شيشرون
قصة للأطفال
طلال
حسن
كنتُ في
المطبخ ، حين ارتفع في التلفزيون صوت امرأة ، تُلقي كلمة بمناسبة عيد المرأة ، إنه
قيس ، لا أحد يرفع صوت التلفزيون هكذا ، غيره ، فهتفتُ : قيس .
وردّ قيس : نعم
، ماما .
فصحتُ به : اخفض صوت التلفزيون .
وصاح قيس : فلتخفضه زينب ، إنني أعمل في الحديقة مع بابا
.
وأسرعتُ إلى الردهة ، وإذا زينب ، تشاهد البرنامج ، وقد
وضعت وجهها بين يديها ، فاتجهتُ إلى التلفزيون ، وأطفأته ، وقلتُ : كفى ، هيا إلى
درسك .
واعتدلت زينب ، واحتجت قائلة : ماما ، إنني أتابع هذا
البرنامج .
وفتحتُ التلفزيون ثانية ، لا من أجل زينب ، بل لأن صورة
قديمة ، غائمة ، اتسعت في ذهني ، شيشرون ! وقبل أن تتضح الصورة ، انتهى البرنامج ،
وأعلنت المذيعة عن برنامج جديد .
عدتُ إلى المطبخ ، وراحت يداي تعملان ، بينما حلق ذهني
بعيداً . لم أنسَ شيشرون ، ولن أنسى اليوم ، الذي تعرفتُ فيه إليها . كانت تقف
وحيدة ، حين دخلتُ الصف، وقد ضمت حقيبتها إلى صدرها ، فابتسمتُ لها ، وقلتُ : صباح
الخير .
لم ترد شيشرون على تحيتي ، فدنوتُ منها ، وقلتُ : اسمي
وداد .
واحتقن وجه شيشرون ، وتعكرت عيناها الزرقاوان ، وتمتمت
بصعوبة ، وهي تشير إلى نفسها : أ أ.. أمل
.
أدركتُ لماذا لم ترد على تحيتي ، لكني تجاهلتُ تأتأتها ،
وابتسمتُ بود ، وقلتُ : أهلاً بك ، إنّ صفنا جميل ، آمل أن ترتاحي معنا .
لكنّ البداية لم تكن مشجعة ، فقد جاءت معلمة التاريخ ،
وكانت رغم طيبتها انفعالية ، سريعة الغضب ، وما إن رأت أمل ، حتى أشارت لها أن
تنهض ، وقالت : ما اسمك ؟
ونهضت أمل ، وقد احتقن وجهها ، ولم تستطع أن تجيب، فصاحت
معلمة التاريخ : هيا ، تكلمي ، ما اسمك؟
لم أتمالك نفسي ، فنهضت من مكاني ، وأنا أقول : اسمها
..أ..
وقاطعتني معلمة التاريخ قائلة : اسكتي أنتِ ، إنها ليست
خرساء لتتكلمي نيابة عنها ، أجلسي .
وإنكفأت أمل على
الرحلة ، وقد غصت بدموعها ، وأدركت معلمة التاريخ خطأها ، لكنها نظرت بانزعاج إلى
التلميذات ، وقالت : هيا نعد إلى الدرس .
دق الجرس ، وخرجت التلميذات من الصف ، فنهضتُ من مكاني ،
وجلستُ إلى جانب أمل ، وقلتُ : أمل .
ظلت أمل منكفئة على الرحلة ، فقلتُ وأنا ألمس شعرها
الذهبي : ارفعي رأسك ، يا عزيزتي ، لا داعي للحزن .
ورفعت أمل رأسها ، وبدت عيناها الزرقاوان غارقتين
بالدموع ، وقالت وهي تنشج : ليتني لم أولد .
ابتسمتُ رغم تأثري ، وقلتُ : لو كان لي مثل عينيك ، لما
قلتُ كلاماُ كهذا .
ومسحت أمل دموعها ، وقالت : لماذا أنا هكذا ، دون كلّ
الناس ؟
وأخذتُ يدها بين يديّ ، وقلتُ : مهلاً ، يا عزيزتي ، أنت
تتكلمين أفضل مني .
ونظرت أمل إليّ ، وقالت : هذه هي مشكلتي ، إنني أحياناً
لا أأأ..
وضعتُ يدي فوق فمها ، وقلتُ : لديّ قطعة من الكيك ،
فلنأكلها معاً .
وردت أمل قائلة : أشكرك .
فقلتُ وأنا أقدم لها نصف قطعة الكيك : تذوقي الكيك ، ثم
أشكريني .
وتطلعت أمل إليّ ، وقالت : أنت طيبة .
ثم أخذت قطعة الكيك ، وتذوقتها ، وقالت : طيبة .
ابتسمتُ ، وقلت : مثلي ؟
وابتسمت أمل قائلة : أنت أأ .. أطيب .
ويبدو أنّ معلمة التاريخ ، قد حدثت معلمة اللغة العربية
عن أمل ، فحين جاءت إلى الصف ، لم تقل كلمتها المعهودة : افتحن الكتاب ، بل قالت :
اغلقن الكتاب ، وحدثتنا عن شيشرون ، وقالت : إنه خطيب يوناني شهير ، وكان يتأتيء
في كلامه ، لكنه صار فيما بعد أعظم خطيب في عصره
.
ثم اقتربت من أمل ، وقالت : لقد رأيتُ درجاتك ، أنت
تلميذة ذكية ، وأنا واثقة أنك ستتفوقين في دراستك .
ثم ابتسمت لها ، وقالت : تذكري دائماً .. شيشرون .
لم تمض ِ سوى أشهر قليلة حتى انتقلت أمل مع والديها إلى
البصرة ، وانقطعت عني أخبرها ، ترى هل صارت أمل مثل شيشرون ، لماذا لا ؟ إنّ طه
حسين كان بصيراً ، وبتهوفن كان أصماً ، أما هيلين كلر ، فقد كانت بصيرة وصماء
وخرساء ، لكن هذا لم يمنعها من أن تصير أشهر النساء في العالم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق