دون أن يلتفت إليها : اطمئني ، يا أمي ، فجدتي تقول
، إنها مسكونة .
" 2 "
ـــــــــــــــــــ
طوال ساعات ، لم يصطد اتونغيت
ترمجاناً واحداً ، بل ويا للعجب ، لم يرَ ترمجاناً واحداً ، رغم أن الغابة كانت
تعج بمختلف أنواع الطيور .
وأخيراً ، قبيل منتصف النهار ، رأى ترمجاناً فتياً ، غاية في الجمال ، لم
يرَ ما يشبهه من قبل ، فأخذ سهماً من جعبته ، ووضعه في قوسه ، وسدده بدقة نحو
الترمجان ، ثم أطلق السهم .
وانتفض الترمجان متألماً ، رغم أن السهم لم يصبه تماماً ، وإنما أصاب طرفاً
من جناحه ، على ما يبدو ، وانبثق الدم منه ، وانطلق متوغلاً في الغابة ، وهو يطير
مرة ، ويقع مرة على الأرض .
وتبعه اتونغيت ، والقوس في يده ، دون أن يغيب عنه لحظة واحدة ، وتوقع أن
يبطء الترمجان ، ثم يسقط على الثلج ، فيمسك به ، ويأخذه إلى البيت .
وبدل أن يضعف الترمجان ، ويسقط على الثلج مضرجاً بدمائه ، استمر على طيرانه
المنخفض ، ووقوعه على الأرض ، وفجأة اختفى ، وكأن الثلج انشقّ وابتلعه ، وتوقف
اتونغيت متلفتاً حوله ، لعله يقع على أثر للترمجان ، لكن دون جدوى .
ترى أين اختفى الترمجان ؟ وأين هو الآن ، وكيف .. ؟ مهما يكن ، فمن الأفضل
أن يتوقف عن مطاردته ، ويعود إلى البيت ، لقد توغل كثيراً في الغابة ، وهو يخشى أن
تغرب الشمس ، وهو مازال يدور في أعماق هذه الغابة ، فتقلق عليه أمه .
" 3 "
ــــــــــــــــــــ
لم يكد اتونغيت يخطو بضعة خطوات
، حتى رأى أمامه كوخاً ، ينبعث الدخان من مدخنته ، إنه إذن ليس كوخاً مهجوراً .
وتوقف متعجباً ، فهو لم يرَ هذا الكوخ إلا الآن ، من يدري ، لعله كان
منشغلاً ، فلم ينتبه إليه ، وإلا أيعقل أنه ظهر هكذا فجأة ؟
ولعل اتونغيت أراد أن يتأكد ، بأن الكوخ موجود حقيقة ، وليس وهماً من
الأوهام ، فتقدم من الباب ، وطرقه برفق ، وفتح الباب بعد قليل ، فتحته شابة ، لم
يرَ فتاة في جمالها من قبل .
وفغر اتونغيت فاه مبهوراً ، حتى أنه لم ينطق بكلمة واحدة ، فابتسمت الفتاة
، وقالت : لقد طرقت باب كوخنا ، تفضل .
وانتبه اتونغيت ، فقال متلعثماً : عفواً .. نعم .. طرقت الباب .. أريد ..
جرعة ماء .
وابتسمت الفتاة ، وقالت : الجو هنا بارد ، تفضل إلى الداخل ، واشرب قدر ما
تشاء .
وتنحت الفتاة قليلاً ، فدخل اتونغيت ، وإذا الكوخ من الداخل يبدو أكثر
جمالاً واتساعاً ، وفي موقده تشتعل نار تشيع الدفء والاطمئنان .
وأغلقت الفتاة الباب ، وقدمت كوباً من الماء لاتونغيت ، وهي تقول : تفضل ،
اسمي نافارانا .
وأخذ اتونغيت الكوب من يدها ، وأخذ يشرب ما فيه من ماء ، فنظرت نافارانا
إليه ، وقالت : لابد أنك لاحقت طائر ترمجان .
وتوقف اتونغيت عن شرب الماء ، وحدق فيها صامتاً ، فقالت مبتسمة : لا أحد
يأتي إلى هنا ، إلا من أجل طائر الترمجان .
وأعاد اتونغيت الكوب لنافارانا ، وقال : أشكرك .
وصمت لحظة ، ثم قال : أراك هنا وحدكِ .
وجلست نافارانا قرب الموقد ، وتراقص اللهب الدافىء فوق وجهها الشاب ، وقالت
: في الحقيقة ، لستُ وحدي ، بل ولستُ هنا بارادتي .
واقترب اتونغيت منها ، وقال : أخبريني بالحقيقة ، لعلي أستطيع أن أساعدكِ .
ونظرت نافارانا إليه ، وبدت حزينة مهمومة ، وهمت أن تتكلم ، لكنها سرعان ما
صمتت ، وهبت واقفة ، حين ارتفع وقع أقدام ثقيلة في الخارج ، وقالت بصوت هامس : صه
، ها هو قادم .
" 4 "
ــــــــــــــــــــ
دُفع باب الكوخ ، ودخل رجل ضخم
، في أواسط العمر ، يرتدي ملابس الاسكيمو ، ويعتمر غطاء رأس ، من فراء الثعلب
القطبيّ .
ووقع نظره على اتونغيت ، الذي يقف جامداً ، حائراً ، لا يدري ماذا يفعل ،
ثم نظر إلى نافارانا ، وقال : يبدو أنّ لدينا ضيفاً اليوم .
وردت نافارانا قائلة : إنه صياد تيلمجان ، مرّ بكوخنا ، وأراد جرعة ماء .
وحدق الرجل في اتونغيت ملياً ، ثم قال : أهلاً ومرحباً بالضيف ، الضيف عزيز مهما كان .
وأومأ اتونغبت برأسه ، وقال : أهلاً بكَ ، يا سيدي .
ورمق الرجل نافارانا بنظرة خاطفة ، وقال : اصطدت فقمة ، سنقدم لضيفنا
طعاماً منها .
وهمت نافارانا أن تتجه إلى الخارج ، وهي تقول : سأقطع الفقمة ، وأجلب بعض
اللحم ، وأعد طعاماً للعشاء .
فأومأ الرجل لنافارانا أن تبقى ، وقال : الشمس تكاد تغرب ، والبرد شديد
جداً في الخارج ، ابقي أنتِ مع ضيفنا ، أنا سأجلب اللحم .
وخرج الرجل من الكوخ ، وأغلق الباب وراءه ، فاقتربت نافارانا من اتونغيت ،
وقالت هامسة : ما رأيته هو الوجه الطيب منه ، لا تصدق ما رأيته الآن ، إنه في
الحقيقة وحش .
وصمتت لحظة ، ثم قالت هامسة : اختطفني هذا الوحش من أهلي ، وأنا طفلة صغيرة
، وطوال هذه السنين ، وأنا أحلم أن يأتي شاب ، قويّ ، شجاع ، ينقذني منه ، ويعيدني
إلى أهلي .
ومال عليها اتونغيت ، وردّ هامساً : لا عليك ، أنا سأنقذك ، وأعيدك إلى
أهلك ، ومن يدري ، فقد تكونين من نصيبي ، إذا وافقتِ .
وبدا الفرح على نافارانا ، وقالت : أشكرك ، هذا في الحقيقة ، أكثر مما كنت
أحلم به .
وابتعدت عنه ، وقد لاذت بالصمت ، عندما ارتفع وقع أقدام ثقيلة في الخارج ،
وقالت خائفة : صه ، لنكن حريصين ، ها هو قادم .
" 5 "
ـــــــــــــــــــــ
أعدت نافارانا طعام العشاء ،
وجلسوا ثلاثتهم ، على مقربة من نار الموقد ، التي أشاعت الدفء في الكوخ ، يتناولون
الطعام .
وبعد العشاء ، تحلقوا حول الموقد ، والرجل يغذي ناره المشتعلة ، بمزيد من
قطع الخشب الجافة ، بحيث تبقى ألسنة اللهب ترتفع مطقطقة دفئاً ومرحاً .
وظلوا يتسامرون ، حتى انتصف الليل ، وإن كان معظم الحديث للرجل الضخم ،
واتونغيت ، أما نافارانا ، فكانت شاردة ، صامتة ، لم تنطق بكلمة واحدة .
وعند منتصف الليل ، أعدت نافارانا فراشاً وثيراً ودافئاً لاتونغيت ، وقبل
أن يتمدد فيه استعداداً للنوم ، قدم الرجل له كوباً من الشراب ، وهو يقول : هذا
شراب لذيذ سيدفئك ، ويساعدك على النوم .
ونظرت نافارانا إلى اتونغيت ، لكن اتونغيت لم يكن ينظر إليها ، ولو صادف
ذلك ، لربما عرف بأنها لا تريد أن يشرب ما في ذلك الكوب .
وشرب اتونغيت كلّ ما في الكوب من شراب ، وأعاد الكوب إلى الرجل الضخم ،
وقال : أشكرك ، إنه حقاً شراب لذيذ جداً .
وتدثر بجلد الدب القطبيّ ، وأغلق عينيه المتعبتين ، الناعستين ، اللتين
زادهما الشراب تعباً ونعاساً ، وسرعان ما استغرق في سبات عميق .
وأفاق اتونغيت ، وقد أشرقت الشمس ، وارتفعت في السماء ، وفتح عينيه اللتين
مازالتا متعبتين يثقلهما النعاس ، وإذا هو في نفس المكان ، الذي كان يلاحق فيه
طائر التلمجن الجريح ، وتلفت حوله مذهولاً ، إذ لم يرَ أثراً ، لا للرجل الضخم ،
ولا للفتاة نافارانا ، بل ولا للكوخ نفسه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق