فَطائِــرُ أَبِــي
ميزوني البنّاني
رسوم : سومر سلام
تَنَادَى اُلصِّغَارُ دَاخِلَ اُلْمَنْزِلِ، قَائِلِينَ بِفَرَحٍ وَدَهْشَةٍ:
" تَعَالَوْا شَاهِدُوا كَيْفَ يَصْنَعُ أَبُونَا اُلْفَطَائِرَ بِنَفْسِهِ."
وَجَدَ اُلْأَطْفالُ أَنْفُسَهُمْ، بَعْدَ بُرْهَةٍ، فِي اُلْمَطْبَخِ،
وَهُمْ لاَ يُصَدِّقُونَ عُيُونَهُمْ. إِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَبَاهُمْ،
أَمَامَهُمْ، بِلِبَاسِ اُلطَّبَّاخِينَ، مُتَرَبِّعًا عَلَى دَكَّةِ
اُلْمَطْبَخِ، وَأَمَامَهُ اُلْمَوْقِدُ اُلْغَازِيُّ، وَحَوالَيْهِ
مِقْلاةٌ كَبِيرَةٌ، وَوِعَاءٌ بِهِ عَجِينٌ طَرِيٌّ مُكَوَّمٌ، وَإنَاءٌ
بِهِ ثُقوبٌ مِثْلُ اُلْكَسْكاسِ لِلتّقْطيرِ، وَسِلْكٌ مِنْ مَعْدِنٍ
لَمَّاعٍ ذُو مِخْطافٍ، وَصُحُونٌ نَظيفَةٌ مَصْفُّوفَةٌ.
بَدَا
لَهُمْ، فِي مَكانِهِ اُلْعَالِي، وَرَاءَ مِقْلاتِهِ، كَأَنَّهُ
يُقَلِّدُ اُلْفَطائِرِيَّ فِي جَلْسَتِهِ، وَلاَ يَنْقُصُهُ سِوَى
اُلزَّبَائِنِ، يُحِيطُونَ بِمَجْلِسِهِ اُلْمُرْتَفِعِ كَمَجْلِسِ
اُلْمُلُوكِ، يَنْتَظِرُونَ أَدْوَارَهُمْ، وَيُلَوِّحُونَ بِأَيْدِيهِمْ،
يُذَكِّرُونَهُ بِطَلَبَاتِهِمْ، وَهُوَ يُلَبِّيهَا بِصَمْتٍ وَعَدْلٍ.
خَطَرَتْ بِبَالِهِمْ فِكْرَةٌ مَسَلِّيَةٌ، فَأَخَذُوا يَلْعَبُونَ
دَوْرَ اُلزَّبَائِنِ، فَاُصْطَفُّوا أَمَامَ وَالِدِهِمْ، فِي نِصْفِ
دَائِرَةٍ، وَأَخَذُوا يَحُثُّونَهُ عَلَى اُلِانْطِلاَقِ فِي اُلْعَمَلِ.
وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِطَلَبِهِمْ، نَظَرَ إِلَيْهِمْ مِنْ أَعْلَى
مَجْلِسِهِ، وَقَالَ بِحَمَاسٍ، يَشْرَحُ لَهُمْ سَبَبَ إِقْدَامِهِ عَلَى
هَذَا اُلْأَمْرِ:
" قُمْتُ، فِي اُلسَّنَواتِ اُلْأَخِيرَةِ، بِتَذَوُّقِ فَطائِرَ
مَقْلِيَّةٍ فِي كُلِّ مَحَلاَّتِ اُلْبَلْدَةِ اُلْقَدِيمَةِ، لَكِنَّنِي
لَمْ أَجِدْ طَعْمَهَا لَذِيذًا كَطَعْمِ فَطائِر أَيَامِ اُلطُّفُولَةِ،
لِذَلِكَ قَرَّرْتُ اُلْيَوْمَ أَنْ أَصْنَعَ بِنَفْسِي تِلْكَ
اُلْفَطائِرَ ذَاتَ اُلطَّعْمِ اُللَّذِيذِ اُلَّذِي مَازَالَ يَحْتَفِظُ
بِهِ فَمِي."
قَالَ ذَلِكَ بِثِقَةٍ وَعَزْمٍ كَبِيرَيْنِ، وَاُلْأَمَلُ فِي تَحْقِيقِ مُرادِهِ يَمْلَأُ عَيْنَيْهِ اُلضَّيِّقَتَيْنِ.
شَرَع اُلْأَبُ فِي إِعْدَادِ اُلْفَطائِرِ، فَأَخَذَ مِنَ اُلْوِعَاءِ
قِطْعَةَ عَجِينٍ. فِي اُلْبِدَايَةِ، تَأمَّلَها قَلِيلاً، ثُمَّ
وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَاحَ يَفْرُكُهَا، وَيُكَوِّرُهَا
بِخِفَّةٍ، وَعِنْدَمَا صَارَتْ طَرِيَّةً وَمُسْتَدِيرَةً، وَضَعَهَا فِي
قَبْضَتِهِ اُلْيُمْنَى، وَأَخَذَ يَضْغَطُ عَلَيْهَا، وَلَمَّا خَرَجَ
مِنْ أَعْلَى قَبْضَتِهِ جُزْءٌ كُرَوِيُّ مِنْ تِلْكَ اُلْعَجِينَةِ،
قَطَعَهُ بِيَدِهِ اُلْيُسْرَى، ثُمَّ رَاحَ يُمَطِّطُهُ بِيَدَيْهِ
بِخِفَّةٍ حَتَّى صَارَ كَقِطْعَةِ إِسْفَنْجٍ مُسْتَديرَةٍ، عِنْدَهَا
أَلْقَاهُ دَاخِلَ مِقْلاَةِ اُلزَّيْتِ اُلسَّاخِنِ، وَعَادَ إِلَى
اُلْوِعَاءِ يَأْخُذُ مِنْهُ قِطْعَةَ عَجِينٍ جَدِيدَةً. وَكَانَ بَيْنَ
اُلْحِينِ وَاُلْآخَرِ يَأْخُذُ اُلْمِخْطافَ، لِيُقَلِّبَ بِهِ
اُلْفَطائِرَ عَلَى اُلْوَجْهِ اُلَّذِي مَازَالَ لَمْ يَحْمَرَّ، وَلَمْ
يَنْتَفِخْ نُضْجًا. وَ كَانَ كُلَّمَا اُسْتَوَتِ اُلْفَطيرَةُ خَطَفَهَا
مِنَ اُلْمِقْلاةِ اُلسَّاخِنَةِ بِاُلْمخْطافِ، لِيَضَعَهَا أَخِيرًا فِي
إِنَاءٍ اُلتَّقْطِيرِ، لِيُخَلِّصَهَا مِنْ قَطرَاتِ اُلزَّيْتِ
اُلْعَالِقةِ بِهَا.
وَفِيمَا كَانَ اُلْأَبُ يَعْمَلُ، كَانَ أَطْفَالُهُ يُرَاقِبُونَ
بِشَغَفٍ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، مُتَسَائِلِينَ فِي صَمْتٍ:
"يَا تُرَى هَلْ سَيَكُونُ فَطيِرُ أَبِينَا لَذِيذًا مِثْلَ فَطِيرِ اُلْفَطائِريِّ؟"
وَعِنْدَمَا فَرَغَ وِعَاءُ اُلْعَجِينِ، وَتَجَمَّعَتْ فِي إِنَاءِ
اُلتَّقْطِيرِ مَجْمُوعَةٌ مِنَ اُلْفَطَائِرِ، أَخَذَ اُلْأَطْفَالُ
يَمُدُّونَ لَوَالِدِهِمْ صُحُونَهُمْ اُلْوَاحِدَ بَعْدَ اُلْآخَرِ
لِتَسَلُّمِ نَصِيبِهِمْ، ثُمَّ جَلَسُوا حَوْلَ طَاوِلَةِ اُلْأَكْلِ،
يَلْتَهِمُونَ اُلْفَطائِرَ اُلْمُسْتَدِيرَةَ اُلسَّاخِنَةَ بِتَلَذُّذٍ،
مُرَدِّدِينَ بِفَرَحٍ وَدَهْشَةٍ:
" لاَ فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ فَطائِرِ اُلْعَمِّ سَعِيدٍ فِي
اُلْبَلْدَةِ اُلْقَدِيمَةِ شَكْلاً وَ طَعْمًا.. هَلْ نَجَحَ أَبُونَا فِي
تَحْقِيقِ هَدَفِهِ ؟"
أَمَّا اُلْأَبُ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، بَلْ أَخَذَ فَطِيرَةً، ثُمَّ
رَاحَ يَخْتَبِرُهَا بِشَغَفٍ. فِي اُلْبِدَايَةِ، تَأَمَّلَ شَكْلَهَا،
فَرَآهَا مُسْتَدِيرَةً، سَاخِنَةً، هَشَّةً مِثْلَ اُلْقُطْنِ،
وَكَثِيرَةَ اُلثُّقُوبِ وَاُلْانْتِفَاخِ كَأنَّهَا اُسْفَنْجَةٌ،
وَلَمَّا وَجَدَهَا تَمَامًا مِثْلَ فَطائِرِ أيَّامِ زَمَانٍ، اِنْتَقَلَ
بِاُطْمِئْنَانٍ وَفَرَحٍ إِلَى مَرْحَلَةِ اُخْتِبَارِ طَعْمِهَا.
وَبِدُونِ تَرَدُّدٍ قَضَمَ قِطْعَةً كَبِيرَةً مِنْهَا، وَأَخذَ
يَتذَوَّقُهَا بِشَوْقٍ كَبِيرٍ، مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، لَكِنَّهُ فِي
اُلنِّهَايَةِ لَمْ يَجِدْ أَثَرًا لِذَلِكَ اُلطَّعْمِ اُلْقَدِيمِ
اُلّذِي يُذَكِّرُهُ بِطُفُولَتِهِ اُلسَّعِيدَةِ، فَوَضَعَ بَقِيَّةَ
اُلْفَطِيرَةِ فِي اُلصَّحْنِ بِحَرَكَةٍ يَائِسَةٍ، وَأَطْرَقَ
وَاُلشُّعورُ بِاُلْحُزْنِ وَاُلْعَجْزِ يَعْصِرُ قَلْبَهُ.
كَانَتِ اُلْأُمُّ تُرَاقِبُ حَرَكَاتِهِ بِشَفَقَةٍ، وَكَأَنَّهَا
كَانَتْ تَعْرِفُ مُقَدَّمًا نَتِيجَةَ مُحَاوَلَتِهِ، فَخَاطَبَتْهُ
بِهُدُوءٍ، تُحَاوِلُ إِقْناعَهُ:
" هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَذْكُرَ لِي اُلْمَوادَّ اُلَّتِي اُسْتَعْمَلْتَها فِي إِعْدَادِ اُلْعَجِينِ؟ "
أَجَابَهَا مُتذَكِّرًا:
" اِسْتَعْمَلْتُ معَ اُلْماءِ اُلدّافِئِ رَطْلاً مِنَ اُلسَّمِيدِ،
قَلِيلاً مِنَ اُلْمِلْحِ، وَقَلِيلاً مِنْ خَمِيرَةِ اُلْخُبْزِ.."
حَرَّكَتِ اُلزَّوْجَةُ رَأْسَهَا عَلاَمَةَ عَدَمِ اُلرِّضَا، ثُمَّ
قَالَتْ:
"إِنَّكَ نَسِيتَ شَيْئًا مُهِمًّا."
سَألَهَا بِشَوْقٍ وَحَيْرَةٍ:
" مَا هُوَ ؟ هَيَّا قُولِي، أَرْجُوكِ! "
أَجَابَتْهُ بِحَسْرَةٍ:
" لِلَأَسَفِ، هُوَ لاَ يُبَاعُ فِي اُلْأسْوَاقِ، وَلَيْسَ لَهُ كَيْلٌ أَوْ مِيزَانٌ."
اِزْدَادَتْ حَيْرَةُ اُلْأَبِ فَقَالَ، وَقَدْ فَقَدَ اُلْقُدْرَةَ عَلَى اُلاِنْتِظارِ:
"هَلْ هَذَا لُغْزٌ؟ "
أَطْرَقَتْ، وَقالَتْ بِنَبْرَةِ حُزْنٍ وَشَفَقَةٍ:
" بِكُلِّ بَسَاطَةٍ، إِنَّكَ نَسِيتَ أَنْ تَضَعَ فِيهَا مِقْدَارًا مِنْ طَعْمِ اُلطّفُولَةِ."
ضَرَبَ رَأْسَهُ بِكَفِّهِ اُعْتِرَافًا بِغَفْلَتِهِ وَعَجْزِهِ، ثُمَّ
قَالَ وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ بِاُلدُّمُوعِ، وَهُوَ اُلْمَعْروفُ
بِرِقَّةِ اُلْقَلْبِ وَسُرْعَةِ اُلدَّمْعِ:
" صَدَقْتِ.. اُلآنَ عَرَفْتُ مَاذَا كَانَ يَنْقُصُ فَطائِرِي وَكُلَّ
اُلْفَطائِرِ اُلَّتِي تَنَاوَلْتُهَا فِي كِبَرِي.. إِنَّهُ طَعْمُ
اُلطُّفولَةِ اُللَّذِيذُ. وَمُحَالُ اُلْعُثُورُ عَلَيْهِ اُلْآنَ، بَعْدَ
ضَيَاعِ اُلطُّفُولَةِ مِنِّي هَكَذَا، وَبِدُونِ رَجْعَةٍ. "
أَحَسَّ اُلْأَطْفالُ بِحُزْنِ أَبِيهِمْ، فَاُلْتَفُّوا حَوْلَهُ
بِشَفَقَةٍ، وَهُوَ يَغْسِلُ يَدَيْه مِرَارًا وَتَكْرَارًا بِاُلْغَاسُولِ
اُلْمُعَطَّرِ، لَكِنَّهُ سُرْعانَ مَا رَاحَ يُصْرِفُهُمْ عَنْهُ،
نَاصِحًا إِيَاهُمْ بِأُبُوَّةٍ صَادِقَةٍ:
"تَمَتَّعُوا صِغَاريِ بِطُفُولَتِكُمْ اُلْعَذْبَةِ، كَمَا يَنْبَغِي، قَبْلَ أَنْ تَضِيعَ مِنْكُمْ .."
وَمُنْذُ ذَلِكَ اُلْيَوْمِ، لَمْ يَعُدِ اُلْأَطْفَالُ يَرَوْنَ اُلْأَبَ
يَذْهَبُ إِلَى مَحَلاّتِ الفطائرِ، أَوْ يَقُومُ بِإعْدَادِ اُلْفَطِيرِ
بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَعُودُوا يَسْمَعُونَهُ يَتَحَدَّثُ عَنِ ذَلِكَ
اُلطَّعْمِ اُللَّذِيذِ لِفَطائِرِ عَهْدِ طُفُولَتِهِ.
هناك تعليق واحد:
قصة جميلة، لقد أعجبتني.
إرسال تعليق