الحي
فانتــــازيا للصــغار والكبــــار
تأليف: شهاب سلطان
فى عرض المحيط.. حيث لم يذهب أحد الى هناك.. كانت مجموعة من قمم الجبال الصخرية تعلو فوق سطح الماء ، تتلاطم حولها الأمواج وتتكسر عليها، وحين يهدأ المحيط ويصير وجه الماء مستويا مثل سجادة زرقاء، تتقافز الموجات الصغيرة كراقصات فضية حولها وهى لا تعرف ماذا يدور فى القاع.
وفى القاع.. وعند جذور هذه الجبال.. كان هناك بركان.. تتدفق منه حمم ملتهبة، تندفع الى الوديان بين أصول الجبال، وتفرش مساحات شاسعة من رمال القاع، تبذل المياه المظلمة فى الأعماق مجهودا كبيرا لتبردها فتستقر فوق القاع.
ظل البركان يدفع بحمم جديدة من فوهتة.. تزحف الحمم فوق من سبقتها وتسيل من فوق حوافها، تستقر فوق رمال جديدة وتبردها المياه لتسير فوقها حمم جديدة.
سنين طويلة مرت، والحمم البركانية السائلة تزحف فوق من يبرد منها وتفترش مساحات جديدة من قاع المحيط، وتتراكم فوق بعضها حول جذور الجبال لتصعد فى النهاية فوق سطح الماء.. جزيرة بركانية واسعة لا ترى العين حدودهاـ لها أوتاد عظيمة ممتدة فى أعماق الأرض، وخمد البركان وتنفست أرض الجزيرة الهواء لأول مرة. تفجرت فيها عيون ماء عذبة إنتشرت على الأرض فى جداول وقنوات وصارت ارضا خصبة صالحة للزراعة.
مر من فوق الجزيرة الجديدة سرب من الطيور المهاجرة فى طريقها لأن تعبر المحيط، رآها قائد السرب، قرر أن يزل برفاقه للراحة بعد طول طيران. وتحولت الجزيرة الجرداء الى محطة ترتاح عليها الطيور المهاجرة .
سعت الحياة للعيش فوق أرض الجزيرة الجديدة،حملت أرجل الطيور وأجنحتها، بذورا كثيرة لأنواع كثيرة من النباتات من البلاد القادمة منها، وسقطت منها على الأرض حين حطت عليها. وحملت الرياح بذورا جديدة من أشجار الفاكهة والثمار والخضروات من كل مكان فوق سطح الأرض، وأسقطتها فوق أرض الجزيرة.. وحملت الأمواج ثمار بلح وجوز وسلمتهما للشطآن .
احتضنت الأرض البذور فأنبتت براعم صغيرة أكلت وشربت وكبرت وصارت أشجارا أزهرت وأضفت على الجزيرة جمالا لم يوجد فى أى مكان .
تساقطت الأزهار وتركت وراءها ثمارا من كل صنف ولون. معلقة على أفرع الأشجار أو زاحفة على الأرض .. أعطت الثمار بذورا. حملتها النسمة الرقيقة ووزعتها على أرض الجزيرة .
دارت الحياة مرات ومرات.. أنبتت البذور أشجارا.. وأنبتت الأشجار زهورا عاشت حتى صارت ثمارا تحمل فى داخلها بذورا جديدة. وظلت الرياح تقوم بدورها حتى صارت الجزيرة غنية بخيرات لا تجد من يأكلها.
لم تصدق الطيور المهاجرة ما تراه أعينها من جمال صنعته الوان الأشجار والثمار والورود والزهور والأعشاب، إنتشروا فى فضاء الجزيرة وأرضها، حمدوا الله على ما خلقه لهم . إختار كل منهم المكان الذى يناسب حياته وأعلنه وطنا له ولزوجته وأولاده، وجعل له حدودا لا يستطيع أحد أن يتخطاها.. أو يعتدى عليها .. حتى لو كان من نفس فصيلته.
أطلقت الجزيرة نداءها الى كل الحيوانات والطيور آكلة الأعشاب، تدعوهم للحياة فوقها، وصلت دعوتها اليهم فى كل مكان. قرروا ان يهاجروا اليها، إجتمعوا فى قطعان وأسراب كثيرة، أخذوا جميعا طريقهم نحو الجزيرة، عبروا مساحات شاسعة من الصحارى والجبال، وواجهوا عواصف رعدية وأمطارا.. وإجتازوا محيطات وأنهارا، وفى النهاية حطوا على سواحل الجزيرة.
فرحت الجزيرة الفاتنة بطيورها وحيواناتها. فازدادت جمالا على جمالها وعاشت الطيور والحيوانات على أرضها وقد خشعت قلوبهم.. ولم يعرف الخوف طريقه اليها، يلتفون حول بعضهم فى حب ومودة وإخاء . ولم يحدث أن أطلق أى منهم صيحة غاضبة. ولم يرتفع صوت أى منهم الا بالغناء. وكل يوم يستقبلون وفودا جديدة.. يرحبون بهم.. يتركوهم يختارون أماكن إقامتهم، يساعدوهم فى بناء أعشاشهم.. ويحتفلون بانضمامهم الى الحياة فى وطن لا يعرف فيه الخوف طريقه اليهم.
(2)
استقرت الحياة على الجزيرة، كل قطيع من قطعان الحيوانات.. وكل عائلة من عائلات الطيور عرف أين يعيش ومن أين يجمع طعامه وأين يبيت لياليه.
لم ينس أى من الطيور والحيوانات أن يحكى لأبنائه عن وطنه وعن الإنسان الذى يعيش فيه، وصار كل جيل يحكى للقادم من بعده، فصار كل من يعيش على الجزيرة يعرف الإنسان بأنه ذلك المخلوق الذى يمشى منتصبا على ساقيه الخلفيتين ويستطيع أن ينصب شباكا وفخاخا ليسرق بها حرية الطيور والحيوانات، ومن لم يستطع أن يمسك به يقتله.. ولديه الوسائل الكثيرة التى يفعل بها ذلك.
وذات صباح.. مر مركب بحر كبير بالقرب من الجزيرة، حين رآها ملاح المركب صاح على كل من حوله وقال:
ـ إنظروا.. هذه جزيرة لم يطأها قدم بشر.
سأل واحد من مساعديه وقال:
ـ ربما سبقنا اليها أحد.
رد الملاح وقال مؤكدا:
ـ لم تبحر مركب بحر فى هذا الطريق من قبل.
قال هذا ثم استطرد قائلا:
ـ أرى أن ننزل اليها لنستريح قليلا ونحضر بعض من ثمارها طعاما لنا.
وافق الجميع على رأى الملاح، وكان من بينهم طفل رضيع ولدته أمه منذ أيام قليلة، وبدأوا يستعدون للنزول الى القوارب الصغيرة التى تنقلهم الى الجزيرة.
إنزعجت نخلة البلح العالية الواقفة على شاطئ الجزيرة حين رأت مركب البحر الكبير وهو يقف بالقرب منها، وأصابها الرعب وارتعد جذعها وسعفاتها وأطلقت صيحاتها تحذر الأشجار والطيور والحيوانات.
لم تستطع النخلة أن تمنع الرجال والنساء من الخروج من القوارب الخشبية الى أرض الجزيرة عند أقدامها.. فأطلقت صيحات تحذيرها مرة ثانية.
وصاح ملاح مركب البحر ينصح الرجال والنساء بألا يتفرقوا بعيدا عن بعضهم قائلا:
ـ لا تتفرقوا ولا تبتعدوا كثيرا عن الشاطئ فنحن لا نعرف ماذا يحيط بنا.
لم يستمع ركاب مركب البحر لنصيحة الملاح، ولم يستمعوا الى صيحات النخلة التى تحذر أشجار وطيور وحيوانات الجزيرة منهم، وربما كانوا قد سمعوها ولم يفهموها فقد فتنتهم الطبيعة بجمالها، وجعلتهم ينسون أنفسهم وراحوا يلهون ويلعبون ويجمعون الثمار. حتى أن الأم قد أراحت وليدها داخل خميلة شجرية وراحت تشاركهم ما يفعلون.
ولم يمض وقت ووصلت أصوات الحيوانات والطيور الغاضبة الى آذان الرجال والنساء.. لم يهتموا وواصلوا لهوهم ولعبهم وقد ظنوا أنهم يلهون مثلهم. ولم يعرفوا أنهم يستعدون للهجوم عليهم وطردهم من الجزيرة.
وصلت صيحات الطيور والحيوانات الى غزالة ذهبية اللون تحتضن وليدها تحت خميلة كثيفة من الأفرع والزهور، تركت وليدها فى الداخل وحرجت تستطلع الخبر. وحين عرفت ما يحدث نسيت وليدها وراحت تعاون الجميع فى طرد بنى الإنسان من وطنهم. ومنعه من إحتلاله.
فوجئ الرجال والنساء بصيحات الحيوانات والطيور الثائرة تقترب منهم، وانهالت عليهم الحجارة من كل مكان، أصابهم الذعر وأسرعوا بالفرار الى قواربهم الخشبية.
سمع وليد الغزالة أصواتا غريبة لم يسمعها من قبل، خرج من تجت الخميلة ووقف بجوارها يراقب الرجال والنساء وهم يهربون.. لم يشعر الا وقد خطفه واحد منهم وهبط به مع الرجال والنساء الى القوارب الخشبية الصغيرة التى أسرعت تبتعد بهم عن الجزيرة .
بعد أن صعدوا الى المركب الكبير، تذكرت المرأة وليدها. ظن الجميع أنها فقدته فى البحر أثناء هروبهم متزاحمين، وغادروا المكان وهم جميعا آسفون على فقدانهم الوليد.
(3)
إطمأنت الحيوانات والطيور على فراق مركب البحر بما يحمل من بنى الإنسان، وظلوا واقفين على الشاطئ يراقبونه، وحين غاب عن عيونهم، تأكدوا أن الخطر قد زال، وعادوا جميعا الى ما كانوا يفعلون.
عادت الغزالة الصفراء الذهبية الى خميلتها لترضع صغيرها، وحين دخلت اليه الخميلة لم تجده، ظنت أنه خرج ليلهو حول الخميلة، تشممت الهواء بحثا عنه، لم تجده.. خرجت مسرعة تبحث عنه. وقفت تنادى عليه بأعلى صوت لها. لم يأتها رده. وبرغم من أنها تعرف أنه لا يوجد فى الجزيرة من يأكله فقد أصابها الرعب لفقده، آلمها ضرعها المملوء باللبن يطلب من يمتصه، وراحت تصرخ عاليا.
وصل صوتها الى الطرف الآخر من الجزيرة حيث يعيش زوج من الخيول البيضاء، لا يعرفان أن هناك من يعيش على الجزيرة غيرهما.. أسرعا يستطلعان الخبر.
إجتمعت الحيوانات كلها ووقفوا حول الغزالة.. أما الطيور فمنها من حط على الأرض ومنها من وقف على أطراف فروع الشجر القريبة ، ومنها من ظل معلقا فى الهواء، وانضم اليهم زوج الخيول البيضاء. صاروا كلهم يتعجبون ويتساءلون..ويقولون:
ـ أين ذهب الصغير؟.
أسرعت الغزالة فى طرقات الغابة تبحث عن صغيرها، تنادى عليه بأعلى صوت لها.. ورفرفت الطيور فى الهواء وإنتشرت فى سماء الجزيرة تبحث عنه وهى تردد نداءها.. وأسرعت الحيوانات وانتشرت فى الممرات بين الأشجار تبحث فى كل مكان وتحت كل خميلة. بحثوا فى كل شبر فى الجزيرة وتأكدوا أن الصغير ليس موجودا.. عرف القلق طريقه الى قلوبهم لأول مرة منذ جاءوا الى الجزيرة، وكثرت التساؤلات فى عقولهم تقول:
ـ من الذى أخذ الصغير؟.
قالت نخلة البلح العالية فى حكمة:
ـ من يفعل ذلك غير الإنسان.
علقت قردة عجوز وقالت فى أسى:
ـ من يأخذه الإنسان لا يعود الى وطنه ثانية.
تأكدت كل الحيوانات والطيور أن الصغير لن يعود ثانية، عرف الحزن طريقه الى قلوبهم لأول مرة منذ عاشوا على الجزيرة، انسحبوا الواحد بعد الآخر من حول الغزالة، وقد زادت كراهيتهم للإنسان وبنى الإنسان.
ظل زوج الخيل الأبيض بالقرب من الغزالة، التى لم تصدق أنها فقدت وليدها، فاللبن فى ضرعها ما زال يناديه، قالت لها الفرسة البيضاء:
ـ إبحثى عنه ثانية ونحن معك.
راحت تجوب ممرات الجزيرة وهى تنادى وليدها حتى تعبت ولم تعد قادرة على السير. تمددت على الأرض لتستريح.. وتسمح لدموعها بأن تنساب على خدها حزنا على فراق الوليد. ووقف زوج الخيل بالقرب منها.
فجأة.. سمعت الغزالة صوت بكاء يأتيها من تحت خميلة كثيفة بالقرب منها.. كان الصوت ضعيفا.. ظنت أنه صوت صغيرها، أسرعت تزيح الأفرع برأسها وأطلت الى الداخل.
كان الذى وجدته الغزالة طفلا رضيعا.. إنزاحت عنه لفافته وصار عاريا، يرقد على ظهره باكيا، يضرب الهواء بذراعين وساقين ليس لهم حوافر مثل حوافرها، جسمه خال من الشعر وليس له أذنان مدببتان، صدمت لرؤيته.. فليس هذا صغيرها الذى فقدته. همت بالرجوع إلى الوراء. كاد اللبن الذى فى ضرعها أن يسيل من أثدائها. إقتربت من الرضيع فى حرص وحنان، تمددت بجواره.. جعلت ضرعها يلامس وجهه، كف الصغير عن البكاء، وبكفيه الصغيرين أمسك بثديها .. قربه من شفتيه. التقمه فى فمه وراح يرضع لبنها. شعرت بالسعادة والرضا وتركته ينتقل من ثدى الى ثدى، يمتص ما بهما من لبن حتى شبع وتراخى جسده ونام.
صار الطفل بديلا للغزالة عن صغيرها الذى فقدته. وصارت أما له لا يعرف لها بديلا. صارت الخميلة بيتا لهما. وانسحب زوج الخيول البيضاء مبتعدا وهو يصهل فى سعادة وقد ظن أن الغزالة قد وجدت وليدها الذى ضاع.
(4)
حين كان وليد الغزالة معها.. كانت تعرف كيف تربيه.. ومتى ترضعه ومتى تقوده الى الأشجار ليقطف الأعشاب والثمار، لكن هذا الرضيع لا تعرف كيف تتعامل معه، كل الذى تعلمته هو كيف ترضعه. فصارت تذهب اليه فى اليوم ثلاث مرات، ترضعه.. وتغطيه بأوراق الشجر وتتركه تحت الخميلة وتخرج.
لاحظت الحيوانات أن ضرع الغزالة دائما ممتلئ باللبن، تعجبوا.. كيف يفرز جسدها لبنا فى ضرعها دون أن يكون لديها وليد يرضعه.. قالت قردة عجوز فى حكمة:
ـ الأم التى لا تعطى لبنها تمرض. وهذه أراها فى صحة جيدة.
علق غراب وقال:
ـ بالتأكيد.. الغزالة عندها من يرضع لبنها.
تساءلت القردة العجوز بهدوء وقالت:
ـ من سيرضع لبنها وقد أخذ أصحاب مركب البحر صغيرها؟.
رفرف الهدهد مبتعدا وهو يقول:
ـ سآتيكم بخبرها.
بحث الهدهد عن الغزالة فى كل أرجاء الجزيرة، وجدها تقف على الشاطئ بالقرب من نخلة البلح العالية. لم يكلمها.. وقف على جريدة يراقبها وهى تنظر الى عمق المحيط، كما لو كانت تبحث عن وليدها الذى ضاع.. هم بالرجوع إلى القردة العجوز وصحبتها ليخبرهم بحالها. لكنه رآها وهى تستدير وتسير عائدة فى إتجاه الجزيرة، وقف ينظر الى أين تذهب، رآها وهى تدخل تحت الخميلة الكثيفة،حط فوقها.. نظر من بين الفروع الرفيعة المتشابكة، ضبطها وهى تتمدد بجوار رضيع يشبه الإنسان، وتناوله ثديها.. أسرع عائدا يزف الخبر للقردة العجوز ومن معها ويخبرهم بأن الغزالة ترضع إنسيا.
فوجئت القردة بالخبر.. قال الغراب متفاخرا:
ـ ألم أقل لكم أن هناك من يرضع لبنها.
إقترب لغراب من أذن القردة وهمس لها قائلا:
ـ هذا الوليد حين يكبر سيكون قادرا على فعل الشر.
صاح الحمار وقال:
ـ عليها أن تتخلص منه وترميه فى الماء كما راح إبنها فى الماء.
صاحت القردة فى الحمار والغراب، قائلة:
ـ ومن أدراكم أنه إنسى، ألا يمكن أن يكون الهدهد مخطئا؟.
حاول الهدهد أن يقسم على صحة قوله، أسكتته القردة بإشارة من يدها وقالت له:
ـ لا تقسم. ولكن عليك أن تذهب اليها وترجوها أن تأتى برضيعها الى هنا.
رفرف الهدهد فى الهواء وأخذ طريقه الى خميلة الغزالة فى الوقت الذى قالت فيه القردة للغراب:
ـ وأنت.. اطلب من كبير كل فصيلة طير أو حيوان أن يأتى لنقرر جميعا ماذا نفعل لو كان خبر الهدهد صحيحا.
إنطلق الغراب ينعق فى السماء يوجه دعوة القردة العجوز لكبار فصائل الطيور والحيوانات، ولم يكتف بالدعوة فقط بل راح يحكى حكاية الغزالة ورضيعها الإنسى. ويحث الجميع على رفضه بينهم والقائه فى الماء.
وصل صوت الغراب الى زوج الخيول البيضاء فى مرعاهما، شعرا بالسعادة لوجود واحد من بنى الإنسان على الجزيرة وراحا يشاركان فى إجتماع الطيور والحيوانات ليعلنوا حبهما وولاءهما له.
كان زوج الخيل الأبيض أول الواصلين الى حيث تجلس القردة العجوز، سألاها أين هذا الإنسان الذى نحبه ونعتبره سيدنا، أسكتتهما بنظرة غاضبة وراحت تهدئ من الذين جاءوا، ثائرون رافضون.. أن ترضع الغزالة، وليد إنسان وقالت لهم:
ـ إننتظروا حتى تأتى الغزالة وتتأكدوا أن من ترضعه ليس وليدها .
(5)
وصل الهدهد الى خميلة الغزالة.. حط عليها، نادى الغزالة من فوقها، خرجت اليه، أخبرها بأن القردة العجوز تريد أن تراها هى والصغير، احتارت الغزالة فماذا تريد القردة من الرضيع.. وكيف ستنقله إلى هناك. كانت تعرف كيف تنقل وليدها من مكان الى آخر لكن هذا.. كيف ستنقله، نظرت اليه داخل الخميلة. وقع نظرها على الأعشاب والأوراق التى فرشتها له وجاءها الحل.
أسرعت تقضم بعض الأفرع الصغيرة والطويلة من هنا وهناك، أحضرتها الى جوار الخميلة.. تركتها وراحت تقضم أفرعا أصغر منها، صنعت الغزالة من الأفرع الطويلة والصغيرة زحافة تنقل عليها الصغير ووقفت حائرة مرة ثانية فكيف ستنقله من داخل الخميلة الى الزحافة؟.
سمعت نعيق الغراب وهو يفضح أمرها فى الغابة، خافت على رضيعها، أسرعت بالدخول الى الخميلة. مررت ساقيها الأماميتين خلف ظهره واحتضنته فى صدرها، سالت دموع عينيها على صدغيها، لامست أصابع الوليد شفتيها، راحت تقبلها فى حنان.
أتاها صوت الهدهد من الخارج يتعجل الرحيل،خرجت بالرضيع وهى تحتضنه.. أراحته على الزحافة.. فى صمت رفرف الهدهد أمامها يقودها فى الطريق الى حيث مجلس الحيوانات والطيور. علقت مقودها فى رقبتها، وسارت خلفه وهى تجر الزحافة ودموعها تتساقط على التراب.
حين رفرف الهدهد بين المجلس صاعدا للوقوف على طرف أحد الفروع، إتجهت أنظار الجميع الى الغزالة وهى تجر زحافة الرضيع حتى تركتها فى وسط الساحة بين الجميع.
أسرع زوج الخيل الأبيض يحمحم حوله، يتلمسان جسده بشفاهما ووقفا بالقرب منه فى تحد وكبرياء . وأمامهما وقفت الغزالة ووجهها غارقا فى الدموع.
تأكد الجميع أن من ترضعه الغزالة من بنى الإنسان، إرتفعت صيحاتهم تلومها وتعاتبها على إرضاع وليد الإنسان. قفز الغراب فى الهواء وراح يجوب الفضاء فوق رءوس كل الموجودين ويقول:
ـ كان جدى الأكبر شاهدا على أول جريمة قتل يفعلها الإنسان، كان أول من رأى الدم يسيل على الأرض وأول من علمه. لا نريد شريرا فى وطننا.
إمتدت رقبة ناقة فى لون الجبل وقالت الرأس التى تحملها:
ـ حكوا كثيرا عن ناقة من جنسى كانت تطعم قرية بأكملها من لبنها ومع ذلك غدر بها إنسان شرير.
تقدمت بقرة صفراء تتبختر وسط الساحة وقالت:
ـ وبلغنى أيضا أن ما حدث للناقة حدث لجدتى.
إرتفعت الأصوات من كل مكان تطلب من الغزالة أن تترك لهم الرضيع ليقذفوا به فى الماء أو تفعل ذلك بنفسها،لكن القردة العجوز أسكتتهم قائلة:
ـ لابد أن تستمعوا اليها أولا قبل أن تحكموا عليها.
وجهت الغزالة حديثها الى كل الحيوانات والطيور وقالت:
ـ لا تلومونى. حين وجدت الرضيع كدت أن أتركه. لكن ضرعى رفض، وحين رقدت بجواره لأطعمه، تدفق اللبن منى إليه.
صاح حمار وحشى وقال:
ـ ترضعين ابن الإنسان وأنت منا.
ردت الغزالة فى هدوء وقالت:
ـ ومن أدراك أنه سيصير شريرا مثلهم. سيعيش بيننا.. نعلمه جميعا كيف يكون محبا.. متسامحا.. راضيا، ويكون مثلنا.
صمتت الغزالة قليلا وقالت:
ـ أرجوكم دعونى أتخذ منه ولدا.
تأثرت الحيوانات والطيور بحديث الغزالة.. وافقوا جميعا على أن ترضع الغزالة ابن الإنسان بشرط أن يعيش حياتهم ويتعلم لغتهم ليصير مثلهم.
(6)
مرت عدة شهور والرضيع الإنسى فى بيته الشجرى.. عرفت الغزالة منذ البداية أنه ليس مثل ولدها.. ولن يقف على قوائمه الأربعة، ويسرع خلفها فصارت ترضعه لبنها وتتركه لتقتات طعامها ثم تعود اليه.
وذات مساء.. حين جاءت الى الخميلة وجدت وقد حبا على قوائمه الأربعة حتى صار خارجا وجلس فى أنتظار. دفعته برأسها برفق حتى يعود الى الداخل فأطاع واستدار عائدا.. دخلت قبله فدخل خلفها. وجدها ممددة على الأرض فالتقم ثديها. وهى تقول له محذرة:
ـ لا تخرج وحيدا مرة ثانية.. ستخرج معى من الغد .
ولما جاء الصباح.. أرضعت الغزالة صغيرها وقالت له:
ـ هيا بنا.
خرجت الغزالة من الخميلة ، خرج الرضيع يحبو خلفها، سارت به فى طرقات الجزيرة لترى عينيه الوان الورود والزهور والأشجار والثمار، رأته حيوانات وطيور الجزيرة وهو يمش على أربعة مثلهم.. تمنوا أن يظل كذلك، التفوا حوله يتشممون رائحته.. حين وجدوه لا يحمل رائحة البشر، التى عرفوا فيها الشر فى أوطانهم القديمة. إطمأنوا له ورحبوا به .
عاش الرضيع بين الطيور والحيوانات آمنا، تراقبه حين يحبو خارج الخميلة.. تظلله حين تكون أشعة الشمس حامية، تدفئه حين تغيب.. وتطعمه من ثمار الجزيرة النضرة الشهية.. وهى تغنى له أغنياتها، وحين يريد أن يرتوى.. يسرع الى ثدى الغزالة يلقمه فى فمه، يروى عطشه من لبنها ثم يعود ليلهو ثانية.
وبرغم من أن الطيور والحيوانات تعرف أن الرضيع ليس منهم.. فقد صاروا جميعا آباء وأمهات له.. يهتمون بطعامه وشرابه، كل منهم يلعب معه ويغنى له حتى يعلمه، بدأت حروف كلامهم جميعا تدخل الى عقله يحفظها ويحاول تقليدها. وكم كانوا سعداء حين يرونه يصير مثلهم.. يأكل طعامهم، ويتكلم لغتهم، ويغنى أغنياتهم.
ومر الوقت على الصغير بين طيور وحيوانات الجزيرة وكبر، وبدون أن يعلمه أحد .. صار قادرا على أن يشب على قدميه، وصار قادرا على التشبث بأى شئ أمامه والوقوف قائما على ساقيه.. يسير بضعة خطوات وهو مستند اليه.
حين رأى زوج الخيل الأبيض الرضيع وهو يحاول أن يتعلم المشى على ساقيه. فرحابه.. وقال الزوج لزوجته:
ـ السيد القادم للجزيرة ينمو بشكل جيد،
وحين رأته حيوانات الجزيرة أصابها الذعر واجتمعت حول بعضها.. قالت واحدة منها:
ـ سيعود إنسيا كما جاء.
قالت القردة العجوز تهدئ الجمع :
ـ أنا أيضا أستطيع السير على قدمين. ليس سيره منتصبا على قدميه الخلفيتين دليلا على أنه صار إنسيا. المهم.. ماذا يقول وماذا يفعل.
صمتت قليلا وقالت:
ـ سأثبت لكم أنه ما زال منا.
أمرت القردة أن يحضروا الببغاء العجوز .. فهو الوحيد الذى يعرف كيف يقلد كلام الإنسان. أسرع الهدهد اليه، عاد بعد قليل وهو يقوده الطريق، وحين استقر بالقرب منهم وعرف ما يريدون، صمت يبحث فى ذاكرته يستعيد كلام الإنسان.. وأخيرا نطق ببعض من كلمات الإنسان .. وقلد بعض من أصواتهم. وانتظر الجميع رد فعل الرضيع.
لم يتأثر الإنسى بما سمع من تقليد الببغاء لكلام البشر، لكنه هلل وانطلق نحو الغزالة فاتحا ذراعيه لها حين سمع صوتها يقول صائحا:
ـ هذا ولدى الذى ربيته.
هدأت نفوس الطيور والحيوانات، تأكدوا أن الرضيع لا يعرف عن إنسانيته شيئا.. عادوا جميعا يعتبروه إبنا لهم.. وعادوا للعب معه والغناء له حتى يتعلم كلامهم ليصير منهم . لكن زوج الخيل الأبيض كان له رأى آخر، فالرضيع لابد أن يكتشف آدميته وحده فى يوم من الأيام وهما فى إنتظار.
(7)
كبر الرضيع وصار يمشى على قدميه، يسير فى طرقات الجزيرة يداعب كل طيورها وحيواناتها.. وهى تتقبله، وترعاه.. وتقدم له الفاكهة والثمار، وهو يغنى مع كل منهم بلغته التى تعلمها منه، وحين يظمأ.. يسرع الى الغزالة فى مرعاها، يركع على ركبتيه بين قوائمها.. يلتقم ثديها ويمتص ما به من لبن.. ثم يسرع عائدا الى لهوه. ومع مرور الوقت.. بدأ اللبن يقل فى ضرع الغزالة.
أدركت الغزالة أنه صار لزاما عليها أن تمنع رضيعها من مص ثدييها، وصار عليه أن يطعم نفسه، كفت عن ارضاعه وراحت تزيحه بعيدا كلما جاء يطلب ثديها.
إضطر الصبى أن يعتمد على نفسه، صار يصاحب قطيع الغزلان حين يذهب الى المراعى، وحين يقطف براعم الأشجار التى فى متناول أفواههم. كانوا يتعجبون حين يروه يقطفها بيديه، وحين يتسلق الأشجار العالية مثل القرود يقطف ثمارها ويقذف بها اليهم.
ارتفعت قامة الرضيع وصار صبيا.. وصار له من الحيوانات فى مثل سنه أصدقاء.. يلهون معا.. ويجنون الثمار معا.. وحين يأتى الليل يلتصقون ببعضهم ويبيتون معا. لكنه أبدا لم ينس أمه التى أرضعته، ودائما ما كان يقطف لها الثمار والخضروات ويذهب بها الى خميلتها الشجرية يضعها هناك ويعود الى أصحابه.
وذات يوم.. لاحظ الصبى أن الغزلان الذين فى مثل عمره قد نبت لهم قرون فى رأسهم، تعجب.. أسرع الى أمه يسألها، لم يجدها فى الخميلة، بحث عنها فى كل مكان اعتادت ان تذهب اليه لترعى طعامها.. تعلق بفروع الشجر وانتقل من شجرة الى شجرة.. قفز من فوق الصخور بمهارة الغزلان.. أسرع فى الطرقات مثل النعامة.. وفى النهاية وجدها عند أطراف الجزيرة تنظر الى عمق المحيط. وقف بالقرب منها.. وبلغتها ناداها بحب وقال:
ـ أمى .
إنتبهت الغزالة الى صوت رضيعها فالتفتت اليه وقالت له:
ـ مرحبا يا ولدى.
عادت برأسها ناحية المحيط .. لكنها ردت عيناها اليه وسألته قائلة:
ـ ماذا بك.
رد متسائلا وقال:
ـ لماذا لم ينبت فى رأسى قرنان مثل أخوتى الغزلان الصغيرة؟.
احتارت الغزالة ماذا تقول.. صمتت قليلا تفكر فى رد يجعله لا يسأل كثيرا حتى لا تخطئ وتخبره بأنه من بنى الإنسان .. وأخيرا هداها تفكيرها الى الرد فقالت له فى حسم:
ـ أنت من فصيلة مختلفة. لن ينبت لك قرون.
عادت الغزالة الى النظر نحو المحيط.. تركها الصبى وعاد صامتا الى طرقات الجزيرة وعقله يفكر فى تلك الفصيلة المختلفة، التى هو منها ولماذا لا يوجد على الجزيرة أحد سواه. وراح يتساءل عن سبب وجوده هو بين فصائل مختلفة عنه.ولم يشعر الصبى بأن زوج الخيل الأبيض يراقبه، يسيران خلفه فى هدوء، عرفا أنه يفكر فى حاله.. قالت الزوجة:
ـ الصبى فى حاجة الينا.
رد الزوج قائلا:
ـ لا.. دعيه يكتشف بنفسه أن له عقلا يفكر.
علقت الزوجة قائلة لنفسها:
ـ سيأخذ وقتا طويلا حتى يكتشف ذلك.
مشى الزوج وهو يقول: ذلك أنفع له.
ودعت الشمس الصبى وزوج الخيول البيضاء،وسحبت ضوءها وراحت الى بعيد، صار عليه أن يذهب الى حيث يبيت قطيع الغزلان، بحث عنهم حتى وجدهم قد تجمعوا فى دائرة والتصقوا ببعضهم وتكوروا على أنفسهم استعدادا للنوم. إندس فى وسطهم.. بحث عن الدفء فى أجسادهم وترك عقله يفكر فيما يشاء حتى غلبه النوم. وراح الزوجان أيضا الى حيث ينامان.
(8)
حين صحا الصبى فى الصباح، كانت كلمات الغزالة ما زالت تدور فى أذنيه، وما زال عقله يتساءل.. لماذا هو من فصيلة مختلفة.. ولماذا هى وبقية أصحابه من الحيوانات مهيأون للمبيت فى العراء وهو غير مهيأ لذلك؟.
أسرعت كل الغزلان الى الأشجار تقطف ثمارها.. وإلى الخضروات تقطف براعمها ولم يسرع الصبى وسطهم كما إعتادوا، تباطأ عدد منهم حتى يلحق بهم.. صاحوا عليه أن يسرع فى مشيته فلم يجبهم.. تركوه وراحوا.
كان الصبى يتأمل حاله وحالهم.. إكتشف أن أجسادهم مغطاة بشعر كثيف يحميهم من البرد، بينما جسده أملس لا شعر فيه يحميه لذلك يقرصه البرد ليلا حين ينام. قرر أن يعتزل مبيتهم ويبحث لنفسه عن مكان دافئ يبيت فيه.
أسرع بعد ذلك حتى لحق بأصحابه. تعجب من تلك السرعة التى صار عليها حين أزاح من عقله هما كان يشغله، إنضم اليهم وهم يأكلون.. وحين شبعوا وتمددوا تحت الأشجار يجترون ما أكلوه ليعيدوا مضغه ناعما كما يفعلون. ولأنه لا يفعل مثلهم، تركهم وراح يبحث عن المكان الذى يريد.
مر الصبى على كثير من الخمائل الكثيفة. يقف أمام الواحدة منها، يهم باختيارها لتكون بيتا له.. لكن عقله كان يرفضها، يذكره بطفولته حيث جرب المبيت فيها وكيف كان البرد يقرص جلده، لولا أن أمه كانت تغطيه بأوراق الشجر.
رفض عقل الصبى أن يتخذ من أى خميلة شجرية بيتا له، واصل بحثه فى الجزيرة، وجد تجويفا كبيرا فى جذع شجرة.. أراد أن يجرب المبيت فيه. احتوته الشجرة واقفا، ارتاح للدفء الذى أحاطته به.. رفض عقله الموافقة على أن يكون هذا مكان مبيته وقال له:
ـ لا أحد ينام واقفا.
خرج من تجويف الشجرة. واصل بحثه عن مكان آخر يقبله عقله. وقبل حلول المساء، وصل الى ربوة حجرية عالية، تطل على واد أخضر فسيح.. يتوسطه شجرة وحيدة.
وقف ينظر الى اللون الأخضر الذى يفرش الأرض،إرتاحت عيناه وشعر بالراحة والهدوء يتسللان الى نفسه،أدار رأسه يستطلع المكان، رأى فتحة كهف مرتفعة عن الأرض، بالقرب منها عش الهدهد ومن فوقه عش البومة العجوز. تسلق الربوة صاعدا الى أعلى.
لم يكن الهدهد موجودا، وكانت البومة نائمة، تسلل بهدوء ودخل الكهف.. شعر بالدفء بمجرد الدخول اليه. قبل عقله المكان وأمره أن ينظفه من الحجارة والتراب ، وقبل أن تظلم الدنيا كان الكهف نظيفا فتمدد لينام، ولأول مرة يشعر بالدفء يحيط به، لولا ريح باردة كانت تدخل اليه من فتحة الكهف. لكنه بالقطع كان أفضل كثيرا من المبيت فى العراء، قال له عقله:
ـ فى الليلة القادمة عليك أن تسد هذه الفتحة بالأعشاب قبل أن تنام.
رفض النوم أن يأتى الى عينى الصبى فقد كان يفكر فى أمه التى أرضعته. ورفض عقله أن يتركها تبيت فى العراء. هب واقفا.. اسرع خارجا يبحث عنها حتى وجدها، أخبرها بنبأ بيته الجديد وطلب منها أن تنتقل للعيش معه، قالت له:
ـ يا ولدى، أنا مهيأة للعيش فى العراء.
وتذكرت أنه فى الأصل من بنى الإنسان .. فقالت له:
ـ يكون الكهف بيتك يا ولدى.
حاول الصبى أن يقنع أمه بالذهاب معه الى بيته لكنها أصرت على على البقاء فى العراء مع صاحباتها. أقنعته بأنها لا تشعر بالبرد ليلا مثلما يشعر به. أكدت له أن فصيلته فقط هى التى تشعر بالبرد.. تمسحت فيه براسها بحنان وقالت:
ـ إذهب يا ولدى وعش حياتك كما تراها. إذهب.
ودع الصبى أمه وأسرع ليحتمى بكهفه من البرد . وفى الطريق بحث عن كومة من الأعشاب الجافة حتى وجدها، سد بها فتحة الكهف ونام .
(9)
صار للصبى بيتا، يسد فتحته بكومة من الأعشاب ويبيت فيه .. وفى الصباح يسرع الى أصحابه يصاحبهم فى رحلة جنى ثمار طعام الإفطار.. ويشاركهم فى لهوهم ولعبهم طوال اليوم..يتقافز مع القردة على أفرع الشجر ويجنى الثمار العالية يقذف بها لأصحابه.. يتسابق مع ذكور الغزلان فى السهول.. يتسلق رقبة زرافة عالية. يقفز على ظهر فيلة يبحث لها عن إبنتها التى شردت بعيدا ولا تراها لضعف ابصارها ويحضرها لها.
زاد حب الطيور والحيوانات للصبى،فيما عدا تيس كبير رأى فيه منافسا له فى قيادة القطيع، فلم يحبه. وذات يوم .. كان مع أصحابه الغزلان يتناولون طعام غذائهم، وكان الطعام نبتات خضراء يانعة طرية، تاقت نفسه لإحدى النبتات، مد يده اليها وقبل أن يقتلعها كانت قواطع التيس تمتد اليها ولولا أن سحب يده لكان قضمها.
حاول الصبى أن يزيح التيس بعيدا حتى لا يأكل مما أمامه، لكن التيس وجه اليه قرونه، قفز مبتعدا قبل أن تخترق القرون عظام صدره، عاد ليصارع التيس، احتال عليه حتى أمسك به من رقبته، حاول أن يوقعه أرضا لكن التيس إعتمد على قرونه ولم يقع، وتغلب عليه وأوقعه هو.
انسحب الصبى بعيدا كعادة المغلوب فى عالم التيوس. وأخذ طريقه الى كهفه وهو حزين لهزيمته وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه.
فى الطريق.. داست قدمه على شوكة دون أن يدرى.. آلمته كثيرا، إنتزعها وواصل سيره، فى الطريق جمع عددا من الثمار والفاكهة.. حملها بين ذراعيه.. قال له عقله:
ـ هذه واحد أخرى من الفروق التى بينك وبينهم.. أنت تستطيع حمل الأشياء بينما هم لا يستطيعون.
دخل الى كهفه، وضع ما معه من طعام بجواره. جلس وحيدا يفكر فيما جرى، وكيف حدث، أدرك أن قرون التيس هى السبب فى هزيمته، لكن ماذا يفعل هو ولن تنبت له قرون لأنه من فصيلة مختلفة كما قالت له أمه. قال له عقله:
ـ أنت تملك يديك وتستطيع أن تستخدمها بينما هم لا يستطيعون.
وقالت له نفسه:
ـ طالما لن تنبت لك قرون فاصنعها بيدك. واجعلها أطول من قرونهم، فى هذا العالم السيد هو القوى. لابد أن تكون قويا .
بدأ عقله يفكر فى شئ يعوضه عن القرون ويستطيع أن يدافع به يدافع به عن نفسه وعن طعامه. فجأة تذكر أنه لم يأكل حتى يشبع، هم بالوقوف ليحضر ما جاء به من ثمار، شعر بألم شديد فى قدمه بمجرد أن تحمل وزن جسده، تذكر الشوكة التى إنغرست فيه منذ قلبل. قال له عقله:
ـ لماذا لا تصنع واحدة مثلها تدافع بها عن نفسك؟.
أعجب الصبى بالفكرة.. أسرع خارجا من الكهف. نسى آلام قدمه وراح يجرى ويدور فى الجزيرة يبحث عن شجرة ذات أشواك حتى وجدها.. وقف أمامها، أخذ منها واحدة.. أمسكها بين أصابعه.. راح يتفحصها جيدا. تساءل عقله وقال:
ـ هل تصلح هذه للدفاع عن نفسه ضد التيوس ذوات القرون؟.
أدرك عقله أن الشوكة قصيرة جدا.. وهو يريد أن يزيح التيوس بعيدا حتى لا تمسه أطراف قرونها، قال له عقله:
ـ لتصنع مثلها ولتكن أطول من قرون التيس.
قذف بالشوكة بعيدا.. بحث عن فرع شجرة فى حجم قبضة يده.. مستقيما وطويلا كما تمناه، وحين وجده أخذ منه قطعة على قدر طوله.. ثم راح يتساءل ويقول لنفسه:
ـ كيف سيجعل لها سنا مدببا يؤلم عدوه،كما آلمته شوكة الشجرة.
هداه عقله للحل بحث عن قطعة من الصخر ذات حافة مشطوفة.. عاد بهما الى كهفه.جلس أمامه.. راح يبرى طرف الفرع بقطعة الصخر.. وحين خلص من إعدادها.. أمسكها فى يده، لوح بها فى الهواء.. شعر أنه صار أقوى مما كان، دخل الى الكهف.. أغلق عليه بابه بحزمة الأعشاب ونام.
(10)
حين أشرقت شمس الصباح، تسلل ضوؤها من بين الأفرع الرفيعة التى تسد باب الكهف الى الداخل، وقع الضوء على عينى الصبى النائم.. صحا. جلس فاردا ساقيه، أمسك بشوكته الطويلة.. إعتمد عليها وهب واقفا.. أزاح بها حزمة الأعشاب التى تغلق باب الكهف.. تدحرجت مبتعدة واندفع الضوء ينير المكان.
قفز الصبى خارجا.. أخذ شوكته وأسرع الى المراعى، بحث عن الغزلان والتيوس ليتناول طعام إفطاره معهم. فى الطريق إكتشف استخداما جديدا لشوكته الخشبية.. فكان يضع طرفها فى الأرض ويعتمد عليها ويقفز عاليا فى الهواء ويحط بعيدا. صارت خطواته واسعة. لم يجد أصحابه فى المراعى.. قال عقله لنفسه:
ـ ربما ذهبوا ليأكلوا من ثمار الأشجار وبراعمها القريبة من الأرض.
راح يبحث عنهم .. وحين وجدهم إندس وسطهم. وبيد واحدة.. بدأ يقطف ما يشاء، وبالأخرى يمسك قرنه الخشبى الكبير، يتحدى به من يزاحمه من الصحاب.
لم يفهم التيوس أصحاب القرون، أن عقل الصبى بدأ يصحو ويفكر وأنه صار يمتلك قوة لا يملكوها. زاحمه كبير التيوس بقرونه وحاول أن يزيحه بعيدا عن الثمار طمعا فى أن يأكلها هو، قفز الصبى فى الهواء ممسكا بشوكته وأخذ وقفة الدفاع عن النفس.
كف الجميع عن تناول طعامهم، عرفوا أن شجارا سيقع بين الصبى وكبير التيوس، إنسحبت الغزلان ووقفت تتفرج من بعيد.
حط على فروع الأشجار المحيطة بالمرعى عدد كبير من الطيور، طار الغراب ينشر خبر شجار الصبى مع التيس، سمعت الغزالة بالخبر فأسرعت تشق الهواء لإنقاذ رضيعها من قرون التيس، وسمع زوج الخيول البيضاء بالخبر فقفزا فوق كل الحواجز، ووصلا قبل الغزالة، قالت الزوجة:
ـ سوف يتغلب العقل على القوة.
علق الزوج وقال:
ـ هذا صحيح لو كان عقله هو الذى سيقوده .
ظل الصبى واقفا فى وضع الدفاع عن النفس ممسكا بشوكته، طرفها المدبب ناحية التيس.. تشجع وراح يتقدم مهاجما للتيس، يهدده إذا إقترب منه سيغرس قرنه الخشبى فى صدره. تراجع التيس الى الوراء، راح يستعد للهجوم على الصبى . وإستعد الصبى للهجوم عليه، راح كل منهما يتقدم تجاه الآخر متحفزا لان يغرس قرنه فى الآخر، أتاهما صوت الغزالة أم الصبى وهى تأتى مسرعة وتصيح قائلة:
ـ لا يا ولدى.
أجاب الصبى على أمه وهو على نفس حاله وقال لها:
ـ أزاحنى بعيدا عن الطعام الذى ارادته نفسى وأخذه لنفسه.
نظر كبير التيوس الى الغزالة وقال لها:
ـ قد حذرناك من البداية.
صاح الصبى فى التيس وقال:
ـ تظن نفسك قويا بقرونك و حوافرك، وصرت تمنعنى عن الثمار، هيا قاتلنى. لنرى الآن من منا الأكثر قوة.
لم يرض كبير التيوس أن يهدده صبى أرضعته واحدة من غزلانه، تراجع للوراء.. ضرب الأرض بقوائمه الرفيعة ذات الحوافر المشقوقة.. أسرع لمهاجمة الصبى وأطراف قرونه المدببة تسبقه.
إقترب التيس من الصبى مسرعا.. حبست الغزالة الأم أنفاسها.. تنفست الصعداء حين غرس الصبى طرف شوكته فى الأرض واعتمد عليها وقفز فى الهواء ومر من فوق التيس وحط خلفه. قال الفرس الأبيض لزوجته:
ـ سينتصر الصبى .
عاد التيس للهجوم ثانية.. إندفع نحو الصبى، لم يتحرك الصبى من مكانه.. وجه شوكته الطويلة ذات السن المدبب ناحية صدر التيس،أدرك التيس أن قرن الصبى أطول من قرونه.. توقف قبل أن تنغرس الشوكة فى صدره وإنسحب. وانسحب زوج الخيول البيضاء وهما مطمئنان على الصبى.
(11)
رفرفت الطيور وإنتشرت فى سماء الجزيرة تعلن خبر إنتصار الصبى على التيس الكبير، تجمعت كل مجموعة من مجموعات الطيور والحيوانات حول كبيرها، من التفت حول بعضها فى السهول، ومن وقفت فوق أفرع الأشجار. وقضوا جميعا نهارهم وهم يتعجبون لفوز الصبى الصغير.. على التيس الكبير، صاحب القرون المتشعبة، والذى لم يستطع أحد أن يهزمه من قبل. وكلهم وصلوا الى قرار واحد،وقالوا:
ـ قد صار الصبى خطرا علينا ومنذ الآن لابد أن نأخذ حذرنا منه.
ارادت الغزالة أن تدافع عن رضيعها، حاولت أن تقنع الجميع بأن التيس هو الذى أجبره على الشجار .. لم يسمع اليها أحد، إنسحبت فى هدوء وراحت تبحث عنه.
كان الصبى يجلس فى كهفه حزينا.. يعاتب نفسه، لم يكن أبدا يريد أن يتشاجر مع أحد .. قال له عقله:
ـ لماذا تقسو على نفسك هكذا.. أنت فعلت ما يفعلوه. القوة هى السيد هنا. ألم تلاحظ أن كل قطيع يتبع سيده القوى. أنت نفسك كنت تتبع هذا التيس.. أليس كذلك؟.
وبينما هو مستغرق فى تفكير عميق.. إذا بأمه التى أرضعته قادمة اليه.. جلست بجواره، تمسحت برأسها فى جسده العارى، أخذها فى حضنه وهو يقول:
ـ لم أكن أريد ابدا أن أتشاجر مع التيس الكبير.
ردت الأم قائلة:
ـ فعلت ما يفعله كل الذكور يا ولدى. يتشاجرون دائما ثم بتصالحون.
هدأ الصبى.. لم يعد يؤنب نفسه أو يلومها فقد فعل ما يفعلون. لكنه تذكر قولها له أنه من فصيلة مختلفة عن كل الفصائل فسألها قائلا:
ـ هل صحيح أننى من فصيلة مختلفة عن كل الفصائل التى هنا؟.
أجابت الأم قائلة:
ـ نعم يا ولدى. أنت من فصيلة مختلفة، وكل الفصائل التى تعيش هنا تعرف ذلك. لكنهم جميعا يحبوك ويعتبروك واحدا منهم.
قال الصبى فى هدوء:
ـ وأنا أيضا أحبهم .
أراد الصبى ألا يفكر فى شئ، أراح رأسه على رأس أمه وأغمض عينيه. وحين فتحها وجد نفسه ممدد على الأرض وحيدا وقد مر أكثر من نصف النهار، أدرك أنه نام وأراحته أمه على الأرض وراحت لحالها، لكن ذهنه كان صافيا.. لم يكن فى نفسه أية كراهية للتيس الكبير الذى أصر على الشجار معه. فقرر أن يذهب اليه ليتصالح معه.
قفز الى الوادى المتسع أمام الكهف. وحين وصل الى الشجرة التى فى منتصف الوادى أدرك أن حربته الخشبية ليست فى يده، توقف. قال له عقله:
ـ نسيت مصدر قوتك.
عاد الى الكهف وأحضر حربته الخشبية ذات السن المدبب، أمسك بها فى يده وهم بالقفز الى الوادى كما فعل من قبل، وجد نفسه يسير فى هدوء وكبرياء والعصا فى يده.
واصل الصبى سيره، فى طريقه.. لاحظ أن بعض الحيوانات الصغيرة بدأت تخاف منه، وحين يحاول أن يلهو معها تفر من أمامه وتهرب بعيدا، أما الحيوانات الكبيرة فقد كانت تنظر اليه فى خوف ولا تقترب منه، حتى الطيور التى كانت ترفرف بالقرب من رأسه هربت ووقفت على أطراف الفروع تراقبه.. أدرك الصبى أن العصا هى التى جعلتهم يخشونه .. فسار وهو يلوح بها فى الهواء.
رآه زوج الخيل الأبيض وهو على هذا الحال، قالت الزوجة:
ـ قد بدأ الصبى يشعر بقوتة وتميزه.
أجاب زوجها وقال:
ـ سنرى ماذا سيفعل بعد أن جعلته العصا وحيدا، ولم يعد أحد يلعب أو يلهو معه.. ولن يقترب منه سوى أمه التى أرضعته.
(12)
مرت أيام الصبى على الجزيرة وصارت شهورا.. والشهور أكملت سنوات وصار الصبى فتى. وأدرك أنه يملك عقلا يفكر وهم لا يملكون. قرر أن يستخدم عقله هذا ليصبح سيد هذه الجزيرة حتى يعيش عليها فى سلام.
وذات يوم وذات يوم كان جالسا أمام كهفه يهذب عصا جديدة.. طويلة وقوية، رفع عينيه الى الفضاء الأخضر الذى أمامه ليريح عينيه، رأى زوج الخيل الأبيض هناك عند الشجرة التى تتوسط الوادى. ترك ما فى يده وأسرع يقفز كالغزلان ناحيتهما. وفى لحظات كانا قد إختفيا من أمام عينيه وكمنا فى مكان يراقبان ما سيفعل. قالت الزوجة:
ـ قد صار الصبى فتى.
رد الزوج وقال:
ـ سيبدأ فى معرفة متعة التفكير والإكتشاف.
عاد الفتى الى ما كان يفعله، جلس أمام فتحة كهفه يسوى حربته الكبيرة، وبعد قليل مر أمامه قطيع من الماعز .. لا يدرى لماذا نظر اليهم .. ولا يدرى ما الذى جعله ينظر الى مؤخراتهم، كان لكل منهم ذيلا يخفى عورته.. نظر الى نفسه.. عار كما ولدته أمه، قال له عقله:
ـ لا يجب أن تظل هكذا وأنت سيد الجزيرة.
شعر بالخجل من نفسه، لأول مرة يشعر بالخجل حين رأى نفسه عاريا.. أمره عقله وقال له:
ـ يجب أن تستر عورتك .
أخذ العصا فى يده.. راح يطوف فى كل الطرقات بحثا عن شئ يلفه حول وسطه، مر على شجرة موز دون أن يلفت نظره طول ورقها. قرأت الشجرة ما يدور فى عقله فنادته قائلة:
ـ أنت أيها السيد المتعجل دائما.
وقف.
قالت له:
ـ خذ ورقة من ورقى.
أخذ الفتى ورقة من أوراق شجرة الموز، لفها حول وسطه. شعر بالرضا، فرد ذراعيه ودار فى الهواء فرحا.. سقطت ورقة الموز على الأرض.. أسرع ولفها ثانية فى مكانها. ظل ممسكا بها بيده، سار وهو يفكر فى طريقة تثبتها حول جسده ولا تقع ثانية.
قال له عقله:
ـ إبحث عن شجرة لها لحاء تقشره وتصنع منه رباطا.
أطاع الفتى عقله.. دار فى الجزير كلها ولم يهتد الى الشجرة المطلوبة.. وصل الى الشاطئ.. وقف شاردا ينظر الى الفضاء الذى ليس له نهاية أمام عينيه. قالت له النخلة:
ـ الحل تحت قدميك.
نظر الى الأرض حيث يقف، كانت عدة سعفات قد سقطت من النخلة، جلس بالقرب منها يفكر كيف يصنع منها شريطا يلفه فوق ورقة الموز حول وسطه حتى لا تسقط وتجعله يخجل من نفسه ثانية.. إنزلقت ورقة الموز من حول جسده واستقرت على الأرض. عاد عاريا كما كان.خجل من نفسه.. تعجب. كيف عرف الخجل ولم يكن يعرفه من قبل. قال له عقله:
ـ كنت جاهلا.. والآن قد عرفت.
أحضر ورقة الموز ووضعها على فخذيه.. عاد ينظر الى أوراق سعفة النخلة ، عقله يفكر ماذا يمكن أن تقدمه له هذه الأوراق الشريطية الطويلة، لفت نظره أنها متراصة بجوار بعضها، قال له عقله :
ـ لو تداخلت هذه الأوراق طولا وعرضا لصنعت شريطا لاينحل .
راح يقشر خوص السعفة من جريدها.. نسج منها شريطا طويلا يكفى لأن يدور حول وسطه، أمسكه من طرفيه وإختبر تماسكه، شدت الوحدات على بعضها ولم تنحل، وقف على ركبتيه. أحاط وسطه بورقة الموز .. ثبتها بشريط الخوص الذى صنعه.. وقف يختبرها فلم تسقط، تراقص حول النخلة فظلت الورقة فى مكانها، إطمأن على أنه لن يخجل من نفسه ثانية، أخذ حربته الكبيرة وسار عائدا الى كهفه وهو سعيد بما فعلت يداه .
(13)
مرت أيام الفتى فى الجزيرة فى هدوء.. لم يكن يضايقه شئ سوى تجنب الحيوانات والطيور له، وحياته التى يحياها وحيدا لا يزوره إلا أمه التى أرضعته، وأن الأوراق التى يلفها حول وسطه كانت تذبل وتتساقط، وكان يضطر لتغييرها.
وذات يوم.. بينما هو سائر فى طرقات الجزيرة.. وعصاه الطويلة فى يده مثل صولجان الملك، وصل الى مكان منعزل.. أرضه صخرية لم تنبت فيها أشجار، وجد نسرا على الأرض وقد فرد جناحيه وذيله فغطى ريشهم مساحة كبيرة من الأرض، وقف هادئا بالقرب منه، أعجبه ألوان الريش، تمنى أن يكون لديه مثلها ليصنع منها حزاما يلفه حول وسطه. فلا يذبل ولا يسقط.. وخز النسر بعصاه فلم يتحرك. أدرك أن النسر الذى كان يحيا فى داخل هذا الجسد قد غادره. جلس بجواره.. أخذ ريش جناحيه وذيله وذهب ليجلس بهما تحت النخلة على شاطئ المحيط.
نسج من خوص النخلة حزاما جديدا.. ولكنه هذه المرة أكثر عرضا من سابقه. صار يأخذ من ريش النسر ويرشقه فى الحزام .. نقل كل الريش اليه، أعجبه ما صنع. خجل من نفسه أن يبدل الحزام القديم بالجديد فى العراء، أسرع الى كهفه. وفى الداخل.. بدل حزام الأوراق بحزام الريش. وأخذ عصاه الكبيرة وأسرع يبحث عن أمه التى أرضعته ليريها ما صنعت يداه.
بحث الفتى عن أمه التى أرضعته حتى يريها ما صنعت يداه، وجدها ترعى الأعشاب بين عدد من الغزلان. فوجئت به يعدو ناحيتها.. كفت عن تناول طعامها واستقبلته بتتريب* جميل، دار حول نفسه فى فخر يستعرض ما صنعت يداه وهو يقول:
ـ إنظرى ما صنعت يداى.
نظرت الغزالة الى إزار ولدها الذى صنعه من الخوص والريش ولفه حول وسطه بإعجاب شديد وقالت له:
ـ صار ليديك فضل كبير عليك. صنعت بها العصا التى تدافع بها عن نفسك وجعلت كل الحيوانات تهابك، وصنعت بها ما يستر عورتك.
وإبتسمت الغزالة فى وجه رضيعها واستطردت قائلة:
ـ ألم أقل لك بأنك من فصيلة أفضل من كل الفصائل.
جلس الفتى على ركبتيه أمام أمه، أخذ رأسها فى حضنه وراح يقبله ويقول لها:
ـ الفضل لك يا امى فأنت التى أرضعتنى.
إستسلمت الغزالة لدفء الحب الذى انتقل اليها من قلب رضيعها، لحظات وبدأت تشعر فى تغير سيحدث فى الجو حولها.. شعرت به صاحباتها أيضا فأسرعن مبتعدات عن المكان. كل منهن راحت تبحث عن مكان تحتمى فيه مما سيحدث.
سحبت الغزالة رأسها من حضن رضيعها وقالت له:
ـ إذهب يا ولدى فالسماء ستمطر بعد قليل.
قال الفتى لأمه:
ـ تعالى معى.
ردت عليه حازمة وقالت:
ـ سبق وأن قلت لك بأننى مهيأة للحياة فى العراء أما أنت فلا.
قالت هذا ثم قالت آمرة:
ـ إذهب أنت الى بيتك.. هيا .
إنطلق الفتى الى بيته مسرعا.. وقبل أن يصل اليه.. بدأ لون الدنيا يتغير من حوله. نظر الى أعلى وجد السحب السوداء الكثيفة آتية من فوق الماء الى فوق الجزيرة،حجبت ضوء الشمس فوقها وأرسلت ظلها الرمادى يزحف على الأرض،
لم يمض وقت طويل حتى كادت الدنيا أن تظلم من حول الفتى، وقبل أن يهطل المطر.. كان يجلس فى فتحة كهفه، يتفكر فى حال الدنيا وكيف يتغير فى لحظات من حال الى حال.
(14)
فكر الفتى فى أمه التى رفضت أن تأتى معه، هم بالنزول الى المراعى للبحث عنها، طمأنته نفسه عليها وقالت له:
ـ طالما أخبرتك أنها مهيأة للعيش فى العراء. لا تقلق عليها.
حاول الفتى أن يطرد أحساسه بالقلق على أمه من عقله، وفجأة سمع دويا إهتزت له جدران الكهف، ولمع خط واصل بين السماء والأرض وهطلت الأمطار بغزارة. زاد قلقه على أمه التى تركها فى المراعى، فانطلق مسرعا يبحث عنها.
بحث عنها حيث تركها فلم يجدها . زاد قلقه. إنطلق يبحث عنها فى كل مكان يعرف أنها تذهب اليه.. لم يجدها، بحث عنها تحت كل خميلة وتحت كل نتوء صخرى. حتى تجاويف الأشجار القديمة نظر فيها ولم يعثر لها على أثر.
أخبره عقله بأنها ربما ذهبت الى الشاطئ حيث تحب أن تجلس هناك وتنظر الى الماء الذى ليس له نهاية. أسرع حتى صار تحت نخلة البلح العالية .. كانت أمه هناك.. راقدة على الأرض.. تصطدم بها قطرات المطر المندفعة من السماء .. عيناها تحدقان فى الفراغ الذى ليس له نهاية أمامها.. أسرع وركع بجوارها.. خيل اليه أنها لا تتنفس، وضع أذنه حيث كان يسمع دقات قلبها. سمع خفقات خافتة، حملها بين ذراعيه وراح يعدو بها ناحية كهفه.
ما زال عقل الغزالة يشعر بما يدور حوله، أخبرها أنها محمولة على صدر رضيعها، شعرت بالرضا والسعادة فلا يوجد حيوان يفعل بأمه مثل ما يفعله هذا الفتى الآن، تمسحت برأسها فى رقبته وقالت فى نفسها:
ـ هذا هو الفعل الحقيقى لإبن الإنسان.
واصل الفتى طريقه حتى وصل الى كهفه, أراح أمه على الأرض.. وجلس بجوارها لا يعرف ماذا يفعل حتى كف الماء عن الإندفاع من السماء نحو الأرض .. وأطل قرص الشمس مائلا نحو الأفق الغربى،أضاء الدنيا بضوء أصفر فى لون الذهب، إنعكس داخل الكهف فأضاءه قليلا.
نظر الفتى الى أمه .. وجدها شاحبة غير قادرة على الحركة كما يعرفها، تذكر ثمارا حلوة المذاق.. كان يشعر بالحيوية والنشاط حين يأكلها، ترك أمه وأسرع خارجا، عاد بعد قليل وهو يحمل حزمة من الأعشاب الطرية، نفض عنها قطرات المطر العالقة بها ثم فرشها فى أحد الأركان.. حمل الغزالة بين ذراعيه وأراحها على الفرش العشبى وهو يقول لها:
ـ استريحى يا أمى.
إعتدل واقفا وهو يقول:
ـ سأحضر لك بعض الطعام .
أرادت الغزالة أن تخبر رضيعها بأنها ليست فى حاجة الى طعام، لكن صوتها لم يخرج من جوفها. تابعته بعينيها وهو يقفز خارجا، ثم وهو يسرع عبر الوادى الأخضر الفسيح أمام الكهف، وحين إختفى عن نظرها عادت الى نفسها.. أغمضت عينيها واستسلمت للخدر الذى بدأ يتسلل الى جسدها الهزيل. يسحب ما تبقى من قواها، يفقدها السيطرة على أعضائها ، وشيئا فشيئا بدأت عضلاتها تتراخى وتسكت عن الحركة، قليلا.. وبهدوء، خرجت القوة التى تحرك الجسد . ولم يعد يتحرك .
كانت الشمس قد غابت عن الجزيرة، والفتى ما زال يبحث عن الشجرة التى يريدها، ضاع منه الطريق ولم يعرف كيف يصل اليها بالرغم من أنه كان يعرفه جيدا.
لم يعرف الفتى أن حزنه على أمه كان ظلمة على نفسه أكثر من ظلمة الليل، وهو الذى جعله يضل الطريق الى الشجرة ذات الثمار الحلوة التى يريدها. لكن حب لأمه كان نورا فى قلبه ودافعا لأن يستمر ، دار فى الجزيرة المظلمة عدة مرات يبحث عن الشجرة ، وأخيرا وجدها، قطف منها على قدر ما يستطيع حمله وأسرع عائدا الى كهفه.
(15)
دخل الفتى الى كهفه حاملا معه الثمرات التى جمعها، صاح على أمه يخبرها بوصوله، لم تلتفت اليه.. ولم تفتح عينيها، ظن أنها لم تسمعه.. أسرع اليها وهو يأمل أن تعيد اليها حلاوة الثمار حيوتها كما تفعل معه حين يأكلها، جلس بجوارها وربت على جسدها وهو يقول لها:
ـ أمى .. أحضرت لك الثمار الحلوة.
شعرت يده بأن الدفء الذى كان فى الأم قد راح. وحل البرد فى الجسد.
أخذ الفتى أمه فى حضنه يدفئها. رفع راسها الى أعلى، أمسك ثمرة فى يده.. قربها من فمها، ضغط عليها بأصابعة فسال عصيرها على شفتيها، لم تشعر به الأم ولم تبلعه.
وضع الثمرة على الأرض، ضم أمه الى صدره على أمل أن يشعر بتلك الخفقات التى شعر بها من قبل فلم يشعر بشئ، أراحها على الأعشاب.. فتح جفنيها لينظر الى عينيها فلم ير بريقهما. رفع أحد أطرافها الى أعلى فسقط . لأول مرة عرفت عيناه الدموع حين تساقطت على خده. تساءل عقله وقال:
ـ أين الدقات التى كانت فى داخلها؟.
ثم تساءل ثانية وقال:
ـ هل الدقات التى كانت فى الداخل هى التى كانت تحرك هذا الجسد؟
ظل جسد الغزالة ساكنا أمام الفتى .. هزه بيديه عنيفا عدة مرات وهو ينادى أمه علها تفيق ويتحرك الجسد لكنه لم يستجب، قال عقله حزينا:
ـ فى الماضى كانت تستجيب لأى صوت يصدر منك حتى لو كانت نائمة.
أدرك أن أمه التى أرضعته والتى كانت تحنو عليه، كانت فى هذا الجسد الذى يرقد أمامه.. وقد رحلت بعيدا. وأن هذا الجسد الذى صار متعطلا عن الحركة.. سيصبح ترابا مثله مثل أجساد حيوانات كثيرة، رآها تمرح هنا وهناك، ثم رآها ملقاة فى الجزيرة وقد بلى جسدها وراح.
لم يرض الفتى أن يكون هذا حال الجسد الذى كانت أمه تسكنه.. وتتحرك به، وظل طوال الليل يفكر ماذا يفعل به.
حين جاء الصباح.. حمل الفتى جسد أمه على كتفيه، هبط من كهفه وراح يجوب طرقات الجزيرة طولا وعرضا، وهو لا يعرف ماذا يفعل به، مر على حيوانات كثيرة فكانت تشير اليه وتتصايح ساخرة منه.. نصحته الأشجار كثيرا بأن يلقيه فى أى مكان ويستريح منه لكنه رفض، وظل على حاله حتى تعب جسده فجلس يستريح.
مر من أمامه غرابان يقتتلان فى الهواء.. أوقع أحدهما الآخر أرضا.. هبط اليه.. ظل ينقر فيه حتى خمد جسده وأصبح ساكنا مثل جسد الغزالة، قالت عقل الفتى له:
ـ لقد رحل الغراب الذى كان يسكن هذا الجسد كما رحلت أمك.
علقت نفسه وقالت:
ـ فلتنظر لترى ماذا سيفعل الغراب فى جسد أخيه.
حفر الغراب فى الأرض حفرة كبيرة، سحب جثة أخيه ووضعها فى الحفرة وغطاها بالتراب.
قرر الفتى أن يفعل مثل ما فعل الغراب، حمل الجسد الذى كانت تسكنه أمه وراح به الى شاطئ المحيط ، سار حتى وصل الى نخلة البلح، وفى المكان الذى كانت أمه تحب أن تجلس فيه.. حفر حفرة كبيرة ووضع الجسد فيها وغطاه بالتراب. تركه وسار وحيدا عائدا الى كهفه، تربت أوراق الشجر على وجهه، وتقول له:
ـ لا تحزن فكل الأحياء تموت.
ظل الفتى على حاله حتى وصل الى كهفه، صعد اليه وفى تثاقل جلس. راح يتذكر كل أيامه الماضية مع أمه التى رحلت ولا يعرف الى أين، أتاه صوت أمه يذكره بأنه من فصيلة أفضل من كل الفصائل التى هنا. أمسك بعصاه الكبيرة يستمد منها القوة. ضمها الى صدره وتمدد لينام.
(16)
حين تسلل ضوء الشمس الى الكهف، صحى الفتى على أول يوم له فى الجزيرة وقد صار وحيدا.. ليس غير عصاه، الطويلة القوية.. ذات السن المدبب، يمسك بها بيده، هبط الى ممرات الجزيرة وهو يفكر فى أمه التى رحلت ولا يعرف الى أين، يتذكر كل ما فعلته معه،كيف أرضعته.. وكيف علمته حتى كبر.. وكيف كانت تحنو عليه.
تذكر قولها له بأنه من فصيلة مختلفة عن كل الفصائل التى حوله، راح عقله يتساءل.. وأين بقية فصيلته.. ولماذا تركوه وحيدا بين فصائل غريبة عنه،
لم يشعر الفتى بالسحب السوداء وهى تتجمع فوق الجزيرة.. وتحجب ضوء الشمس، حتى كادت الدنيا أن تظلم من حوله. وفى الوقت الذى قرر فيه قرر أن يبحث عن فصيلته أو أى واحد منها، فليس من المعقول أن يأتى الى هنا دون أن يحضره أحد منهم. دوى الرعد فى السماء.. وانطلق من السحاب ضوء فضى براق أخذ طريقه الى الأرض. وسقط فوق الشجرة الخضراء التى فى وسط السهل الواسع أمام كهف الفتى، أضاء الجزيرة لحظات وأشعل النار فى الشجرة ثم إختفى.
إرتعد الفتى ووقع على الأرض.. إنجذبت عيناه الى لهيب النار المتصاعد من الأفرع الخضراء، جاهد حتى وقف على قدميه. أمسك بعصاه القوية وتقدم نحو الشجرة فى حذر وخوف.
حين إقترب من الشجرة المشتعلة، شعر بالدفء، وقف يتأمل اللهب وهو يمسك بالأفرع ويمتد راقصا الى أعلى.. يده قابضة على العصا مستعد للدفاع عن نفسه فى أية لحظة، طوح العصا وضرب بها اللهب فاخترقته ، قال له عقله:
ـ هذه لا تنفع معها العصا.
وحين زاد دفء جسده بقربه من النار.. قال له عقله:
ـ خذ لنفسك جزءا منها.
ظل الفتى مترددا حتى وقع أحد الفروع مشتعلا أمامه. ولم يحاول أن يمسك به .. مد يده ليمسك به، لسعته النيران وكادت أن تحرق يده. قال عقله محذرا له أن يبتعد عن الجزء الذى آلم يده.
نظر الفتى الى الفرع المشتعل، رأى جزءا منه لم تصل اليه النيران، أمسكه منه وأسرع به الى كهفه. رآه زوج الخيل الأبيض فقال الزوج لزوجته:
ـ الآن صار الفتى قويا وقد سيطر على النار وامتلك قوتها.
ردت الزوجة وقالت:
ـ ننتظر حتى نراه وقد سيطر عليها بعقله وروضها لمصلحته.
تابع زوج الخيل الفتى بأعينهما وهو يحمل فى يده شعلة النار حتى دخل كهفه وانصرفا.
أضاءت النيران الكهف، وجعلته دافئا، قال عقل الفتى:
ـ أظن أن هذه مثل التى تضئ النهار.
تراقص اللهب وقال للفتى:
ـ أنا لست مثل الشمس، أنا قبس من النار . آكل ما ألقاه.
سأل الفتى وقال:
ـ هل تقدر على العيش معى، أم ستتركنى مثل أمى التى رحلت؟.
رد اللهب وقال:
ـ اذا وفرت لى طعامى ستجدنى .. وإن لم أجد شيا آكله.. رحلت.
أسرع الفتى وأطعم النار بالحطب. فزاد لهيبها وارتفع . أسرع وجمع الكثير من أفرع الشجر المتساقطة ونقلها الى كهفه. جلس أمام النار يغذيها بالحطب وهى تمسك بما تطوله وتشعله ويرتفع لهيبها عاليا،وظل يغذيها حتى يظل لهيبها صاعدا. وحين جاء الليل، صارت النيران أنيسا له.. أضاءت كهفه وأعطته الدفء.. قالت له نفسه:
ـ هذا الدفء يذكرنى بدفء حضن الأم التى أرضعتنى.
علق عقله وقال:
ـ فى الصباح لابد وأن أبحث عن أمى التى ولدتنى .
وقبل أن ينام.. أعطى النار جذع شجرة كبير.. يكفى لطعامها حتى يصحو.. وتمدد بالقرب منها واستسلم للنوم .
(17)
ظلت النيران تلتهم جذع الشجرة طوال الليل، وحين جاء الصباح وصحا الفتى، وجد من الجذع بقية، أسرع وأحضر لها حطبا جديدا حتى تجد ما تأكله فلا ترحل مثل أمه. وبعد أن إطمأن إلى أن طعام النار يكفيها، راح يبحث عن فصيلته.
أمسك الفتى حربته الخشبية ذات السن المدبب فى يده، راح يمشى فى ممرات الجزيرة يتفحص وجوه كل من يقابله أو يسمع صوته. بحث تحت الخمائل الشجرية ربما يجد من يعيش تحتها كما كان يعيش.
كان الفتى يأمل أن يجد واحد من جنسه.. لم يقابله سوى قطعان الحيوانات التى ترعى فى السهول الخضراء أو التى تلهو مع بعضها.. وأسراب الطيور التى تخرج من أعشاشها مشقشقة أو تعود، كلهم يهربون منه حين يرونه والحربة الخشبية فى يده، يسمعهم وهم ينبهون بعضهم لوجوده قريبا فيبتعدون عن طريقه، أو يحذرون أبناءهم من الإقتراب من طريقه.
تعب جسد الفتى من طول لف ودوران فى ممرات الجزيرة ولم يجد أبدا أى فصيل يسير على ساقيه الخلفيتين مثلما يسير، قادته قدماه الى شاطئ المحيط، جلس بجوار جذع نخلة البلح العالية، أسند ظهره اليه، أدرك أنه صار وحيدا بعد أن فارقته أمه التى أرضعته، تسلل الحزن الى قلبه وعقله، رغما عنه انسابت دموعه من عينيه وسالت على خديه. فتركها تغسل حزنه.
غضب المحيط لدموع الفتى الذى يبحث عن شبيه له بعد أن فقد أمه التى أرضعته. يعرف أنه لن يجد له شبيها فهو كما قالت له أمه من فصيلة مختلفة عن كل الفصائل التى تعيش على الجزيرة. قد كان شاهدا على هروب ركاب المركب الخشبى من الجزيرة منذ سنوات، ونسيانهم له رضيعا وحيدا تحت خميلة شجريه.
فى ذلك اليوم البعيد، غضب المحيط من ركاب مركب البحر الذين نسوا الرضيع تحت الخميلة وأتهموه بأنه إبتلعه، أراد أن يثور ويقلب بهم مركبهم إنتقاما لكرامته ولذلك الرضيع الذى نسوه ، لكنه تذكر أن الله سبحانه وتعالى قد خلقه ليركبوا سطحه وينتفعوا بخيراته فهدأ وقرر أن يقدم شيئا للفتى الذى لا يعرف شيئا لكنه يحاول أن يعرف .
أمر المحيط أمواجه بأن تعطى الفتى شيئا من المخلوقات التى تعيش فيه، إرتفعت الأمواج عاليا وقذفت بأطرافها ناحية الفتى، وقف يتلقى رذاذها على وجهه وجسده كله، شعر بها ترطبه، غسلت دموعه وأنسته ما تسلل الى قلبه من حزن. فرد ذراعيه فى الهواء وراح يقفز ضاحكا حتى إصطدم به شئ أوقعه على الأرض. وحين قام.. كانت أمواج البحر قد هدأت ووجد على الأرض سمكة عظيمة تتقافز فى محاولة منها أن تعود الى الماء. أدرك أنه جائعا.. نظر الى ماء المحيط شاكرا..قالت له نفسه:
ـ قد جربت قوة النار على مخلوقات الأرض، جربها على مخلوقات البحر.. وفى الغد واصل البحث عن شبيه لك فى مكان آخر .
أخذ الفتى السمكة وعاد بها الى كهفه، فى الطريق كانت السمكة تحاول التخلص من قبضة يده.. ولكن حركة جسدها بدأت تقل تدريجيا حتى همدت تماما، فأدرك أن السمكة التى كانت تسكن الجسد الذى يحمله.. قد رحلت بعيدا، وواصل طريقة.
حين دخل الكهف، وضع جسد السمكة على النار، خرجت رائحة الشواء الى أنفه فأعجبته. أحضر فرعا جافا وأخذها من النار قبل أن تأكلها.. وجرب أن يأكلها هو. لسعته حرارتها فانتظر قليلا حتى بردت وقضم منها ملء فمه، شعر بطعم رائع يذوقه لأول مرة، فراح يلتهمها فى نهم.
حين انتهى الفتى من أكل السمكة، شعر بالشبع.. تراخى جسده وأراد النوم.. أتاه صوت لهيب النار واهنا يطلب الطعام.. نظر حوله فلم يجد أفرعا يناولها له.أسرع هابطا الربوة الى الوادى الأخضر الذى أمامها.. إختفى قليلا وسط الأشجار. عاد وهو يحمل حزمة كبيرة من الفروع الجافة، صعد الى كهفه.. أطعم النار.. وتمدد بالقرب منها وفى لحظات كان قد نام.
(18)
فى الصباح.. قرر الفتى أن يواصل بحثه عن شبيه له فى الجزيرة، رفضت نفسه أن تطاوعه وأعلنت أنها تتوق الى طعام البحر.. وافق عقله على رغبة نفسه وقال:
ـ نأكل أولا ثم نذهب للبحث.
هم الفتى بالنزول من كهفه.. ذكره عقله بطعام النار، نظر اليها فتأكد أن عندها طعاما يكفيها حتى يعود،خرج من كهفه، وذهب ناحية المحيط وهو يأمل أن تقذف له الأمواج بواحدة أخرى من مخلوقات البحر.
حين وصل وجد سطح الماء هادئا لا موج فيه. وقف يتأمله.. إحتار عقله وراح يتساءل عن السبب الذى يجعله يثور وتعلو أمواجه وتعدو خلف بعضها، قالت له نفسه:
ـ فى الثورة خير أحيانا.
قالت نفس الفتى هذا الكلام وصمتت قليلا ثم قالت مؤكدة:
ـ لولا ثورته ما عرفت طعم ما به من مخلوقات.
وقف الفتى فى إنتظار أن يقذف له البحر بواحدة من مخلوقاته كما فعل بالأمس، قال له عقله:
ـ حين تريد شيئا.. عليك أن تسعى لتحضره.
عرف الفتى أن عليه أن يسعى للإمساك بمخلوقات البحر بنفسه ولا ينتظر حتى يقذف بها أحد عليه، اذن لابد أن ينزل الى الماء ويبحث عنه بنفسه.
احتارت نفسه فيما يقول عقله.. كيف سيعرف أين هذه المخلوقات فى كل هذا الماء الواسع. وإذا عرف أين هى..كيف سيمسك بواحدة منها بيديه وهى فى الماء، وقد كانت ستتغلب عليه وتهرب منه وهو ممسك بها على الأرض. رد عقله عليها وقال لها:
ـ فى كل قوة أماكن ضعف، ألم ترى كيف حمل النار الى كهفه وهى التى تحرق ما تمسك به؟
جلس الفتى بجوار جذع النخلة.. راح يفكر كيف يمسك بمخلوقات البحر وهى فى الماء، وأخيرا قال له عقله:
ـ لكى تمسك بشئ لابد وأن تقيد حريته أولا.
هب واقفا. أسرع يبحث عن شجرة ذات أفرع طويلة ورفيعة حتى وجدها، أخذ منها مجموعة من الأفرع. عاد الى جذع النخلة..جلس ينسج الأفرع ويصنع منها وعاء يشبه القفص، مفتوح من جهة واحدة. وحين انتهى من صنعه وضعه فى الماء وجلس ينتظر، قال له عقله:
ـ من الخير ألا تضيع الوقت فى إنتظار. وأرى أن تستغله فى البحث عن شبيهك الذى تتمناه.
صاحت النفس ثائرة رافضة ما قاله العقل وقالت:
ـ أنا جائعة وأتوق الى طعام البحر.
تغلب الفتى على رغبة نفسه وأطاع عقله.. ترك القفص فى الماء وراح يسير فى ممرات الجزيرة باحثا عن شبيه له، وكما فعل فى المرة السابقه.. دقق فى كل الوجوه التى قابلته، نظر تحت كل خميلة .. صعد عدة روابى ودخل كهوفها التى وجدها ولم يلتق بواحد شبيه له أبدا.
مضى أغلب اليوم، ولم يجد الفتى أى أثر لأى مخلوق يشبهه ، أعلنت نفسه غضبها وقالت ثائرة:
ـ قد أضعت اليوم كله دون فائدة. تذكر ما قالته لك الأم قبل أن ترحل.
رد العقل فى هدوء وقال:
ـ قالت أنه من فصيلة مختلفة، ولم تقل أنه من فصيلة غير موجودة.
لم يهدأ عقل الفتى إلا بعد أن أقنع نفسه بأن هناك أماكن كثيرة لم يبحث فيها، وعليها أن تشجعه على البحث فربما يجده فيها.. ثم قال للفتى:
ـ هيا الآن لنعود لتناول طعامنا ثم نواصل البحث فى الأيام المقبله.
أطاع الفتى عقله، وبعد قليل..كان يهبط الى الماء ويرفع قفصه عاليا، تراقصت فيه عدة سمكات،قذف بها الى الأرض وأعاد القفص الى الماء ثانية وخرج ليحمل صيده وعاد الى كهفه حيث النار تنتظر أن يطعمها وتطعمه. وحين جاء المساء.. وتمدد بالقرب من النار ونام.
(19)
حين صحا الفتى، كانت النار قد أكلت كل ما عندها من حطب أثناء نومه، نظرحوله، لم يجد ما يقدمه لها، اسرع بالنزول من الكهف ليجمع لها الطعام.
لم يجد حطبا جافا قريبا من الكهف، خاف أن يتوغل فى الجزيرة فتخمد النار قبل عودته، وقف حائرا ماذا يفعل.. قال له عقله:
ـ النار تأكل الأخضر والجاف، هل نسيت أنك حين رأيتها أول مرة كانت مشتعلة فى شجرة خضراء.؟
تذكر الفتى الشجرة.. لم ينظر اليها منذ رآها مشتعلة، أجل الذهاب لزيارتها حتى يطعم النار أولا.. أخذ عدة أفرع من الأشجار التى حوله وأسرع بها الى كهفه.. أعطى النار واحدا منها.
تغلغلت السنة اللهب بين الأفرع والأوراق، تراقصت فرحا بطعامها، وراحت تطرد ما يحتويه الفرع من ماء استعدادا لتناوله، تصاعد منه دخان أبيض كثيفا.. انتشر فى الكهف حتى عبأه، هرول الفتى خارجا حتى لا يختنق.
وقف الفتى أسفل الربوة يراقب الدخان الذى يخرج من فتحته ويتصاعد مندفعا صاعدا الى أعلى. قلق على النار ربما يخنقها الدخان مثلما أراد أن يخنقه.. صاح فيه متوسلا وقال:
ـ أرجوك.. لا تخنقها فقد صارت صديقتى الوحيدة.
كانت الطيور التى تعشش على الأشجار حول الربوة، أول من رأى عامود الدخان الصاعد من فتحة الكهف.. أسرع بعضها يستطلع السبب، وأسرع البعض الآخر ليخبر كل أهل الجزيرة من طيور وحيوانات. حتى وصل الأمر الى الطرف البعيد من الجزيرة حيث يعيش زوج الخيل الأبيض.
هرولت كل حيوانات الجزيرة وطيورها ناحية الوادى الأخضر الواسع أمام الربوة لتحاول أن تعرف ما هذا الصاعد منها الى السماء. كان زوج الخيل الأبيض هو أول من وصل الى هناك ووقف عند بقايا الشجرة المحترقة.
دون أن يشعر الفتى وجد نفسه محاطا بالحيوانات تخرج اليه من بين الأشجار، نظر الى يديه وجدها خالية من الحربة التى يستمد منها القوة، فكر فى أن يهرب الى كهفه يحتمى به وبها، تذكر الدخان الذى طرده من الداخل منذ قليل، نظر اليه فوجده قد تضاءل.. إطمأن قليلا وأسرع صاعدا الربوة حتى اختفى داخل كهفه.
إختفى قليلا.. ثم خرج وفى يده اليمنى حربته الكبيرة وفى اليسرى جزء مشتعل من فرع الشجرة واللهب يتصاعد منه.. خطا خطوتين الى الأمام. توقف. رفع يديه بالعصا وشعلة النار عاليا، هزهما فى الهواء محذرا وهو يصيح قائلا:
ـ ماذا تريدون.. إبتعدوا.
صرخت الحيوانات وهربت خوفا من حربة الفتى والنار اللذين يحملهما فى يديه،اختفوا جميعا بين الأشجار، وظل زوج الخيل الأبيض واقفا فى مكانه بجوار بقايا الشجرة المحترقة وسط الوادى.
شعر الفتى بالزهو .. دخل الى كهفه وأعاد شعلة النار الى مكانها، ثم خرج وحربته فى يده، وجد زوج الخيل الأبيض ما زال واقفا فى مكانه. هبط الربوة. توجه ناحيته. قالت الزوجة لزوجها:
ـ الآن يستحق الفتى أن يصبح سيدا.
رد الزوج قائلا:
ـ لا تقدمى شيئا لمن لا يطلبه بشرط أن يكون قد يستحقه.
قالت الزوجه توضح رأيها:
ـ قد استعاد الفتى عقله البشرى وبدأ يستخدمه.
أمر الزوج زوجته أن تصمت فالفتى قادم ناحيتهما، وقبل أن يصل اليهما تركاه وسارا مبتعدان عنه. تابعهما الفتى بعينيه متعجبا من حالهما حتى إختفيا. عاد بنظره الى الشجرة المحترقة.. دهش حين اكتشف انها قد أنبتت براعم جديدة تنظر الى أعلى. قال:
ـ كنت ظننت أن الشجرة التى تسكن الجذع الخشبى قد رحلت وتركته ليجف، لكنها أصرت عل الحياة وأنبتت فروعا جديدة.
عاد الى كهفه وهو يتساءل ويقول:
ـ ما الذى فى السماء يجعل كل الأشياء تتطلع اليه.
(20)
جلس الفتى فى كهفه بالقرب من لهيب النار وهو يتراقص فى الهواء، عقله شارد يبحث عن إجابات لتساؤلاته:
ـ ما الذى فى السماء يجعل كل الأشياء تتطلع اليه؟. ولماذا خافت كل الطيور والحيوانات من النار.. هل جربتها ولسعتها كما فعلت معه؟ أم هو خوف بلا سبب يعرفونه؟
قضى الفتى يومه يفكر فى أحداث اليوم، أدرك أن الأشياء التى على الأرض تعرف من هو فوق وتتطلع اليه، وهو أيضا يريد أن يعرفه.. لكن، كيف يعرفه وهو لا يراه ؟
قال له عقله:
ـ اذا عرفت ما حولك.. عرفت من هو فوق.
عاد الفتى للسؤال وقال:
ـ وما حكاية هذا الزوج الأبيض من الحيوانات الذى لا يخاف منى ويبتعد كلما إقتربت منه؟. لماذا يختلف عن الآخرين فى شكله وحجمه؟.
اجاب عقله وقال له:
ـ لن تعرف الا اذا اقتربت منه.
أدركت نفس الفتى أن عقله سيقوده فى رحلة جديدة للبحث عن المعرفة، ولو بدأ فسينسى رغباتها ولن تأكل طوال اليوم فصاحت قائلة:
ـ انا جائعة.
تحركت الرغبة فى النفس ناحية الطعام، أدرك العقل أنها لم يأكل شيئا طول اليوم.. إنتهزت النفس الفرصة وقالت هامسة تسترضيه:
ـ أتوق اليوم لطعام البحر.
علق العقل وقال للفتى:
ـ لن تفكر جيدا ونفسك ترغب فى الطعام.
أطاع الفتى عقله وأخذ طريقه ناحية المحيط. وما أن إقترب منه رأى الماء وقد تحولت الى ذرات دقيقة أخذت طريقها الى أعلى،نسى رغبة نفسه فى الطعام وجلس تحت نخلة البلح الطويلة وقف يراقب بخار الماء المتصاعد الى أعلى هو الآخر.. حاول أن يتابعه حتى يعرف الى أين يذهب، لم يستطع أن يعرف.. فلم ير له نهاية.. تجمع فى الفضاء وحجب عنه الرؤية. تساءل عقله وقال:
ـ أين يذهب هذا الماء؟.
أجاب عقله على السؤال بسؤال آخر وقال:
ـ وأين ذهب الدخان من قبل؟.
صرخت النفس تطلب الطعام.
ركن حربته الخشبية ذات السن المدبب على جذع النخلة.. نزل الى الماء.. أخرج قفص الصيد الذى صنعه، وجده قد أمسك بعدة سمكات، حين رفعه عاليا إنتفضت السمكات إحتجاجا على انتزاعها من وطنها وأرادت العودة ثانية اليه، أمسك الفتى بكل منها من عند رأسها وقذف بها الى الأرض، تقافزت هناك عدة مرات ولم تستطع العودة.
ثبت الفتى القفص فى مكانه وخرج من الماء.كانت حركة السمكات قد هدأت، حملها بين يديه وأخذ عصاه وعاد الى كهفه، أطعم النار بقليل من الخشب، أعطاها السمك لتعده طعاما له، جلس ينتظر رائحة الشواء التى أحبها، قليلا وداعبت الروائح أنفه.. إعتدل فى جلسته.. قلب الأسماك على جانبها الآخر. انتظر قليلا ثم رفعها من فوق النار. إنتظر حتى بردت سخونتها بالقدر الذى يطيقه، بدأ يستمتع بالتهامها وهو ينظر الى النار شاكرا لها ما قدمته من خير له.
وحين انتهى من تناول طعامه. هدأت نفسه ولم تعد تطلب شيئا، ذكره عقله بزوج الخيل الأبيض المختلف عن كل الفصائل التى عاش بينها طوال عمره ، ولا يخاف منه مثل الفصائل التى يعرفها.
أمسك الفتى بحربته الخشبية وهم بالنزول من الكهف للبحث عن زوج الخيل الأبيض، فوجئ بأن الشمس قد غابت، وصار الجو رماديا استعدادا لحلول الظلام. خاف أن يضيع فى الجزيرة ولا يستطيع العودة الى كهفه، عاد الى النار أطعمها ما يكفيها طوال الليل وتمدد بالقرب منها.. ونام .
* * * * *
(21)
ظلت النار مشتعلة بجوار الفتى طوال الليل، نامت نفسه لكن عقله لم ينم، ظل يفكر فى ذلك الذى فوق وتتجه ناحيته كل الأشياء، من يكون؟ .
ولم ينس العقل ذلك الزوج الأبيض من الخيل الذى يأتى ويروح ولا يخاف من الفتى مثل الآخرين.. وتساءل لماذا يأتون ولماذا يبتعدون؟ وقرر أن يبحث عنه ليعرف السبب.
وفى نفس الوقت لم ييأس من وجود شبيه له للفتى على الجزيرة، فكل الأبناء تأتى من ذكر وأثنى.. والفتى قد صار موجودا.. إذن لابد من وجود ذكر وأنثى تسببا فى وجوده، ولابد أنهما فى مكان ما على الجزيرة.
حين صحا الفتى من نومه ناول النار طعامها،أخذ حربته الخشبية ذات السن المدبب ونزل من الكهف ليجنى طعام إفطاره. قال له عقله:
ـ لن تعود الى هنا لتتناول طعامك، الثمار التى تجنيها تأكل فى حينها حتى تشبع، ولن نعود حتى ينتهى النهار.
تعجب الفتى وسأل عقله وقال:
ـ لماذا ؟
أجاب العقل قائلا:
ـ سوف نذهب للبحث عن فصيلتك فى ناحية جديدة، وفى نفس الوقت نبحث عن ذلك الفصيل الأبيض كبير الحجم الذى يأتى ويروح ولا يخاف منك مثل كل الفصائل.
أطاع الفتى ولم تعترض نفسه.
بدأ الفتى رحلته،إخترق الفتى ما يعرفه من ممرات فى الجزيرة، أكل من ثمار أشجارها حتى شبع، وواصل سيره وبحثه حتى وجد نفسه فى أماكن لم يرها من قبل، لا أشجار عالية ولا فاكهة ولا ثمار. فقط.. سهول ممتدة تملؤها الأعشاب والشجيرات. تعجب الفتى من تغير الحال الذى يعرفه الى حال لا يعرفه. وتعجب حين سمع صهيل الحصان يجاوبه صهيل أحصنة كثيرة.. ودهش حين رأى قطيع من الخيل يقبل عليه، يتقدمهم الزوج الأبيض الكبير الذى يعرفه، وحين التقوا به.. أحاطوه من كل جانب. ساروا به حتى وقفوا فى ظل شجرة كبيرة. سأل الفتى الحصان الأبيض الكبير وقال له متعجبا:
ـ لماذا كنت تبتعد عنى حين أقترب منك؟
رد الحصان وقال:
ـ كنت أنتظر حتى تمتلك عقلك لتصبح سيدا. والآن صار لك عقل يفكر.
أشار الحصان الأبيض الكبير برأسه.. تقدم مهر رمادى اللون له غرة بيضاء على جبهته، وقف أمام الفتى وقد أحنى رأسه معلنا ولاءه له.. قال الحصان للفتى:
ـ ولدى هذا هديتنا اليك.
فرح الفتى بأن صار له رفيقا.. ربت على رأس المهر الصغير وهو يقول:
ـ سيكون صاحبى.
صمت الحصان قليلا ثم قال:
ـ إذهبا الآن.
قفز الفتى على ظهر المهر الصغير.. انطلق يسابق الريح على شاطئ المحيط وحين وصل عند نخلة البلح العالية أوقفه الفتى. قفز من فوق ظهره الى الأرض وهم بالنزول الى الماء ليرى إن كان قفصه قد أمسك بشئ من مخلوقات البحر لكنه تراجع حين سمع صوت نخلة البلح وهى تقول:
ـ أرى انه قد صار لك صديقا.
رد الفتى فرحا وقال:
ـ نعم قد صار لى صديقا.
قالت النخلة ناصحة فى هدوء:
ـ لا تبحث عن فصيلتك هنا فلن تجدها. أنا أعرف ذلك ولا تجادلنى.
تضايق الفتى فنسى قفص صيده، وقفز على ظهر المهر الصغير وانطلق به وحين وصلا الى الوادى الأخضر أمام الكهف. كان النهار قد قارب على الإنتهاء. قفز الى الأرض وأسرع الى الكهف ليطعم النار وهو يقول له:
ـ تستطيع أن تنطلق اليوم كما تشاء، وفى الغد سنبدأ الحياة معا.
(22)
فى الصباح، كان أول شئ فكر فيه الفتى، هو أن يبنى للحصان بيتا، أحضر العديد من الأفرع الطويلة والأعشاب، وفى حضن الربوة أسفل كهفة وقف، نظر الى الأشجار المغروسة فى الأرض وقلدها وغرس أربعة جذوع كالجذور، عند قمتها علق أفرع أخرى وقلد الفروع، جعل فوقها فروعا متشابكة مثل الأغصان، قذف فوقها الأعشاب.
ظل الفتى يقذف بالأعشاب فوق شبكة الأغصان وبدون أن يدرى ثقل وزنها فوق القوائم الخشبية المغروسة فى الأرض مثل جذوع الأشجار. وقع الجميع على الأرض.
لم يحزن الفتى فهذه أول مرة يصنع فيها حجرة خشبية، حاول أن يعرف لماذا وقعت..أعاد النظر الى الأشجار والفروع والأوراق، عرف أنه قذف فوق شبكة الأغصان بأعشاب كثيرة.. عاد لبناء الحجرة مرة ثانية، ثبت القوائم واقفة مثل جذوع الأشجار، علق عليها الأغصان، ثم جعل عليها شبكة من الأغصان الصغيرة وقذف بالأعشاب فوقها. وحين ظللت الأرض من تحتها كف عن قذف المزيد.
صاح الفتى على الحصان فجاء مسرعا إليه، أشار الى الحجرة الخشبية وقال له:
ـ إمرح فى الوادى الأخضر كما كنت تمرح مع أصحابك، حين تريد الراحة استرح فى هذه الخميلة. وحين اريدك سأصيح عليك.
إنطلق الحصان يمرح فى الوادى.. وقف الفتى يتأمله، أول مرة يشعر بأنه مسئول عن أحد غير نفسه،إحساس جميل لم يكن يعرفه من قبل، إحساس جعله يشعر بأهميته، إبتسم راضيا وراح يجمع طعامه. عاد بعد قليل وهو يحمل الكثير من الفاكهة والثمار، صعد بها الى كهفه. وحين شبع .. قرر أن يلهو مع صديقه الجديد .
أعطى النار طعامها وهبط الى الوادى.. رآه الحصان فأسرع اليه قبل أن يصل الأرض، قفز الفتى فى الهواء مثل القرود واستقر على ظهره، لم يوجه الفتى الحصان الى وجهة معينه فعرف أنه يترك له حرية الإختيار فانطلق فى الطريق الذى يعرفه. وظل يعدو به حتى وصل الى شاطئ المحيط . وعند جذع نخلة البلح العالية وقف.
قفز الفتى الى الأرض.. قالت له نفسه:
ـ ألا تطمئن على صيد البحر .
هبط الى الماء.. رفع قفصه الشجرى من مكانه وجده مليئا بالأسماك، قالت له نفسه:
ـ لا أتوق اليها الآن.
أعاد الفتى القفص الى الماء ولكنه لم يثبته جيدا فى الأرض مثل كل مرة، وقبل أن يخرج من الماء كان القفص قد طفا فوق سطحه، أمسك به قبل أن يأخذه التيار بعيدا.. ثبته جيدا فى أعشاب الماء.. فظل غاطسا تحت سطح الماء ينتظر الأسماك ليمسك بها من أجل الفتى.
تساءل عقله فى دهشة وقال:
ـ الماء يحمل الأشياء !؟.
دون أن يتردد الفتى، مال بجسده على صفحة الماء،دفع الأرض بقدميه فطاف على سطح الماء.. راح يلهوا بذراعيه وساقيه فوجد نفسه يسبح مبتعدا.. صهل الحصان فى خوف عليه، عاد الى الشاطئ. صعد الى الأرض.. ربت على خدى الحصان شاكرا ووقف ينظر الى الماء.
مرة ثانية.. لاحظ الفتى أن سطح الماء يخرج منه قطرات دقيقة تتصاعد الى أعلى.. لم ير الى أين تذهب، كل الذى رآه أنها تتجمع هناك.. فى الأعالى.. سأل عقله وقال:
ـ لو أستطيع أن أرى أكثر؟.
أتاه صوت النخلة يخبره بأنه كلما ارتفع عاليا كلما رأى أكثر. أسرع فى خفة القرود يتسلق جذع النخلة حتى ارتطم رأسه ببلحها، إعتدل وراح ينظر ينظر الى الماء، رأى مساحات أوسع يخرج منها قطرات الماء الدقيقة، تحول الى الجزيرة، رأى قمم الأشجار لأول مرة ليس لها نهاية، ورأى جبلا شاهقا فى وسطها ، أسرع بالنزول الى الحصان وأسرع اليه.
(23 )
أسرع الحصان الصغير بالفتى فى ممرات الجزيرة لا يدرى الى أين يذهب، لكن الفتى يعرف الى أين يذهب فراح يوجه حصانه بلمسات خفيفة من يده. لم يلتفت الفتى الى ما حوله من أشجار متنوعة الأشكال والأحجام والأزهار والثمار. قد كان كل همه أن يصل مسرعا الى ذلك الذى رآه من فوق جذع النخلة.
وصل الحصان بالفتى الى حيث يريد.. قفز الفتى الى الأرض.. وقف مشدوها لما يراه.. ارتفاع شاهق أكبر من البوة التى فيها كهفه عشرات المرات، أمامه بحيرة ماء عظيمة يتفرع منها الكثير من الترع والأنهار متجهة الى كل أنحاء الجزيرة، طيور من كل لون وصنف ونوع ترفرف فى الهواء ثم تهبط حتى تلامس بطونها سطح الماء وترتفع ثانية وهى تغنى فى سعادة، لو عرف الفتى شيئا عن الجنة لقال ان هذا المكان هو الجنة. سألت نفسه فى دهشة وقالت:
ـ من أين جاء هذا الماء؟.
أجابت الدنيا عليها وأظلمت، نظر الفتى الى أعلى، كانت عدة سحب سوداء قد جاءت من ناحية البحر ووقفت فوق الجبل ومنعت ضوء الشمس من النزول الى الأرض، تصادمتا فأحدثتا أصواتا مرعبة وأضواء مبهرة وهبط الماء غزيرا فوق قمة الجبل وانساب مندفعا نحو البحيرة.
أسرع الفتى وصحب حصانه وانزويا تحت شجرة كثيفة يحتميان من المطر حتى أفرغت السحب حمولتها من الماء وسقطت أشعة الشمس الى الأرض وانتشر الضياء كما كان.
لم يفهم عقل الفتى ما حدث، كيف حدث هذا.. كيف ارتفعت قطرات الماء الدقيقة من سطح البحر الى هذا الإرتفاع الشاهق؟. وكيف تجمعت فى سحب هكذا؟. ومن الذى دفع بها حتى وقفت فوق الجبل؟. ومن الذى أمرها أن تفرغ ماءها هنا.. ومن الذى أمر الماء أن ينساب فى قنوات تنتشر كالعروق فى الأرض حتى تشرب منها الأشجار والحيوانات والطيور.
من فعل هذا.
كان الفتى حيوانا فى صورة إنسان.. رضع من أثداء حيوان وأكل طعامه وتعلم لغته. علموه كيف يأكل وكيف يشرب وأين ينام، كل ذلك بدون تفكير أو تدبير.. لم يخبره واحد منهم لماذا يفعل هذا أو ذاك.. علموه فقط ، كيف يفعله.
وحين صار له عقل يفكر، إنتقل الى صورة إنسان فى هيئة إنسان، وعرف ما كانت تقصده أمه التى أرضعته من أنه من فصيلة مختلفة عن كل الفصائل التى حوله، وأدرك أن الإختلاف بينه وبينهم، هو أنه صار يفكر ويتدبر.. ويعرف. وحين عرف، بدأ رحلة البحث عن حقيقة الوجود من حوله.
صاح على الحصان يطلب منه المجئ.. أسرع الحصان اليه ووقف أمامه ينتظر أمره فى شموخ. قفز الفتى على ظهره وربت على رقبته وقال له:
ـ إذهب بى الى الكهف. لكن لا تسرع فى مشيتك.
سار الحصان وهو يتبختر بين الأشجار فى ممرات الجزيرة، تلامس الأفرع رأس الفتى، شعر بأنه يرى هذه الأشجار لأول مرة فى حياته بالرغم من أنه عاش بينها سنين عمره كلها.
راقب الفتى أشكال الأوراق..الزهور.. الثمار. وحتى جذوع الأشجار.. لاحظ أن من الأشجار ما يزحف على الأرض.. ومنها القصيرة ذات الأفرع الرفيعة التى تصنع خميلة ، ومنها العالية ذات الجذوع الضخمة، إختلف شكل جذوع الأشجار وحجمها لكنها كلها لها أوراق، تختلف الأوراق فى شكلها بين نوع وآخر.. لكنها فى النهاية أوراق، ولاحظ أيضا أن كل الأشجار تعطى زهورا لكنها زهور مختلف ألوانها وأشكالها وأحجامها.. تتساقط فى النهاية لتترك مكانها ثمارا.. تساءل عقله وقال:
ـ لماذا الإختلاف إذن؟. ومن الذى صنع هذا الإختلاف.
ظل الفتى على حالة من مراقبة جذوع الأشجار وأوراقها وزهورها وثمارها حتى كاد النهار أن ينتهى، وتعب عقله من طول تفكير، طلب من الحصان أن يعود الى كهفه، إستدار الحصان عائدا يمشى الهوينى كما أمره صاحبه.
(24)
وفى رحلة العودة.. كان الأمر مختلفا. فقد قرأت الأشجار ما يدور فى عقله من تساؤلات.. وأدركت انه بدأ طريق معرفة الخالق، أعلنت الخبر لكل أشجار الجزيرة كلها، تراقصت من حوله الفروع، قررت الطيور والعصافير مكافأته فراحت تغنى له وتتراقص حوله.
حين وصل الحصان الى الوادى الأخضر، هبط الفتى من فوق ظهره الى الأرض متثاقلا، أسرع الحصان يمرح فى الوادى.. هم الفتى بالصعود الى كهفه، أسرع عدد كبير من الطيور بالخروج من فتحة الكهف وانتشروا فى الفضاء، نظر إليهم الفتى ولم يهتم، واصل صعوده،مر نظره من فتحة الكهف الى الداخل.. رأى كومة من الثمار والفاكهة بالقرب من النار. تعجب.. وقف، تسال قائلا:
ـ لماذا أحضرت الطيور هذه الثمار؟ ولماذا هذا اليوم بالذات؟.
رد عقله وقال:
ـ ربما لأنهم عرفوا أنك بدأت تفكر لتعرف. وربما هم يعرفون ما تفكر فيه من قبلك بكثير.
دخل الفتى الى الكهف. جلس أمام كومة الثمار، إستحضر عقله كل أشكال جذوع وأوراق وزهور أشجار كل صنف منها، راح يطرح أسئلته الحائرة من جديد :
ـ من الذى صنع الإختلاف بين أنواع الأشجار وبعضها؟.. ما الذى تسبب فى إختلاف شكل الجذوع والفروع والأوراق والزهور والثمار؟.
استحضر العقل طعم الثمار على لسانه.. واحدة بعد الأخرى،تذكر اختلاف طعومها من نوع الى آخر . قال متسائلا:
ـ هل الإختلاف فى الشكل يؤدى الى الإختلاف فى الطعم ؟.
راح يبحث عن إجابات. الأرض هى الأرض.. وطعام الأشجار هو نفس الطعام، وشرابها هو الشراب، كيف تصبح كل شجرة مختلفة عن الأخرى فى كل الأشياء.. ومن الذى أوجد الأشجار منذ البداية وجعلها متشابهة فى طعامها وشرابها مختلفة فى أشكالها وزهورها وثمارها؟ هل للأشجار ذكر وأنثى مثل كل فصائل الطيور والحيوانات؟.
تذكر عقل الفتى أن الأزهار تصنع بذورا وتتطاير البذور فى الهواء أو تحملها جلود الحيوانات وتحط على الأرض لتنبت برعما صغيرا ينموا صاعدا إلى أعلى.. قالت نفسه:
ـ البذرة بنت الشجرة.
سأل عقله:
ـ ومن الذى جعل الشجرة تنبت بذرة ؟
ـ ومن االذى جعل البذرة تخرج برعما يكبر ويكبر حتى يصير شجرة تزهر وتثمر وتعطى بذورا جديدة ؟
سالت النفس مجددا وقالت:
ـ ومن الذى أوجد الشجرة منذ البداية.
شرد العقل قليلا بحثا عن الإجابة.. ثم قال هامسا:
ـ السؤال الأصعب، هو من أوجد كل هذه الأشياء.
صمت العقل قليلا ثم قال هامسا للفتى:
ـ أنا أظن أن الذى أوجد كل هذه الأشياء موجود حيث تتطلع اليه، وحيث يصعد الماء والدخان.
هب الفتى واقفا.. أسرع الى خارج الكهف.. وقف عل بابه.. إكتشف أن الشمس تركته وراحت وأن الليل قد جاء، نظر الى السماء.. رآها بعيدة بعيدة. مرتفعة إرتفاعا لم يكن يتوقعه.. تجرى من تحتها ندف من سحب بيضاء تتهادى .. تتداخل .. تكون أشكالا يتخيلها أشكال طيور وحيوانات.
زاد عقله شرودا.. تذكر سقف الحجرة الخشبية التى صنعها فى الصباح وكيف لم تتحمل أعمدتها ثقل السقف وانهارت، تساءل.. كيف لا تنهار هذه ولا يوجد أعمدة تحملها.. صاح يسألها من الذى رفعها بدون أعمدة ؟.
شعرت الفتى أن الربوة تدور بها.. وأن كل الأشياء عرفتها وفكر فيها تجرى من أمامها.. أسرع بالدخول طلبت منه نفسه أن ينام حتى يستريح فأطاعها.
(25)
لم يتعود الفتى أن ينظر الى أعلى ويتفكر فى ما يراه، كما فعل الآن، فى طفولته وصباه، كان مثل كل فصائل الحيوانات التى عاش بينها.. وتعلم منها ما يفيد حياتهم بكل جدية، ولم يعرفوا أبدا كيف تعلموا ما يفعلون. ولم يسألوا أبدا عن معنى ما يفعلون، عرفوا فقط أنها تفيدهم فأقبلوا عليها. وكان مثلهم.
حاول أن يطيع نفسه ويكف عن التفكير وينام.. تمدد بجوار النار.. ظلت الأسئلة تتلاحق فى عقله باحثة عن إجابة.. لم يستطع النوم. إعتدل جالسا، أراد عقله النظر الى علو السماء ، خرج ووقف أمام فتحة الكهف، نظر الى أعلى وقفت حدود نظره أسفل السحب البيضاء التى تتهادى تحت السماء، رآها وهى تتداخل مع بعضها، تكون تشكيلات تقترب من أشكال الحيوانات التى يراها تتصارع على الأرض، ثم تتداخل السحب ثانية مع بعضها ثانية وتتلاشى الأشكال التى أمامه وتتشكل أخرى. كل هذا وهى تواصل حركتها.
تعجب الفتى مما يراه، تساءل عقله وقال:
ـ من هذا الذى فوق يسوق هذا؟.. وإلى أين يوجهه؟.
تذكر عقله تلك السحب الداكنة التى رآها وهى تفرغ ماءها فوق الجبل الذى يتوسط جزيرته، ليندفع هابطا فى سرعة مكونا بحيرة تتفرع منها القنوات تنتشر فى الأرض ليشرب منها الأحياء.. تساءل عقله ثانية وقال:
ـ من هذا الذى فوق ويسوق هذا؟. وإلى أين يوجهه؟.
إبتعدت السحب.. كشفت عن نصف القمر الذى كان فوقها.. هبط نوره الفضى فوق قمم الأشجار وأعشاب الوادى الذى أمامه. صار قادرا على أن يرى تفاصيل الأشياء. تعجب وراح يبحث بعقله عن سبب ما رآه .
نظر الفتى الى نصف القمر الفضى الذى ينير له الدنيا وتذكر أنه يأتى فى البداية من جانب الجزيرة حيث تأتى الشمس فى الصباح .. فى البداية يكون خيطا رفيعا مقوسا مثل قرن التيس ويختفى دون أن ينير شيئا، وكل يوم يأتى أكبر قليلا من اليوم الذى سبقه، ويكثر نوره.. وتطول مدة بقائه معهم .. ويذهب، ويتوالى حضوره وذهابه، ويكبر حجمه، حتى يصير مدورا مثل عينى أمه التى رحلت، ثم يبدأ فى النقصان حتى يصير خيطا رفيعا كما بدأ، وفى كل مرة يختفى فى الجانب الآخر من الجزيرة.. حيث تختفى الشمس آخر كل يوم.. ثم يأتى من الجانب الذى يجئ منه فى كل مرة.
صاح الفتى على القمر قائلا:
ـ كيف تولد صغيرا وتكبر وتكبر ثم تصغر وتصغر حتى تختفى.
أتاه صوت من فوقه يقول:
ـ كل الأشياء تبدأ صغيرة وتكبر وتؤدى دورها فى الحياة ثم تختفى.
رفع الفتى رأسه عاليا فوجد البومة فى عشها.. قال لها متسائلا:
ـ هل يولد واحد جديد كل فترة يكبر ويكبر ثم يختفى؟
أجابت البومة فى هدوء وقالت:
ـ إنه هو هو لا يتغير.
سأل الفتى ثانية وقال:
ـ لماذ يكبر ثم يصغر ثم يختفى؟. هل يأكله أحد؟ ولماذا لا يسقط على الأرض، هل هناك من يمسك به فوق؟.
أجابت البومة قائلة:
ـ عليك أن تفكر حتى تعرف بنفسك.
صمتت البومة قليلا ثم أشارت الى لأشجار وقالت:
ـ ما هذه؟.
أجاب الفتى وقال:
ـ أشجار .
قالت البومة فى حكمة:
ـ إسمع يا فتى.. سأعلمك شيئا. إذا نظرت إلى شجرة فرأيتها شجرة، فأنت لم ترها حقاً. أما إذا نظرت إلى الشجرة ورأيت أن وجودها معجزة، فقد رأيت دليلا على وجود من تسأل عنه.
قالت البومة هذا الكلام وطارت مبتعدة. صار الفتى وحيدا.. شعر أنه مجهدا، دخل الى كهفه ربما يستطيع النوم حتى يستطيع عقله أن يفكر.
(26)
ظل الفتى مستيقظا.. كانت كلمات البومة العجوز ما زالت تدور فى ذهنه، اذا نظرت الى شجرة فرأيت شجرة فأنت لم تر الشجرة حقا.. أما إذا نظرت الى الشجرة ورأيت أن وجودها معجزة فقد رأيت دليل على من تسأل عنه.. راح عقله يتساءل عما تقصد هذه البومة ويقول؟
ـ ماذا يعنى أن يرى الشجرة معجزة؟.
ـ وما معنى المعجزة أصلا؟.
ـ وأين هذه القوة التى تقدر على كل شئ؟.
خرج ثانية الى الربوة وجلس أمام فتحة الكهف ثانية واستمر عقله فى تساؤلاته.
كان حوار الفتى والبومة العجوز قد أيقظ الهدهد من نومه.. وحين رأى أن البومة تركته على أمل أن يفكر ويفهم، وأن الفتى لم يصل الى إجابات عن تساؤلاته وازدادت حيرته، ترك عشه وتحسس الطريق حتى هبط اليه، وبالقرب من رأسه وقف.. سأله قائلا:
ـ ما الذى يحيرك يا فتى ؟.
رد الفتى وهو شارد وقال:
ـ ما معنى معجزة؟.
أجاب الهدهد وقال:
ـ المعجزة هى أن يصنع أحد شيئا لا يمكن لمن رأوه أن يصنعوا مثله ويعترفون له بالقدرة التى تفوق قدرتهم بكثير.
سأل الفتى وقال:
ـ ومن الذى يصنع المعجزة ولا نراه؟.
أجاب الهدهد حازما وقال:
ـ عليك أن تكتشف ذلك بنفسك.
عاد الفتى للسؤال وقال:
ـ هل رأيته؟.
رد الهدد قائلا فى حكمة:
ـ هو لا يراه أحد .
سأل الفتى ثانية وقال:
ـ وكيف تعرف أنه موجود؟.
أجاب الهدهد شارحا وقال:
ـ تستطيع أن تراه فى الأشياء التى أوجدها على الأرض أو فى السماء، تأمل يا فتى واكتشف وجوده بنفسك. يا فتى.. اذا عرفت الموجودات التى حولك جيدا.. عرفت من أوجدها.
قال الهدهد هذا الكلام وترك الفتى وعاد الى عشه.. صاح الفتى عليه وقال سائلا:
ـ ومن الذى أوجد الموجودات التى حولى؟.
أجاب الهدهد هو يستعد للنوم ثانية:
ـ أوجدها الذى يستطيع أن يجعلها موجودة من لا شئ.
ظل الفتى مفكرا، وقد إختلط فى عقله كلام الهدهد مع ما كلام البومة. هذه تقول له:
ـ إذا نظرت إلى الشجرة فرأيتها شجرة، فأنت لم ترها حقاً. أما إذا نظرت إليها ورأيت أن وجودها معجزة، فقد رأيت دليلا على وجود من تسأل عنه.
وهذا يقول له:
ـ تستطيع أن ترى ذلك الذى فوق فى معجزاته.
ـ وأنه اذا عرف الموجودات التى حوله جيدا.. عرف من أوجدها.
أدرك الفتى أن هناك من أوجد الأشياء التى حوله، وأن الهدهد والبومة يعرفانه.. ويريدان له أن يعرفه بنفسه.
وأدرك أن عليه أن يعود الى البحث عنه فى الأشياء التى حوله فهى دليل على وجوده. وقرر أن يفعل ذلك فى الصباح.
هبت نسمة جعلته يشعر بالبرد،نظر الى النار داخل الكهف يسالها الدفء ، وجد لهيبها يتراقص فى الهواء .. فتمدد بجوارها ونام.
(27)
مرت أيام وشهور كثيرة والفتى يصحو من نومه كل صباح، يطعم النار بما يكفيها طوال اليوم، يهبط من كهفه، يستقبله الحصان بصهيل متقطع مرحبا به، يدخل اليه فى خميلته، يتمسح الحصان بجسده، يربت على جبهته بحنان، يقفز على ظهره.. ويخرج به فى رحلات يتأمل فيها الفتى كل المخلوقات.
كان الحصان يسير بالفتى متبخترا فى ممرات الجزيرة، يقف أمام أشجارها.. يقضم من أوراقها.. ويجنى الفتى من ثمارها إفطاره. ويتأمل كل ما تراه عيناه من أشجار.. وطيور وحيوانات وسماء عاليه تتهادى من تحتها سحب مختلفة بيضاء وسوداء، وشمس تأتى من الشرق تسير فى أفق لا تغيره حتى تختفى فى الغرب.
رأى الفتى كل أنواع الأشجار .. تأمل فى أشكالها، كلها لها جذوع وأفرع وأوراق.. وكلها تنتج زهورا تعيش الزهور أيامها ثم تذهب وتترك وراءها الثمار. لكن لا جذع يشابه جذعا.. ولا فرع يشابه فرعا.. ولا ورقة تشابه ورقة..ولا زهرة تشابه زهرة.. ولا ثمرة تشابه ثمرة، كل هذا الإختلاف بالرغم من أن الأرض واحدة، والطعام واحد.. والشراب واحد.
إكتشف الفتى أن هناك أشجارا غير مثمرة تتوسط الأشجار التى تحمل الثمار. توقف عندها كثيرا.. تساءل عقله عن السبب الذى جعلها غير مثمرة. قرأ قرد الحيرة فى عينيه.. قفز حتى هبط الى مستوى رأسه، قال له:
ـ هذه شجرة ذكر.
سأل الفتى فى دهشة وقال:
ـ هل فى الأشجار ذكور وإناث مثل الحيوان؟.
قال له القرد:
ـ كل المخلوقات فيها ذكر وأنثى .. وبدونهما معا لا يأتى الصغار. فلا الذكر وحده قادر على الإنجاب.. ولا الأنثى وحدها قادرة أيضا.
قال القرد هذا الكلام..قفز صاعدا يتعلق بالفروع وهو يقول:
ـ تعلم يا فتى.
سار الفتى يفكر فى كلام القرد، عاد الى طفولته ثانية، كان هناك إناث مثل أمه التى أرضعته.. وكان هناك الذكور أصحاب القرون مثل التيس الذى تعارك معه. وبالفعل كانوا يعيشون معا وتلد الأنثى الصغار. لم ير ذكر يلد أبدا.. ولم ير أنثى تلد بدون ذكر يعيش معها.. تساءل وقال:
ـ هل الطيور أيضا كذلك؟.
رفع الفتى راسه الى الطيور. كان عقله أشد حيرة وأكثر تفكيرا.. فمثلهم مثل النبات والحيوانات، وجد كل زوجين يتجاوران فى العش أو فوق الفروع . أدرك أن الحياة كلها قائمة على زوجين من كل صنف ونوع.
عاد ثانية يتأمل خلق الله.. وحين وجه الفتى نظره وفكره الى كل فصائل الحيوانات، كلها لها جسد يسير على أربعة قوائم، ولها ذيل يخفى عورتها ورأس يحمل عينان وأذنان وشفتان وأنف له فتحتان، تتشابه أعضاء الفصيل الواحد فى كل شئ، وتختلف مع أعضاء الفصائل الأخرى إختلافات قليلة.. هذه كبيرة الحجم وهذه صغيرة، وهذه رءسها ذات قرون وهذه رءوسها ملساء، هذا سريع الجرى وهذا بطئ، وهذا يتسلق الأشجار وهذا لا يستطيع.
وحين عاد يتأمل الطيور ثانية .. أدرك أنهم يتشابهون فى شكلهم العام وفى قدرتهم على الطيران ولكنهم يختلفون فى اللون والحجم والصوت وشكل العش وحجمه.
صار الفتى كلما رأى وتأمل ما يراه.. كلما إزداد إيمانا بأن هناك قوة جبارة توجد فى الأعالى، حيث تتطلع اليها الأشجار وتصعد اليها قطرات الماء الدقيقة، وهذه القوة قادرة على إيجاد كل هذه الأشياء.
وبعد أن كان يسأل من الذى استطاع أن يجد كل هذا.. صار يسأل كيف استطاع صاحب هذه القوة أن يفعل كل هذا على الأرض. وأن يوجد كل هذه الموجودات وأن يجعل فيها كل هذا التشابه وكل هذا التنوع والإختلاف فى نفس الوقت .
(28)
وقف عقل الفتى يفكر كثيرا فى صاحب هذه القوة الجبارة.. التى تستطيع أن تفعل أشياء يعجز كل من على الأرض أن يفعلها، ويتأمل معجزاته من حوله ويقول لنفسه:
ـ لم يستطع أحد أن يرفع سقفا بدون أعمدة تحملها. وهذه القوة رفعت هذا السقف الأزرق عاليا بدون عمد. وجملته بلآلئ يلمع فى الظلام.
ـ ولم يستطع أحد أن يخرج من سطح الماء قطرات دقيقة تصعد الى أعلى وتتجمع فى سحابات تتراقص هناك . وهذه القوة رفعتها من سطح البحر الى أعلى.
ـ ولم يستطع أحد أن يسوق السحاب فى الأعالى ويجعله يفرغ ماءه ثانية الى الأرض. وهذه فعلتها وجعلتها تنزل ماءها فوق الجزيرة.
ـ ولم يستطع أحد أن يجعل الماء ينساب فوق سطح الأرض فتنبت أشجارا مختلفة الأشكال والأنواع والثمار. وهذه القوة فعلت ونبتت البذور فى كل مكان.
ـ ولم يستطع أحد أن يجعل الأشجار تحمل بذورا تحملها الرياح وجلود الحيوانات ومناقير الطير لتسقط منها على أرض خالية فتنبت طعاما شهيا لمن أراد. وهذه القوة فعلت ووجد الجميع طعامه.
ـ ولم يستطع أن يجعل هناك ظلاما ونورا. وهذه القوة فعلت وجعلت هناك ظلاما ينامون فيه.. ونورا يسعون فيه بين الطرقات يأكلون ويشربون.
آمن الفتى بأن هناك فى السماء من يحمل قوة تسيطر على كل شئ، وتفعل كل شئ، فهدأ قلبه وصار عقله يفكر فى صاحب هذه القوة.
وذات ليلة.. كان القمر بدرا، ينشر نوره الفضى فوق قمم الأشجار وعلى الروابى الخضراء، وقد هدأت كل الطيور فى أعشاشها.. وأوت كل الحيوانات الى جحورها وأوجارها. وسكن الليل.
كان الفتى أمام كهفه يفكر فى صاحب تلك القوة الذى استطاع أن يفعل ما لم يستطع أحد غيره أن يصنعه، ولم يستطع هو أن يراه بعينيه.. لكنه رآه فى فى كل شئ أوجده على الأرض من حوله. قال له عقله:
ـ لابد أن يكون لصاحب هذه القوة اسما تناديه به مخلوقاته التى أوجدها.
صاح مناديا من فى السماء وقال:
ـ أيها الجبار الذى فوق، من أنت وكيف أناديك ؟
أتاه صوت البومة العجوز من فوق راسه يقول له:
ـ هو الله يا فتى .
سأل الفتى متعجبا وقال:
ـ الله؟!! من الله ؟.
أجابت البومة فى وقار وقالت:
ـ هو الخالق الذى تسبح له كل المخلوقات يا فتى، فتأدب فى حديثك معه.
سأل الفتى فى أدب وقال:
ـ ما معنى تسبح له؟.
أجابت البومة فى حكمة وقالت:
ـ يعنى تعظمه وتحمده على كل ما أعطاها، وتكبره فلا أحد أكبر منه، وتنزهه من الخطأ فهو لا يخطئ أبدا.
سأل الفتى ثانية وقال:
ـ وماذا أقول حتى أسبح له مثل كل المخلوقات؟.
أجابت البومة وقالت:
ـ تقول.. سبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله والله أكبر.
صمتت البومة وعادت تدور برأسها تبحث بعينيها الحادتين عن فأر يسرح فى الأرض أو عصفور تنازل عن حرصه وخرج من عشه، أما الكلمات فقد حفظها الفتى فى عقله، وراح يرددها، وكلما كررها لسانه كلما أحب الله الذى عرفه بعقله وصدق قلبه بوجوده وقدرته. ونام ليلته راضيا .
(29)
إكتشف الفتى وجود الله سبحانه وتعالى بعد أن رآه فى مخلوقاته على الأرض، وآمن أنه هو الذى أوجد كل شئ، وهو الذى يرعى كل شئ، وكلما ردد كلمات التسبيح الذى علمتها له البومة.. كلما إزداد إيمانا بالله وحبا فيه، وهدأت نفسه وشعرت بالراحة والأمان واستسلمت للخالق يفعل بها ما يشاء . ولم يعد يشعر بالخوف من الحيوانات.. وفقدت الحيوانات والطيور خوفهم منه وصاروا يرحبون به حين يخرج من كهفه بدون حربة خشبية فى يده، ويسير فى ممرات الجزيرة على قدميه.. فتسير الحيوانات بالقرب منه، وتتراقص فوق رأسه الطيور وتقدم له الثمار. حتى الأشجار اذا رأته يريد أن يجنى شيئا من ثمارها، صارت تحنى له الفروع حتى يأخذ ما يريد.
وذات ليلة .. كان الفتى يجلس فى نور القمر الفضى يتأمل الحياة من حوله، ويسبح لله الخالق لكل شئ، وفجأة سألته نفسه سؤالا حيره، وقالت له:
ـ من أدراك أن الذى تسبح له هذا إله واحد .. من أدراك أنه لا توجد آلهة كثيرة غيره.
صمت العقل ولم يجب. هل يعقل أن يكون هناك قوتان كبيرتان قادرتان على عمل معجزات على الأرض.
فكر العقل فى كل ما رآه، الأشجار كلها متشابهة لها جذوع وفروع وأوراق.. لكنها تختلف من شجرة الى شجرة فى كل شئ، والطيور متشابهة فى كل شئ فكلها لها أجنحة تطير بها فى الهواء ومناقير تأكل بها.. لكنها تختلف من طائر الى طائر فى الحجم واللون ونوع الطعام وصوت الغناء، والحيوانات كلها متشابهة فكلها تمشى على أربع لكنها تختلف من نوع الى آخر فى الحجم واللون. وأخيرا قال للنفس:
ـ لو كان هناك قوة أخرى قادرة على أن تأتى بمعجزات لأتت بأشياء تختلف عن معجزات الله سبحانه وتعالى.
ثم قال مؤكدا:
ـ لو كان هناك قوتان لتصارعتا، واختل نظام الحياة على الأرض.
شردت نفس الفتى.. عادت الى الوراء الى زمن الطفولة، تذكرت صراع التيوس، كل منهم يريد أن يفرض سيطرته على الآخرين.. رأتهم وقد تشابكت قرونهم وكل منهم يحاول أن يدفع الآخر حتى يوقعه على الأرض، ويستمر الصراع حتى يتغلب القوى على الضعيف فينسحب ذليلا ويترك المكان للقوى الذى يختال بنفسه أمام الجميع. أفاقت النفس من شرودها وقالت للعقل:
ـ معك حق.. هو اله واحد لا شريك له.
عاد الفتى الى هدوئه وتسبيحه لله الواحد، إقترب منه الهدهد وقال له:
ـ هل رأيت الله كما كنت تريد؟.
أجاب الفتى فى خشوع وقال:
ـ رأيته فى كل مخلوقاته.. فهو موجود فى كل مكان.
سأل الهدهد وقال:
ـ هل تشعر أنه يراك ؟.
أجاب الفتى وقال:
ـ الله يرانى ويسمعنى لأنه موجود فى كل مكان.
عاد الهدهد للسؤال وقال:
ـ هل أدركت قدرته على الخلق؟.
أجاب الفتى وقال:
ـ من يستطيع أن يخلق كل هذا الذى حولى فهو قادر على كل شىء.
قال الهدهد فى حكمة:
ـ الآن عرفت الله يا فتى .. الآن عرفت الله.
طار الهدهد فى الهواء وهو يسبح لله ويحمده على ما أعطاه، واصل الفتى تأملاته فى خلق الله . وظل على حاله حتى كاد الليل أن ينتهى ولسعه البرد، فقام الى كهفه يطلب الدفء من النار، وحين شعر بالدفء نام.
(30)
وتوالت الأيام على الفتى ، يقضى نهاره وأغلب ليله يسبح لله الذى خلق كل شئ من حوله، وكلما انطلقت الكلمات من فمه كلما ازداد إيمانا.. وكلما اتجه بقلبه وعقله وروحه الى الله وشعر بقوة روحانية تربطه به سبحانه. ويرى خلقه على الأرض آيات صريحة على وجوده.
أدرك الفتى أن الله سبحانه وتعالى واحد لا اله إلا هو.
وهو وحده الخالق لكل شئ.
وهو الذى صور مخلوقاته صورا متناسقة ومختلفة فى نفس الوقت لتكون آية ومعجزة تظهر قوته لمن يريد أن يتأمل ويعرف الطريق اليه.
وهو الباطن الذى لا يرى أحد صورته.
وهو الظاهر فى مخلوقاته.
وهو القوى الجبار الذى يقدر على كل شئ.
وهو الذى رفع السماء عالية بلا أعمدة ترفعها.
وهو الذى يسوق السحاب لتمطر على الأرض الجرداء.
وهو الذى يأمر الأرض فتنبت البذور براعما يرعاها حتى تعطى ثمارها رزقا لمخلوقاته.
وهو الذى جعل فى كل مخلوق له وسيلة يدافع بها عن نفسه.
وهو الذى خلق من كل زوجين إثنين ليضمن بقاء الحياة من نسلهما.
عرف الفتى الله وإطمأن قلبه له.
وذات يوم.. بينما كان يسير فى ممرات الجزيرة غارق فى تأملاته لمعجزات الله فى خلقه. حاورته نفسه وقالت له:
ـ ألا تقول إن الله هو الذى أوجد كل هذه المخلوقات .
رد الفتى على نفسه وقال:
ـ نعم .. الله قادر على خلق أى شئ.
سألت انفسه ثانية وقالت:
ـ ألم تقل أن الله خلق من كل نوع زوجين لتستمر الحياة من نسلهما .
أجاب الفتى على نفسه وقال:
ـ نعم .. إنظرى الى كل ما حولك وستتأكدين من ذلك؟.
فاجأته النفس بسؤال لم يكن يتوقعه وقالت له:
ـ ومن الذى أوجدك هنا ولا يوجد شبيه لك ؟.
أصاب السؤال عقل الفتى بالحيرة. صحيح كيف جاء.. هل أوجده الله من العدم؟. ولماذا خلقه وحيدا وليس له زوج مثل كل المخلوقات؟. لقد أرضعته غزالة، هل هو إبنها وكان فى خلقه آية ومعجزة من معجزات الله؟.
ضاق عقل الفتى وعجز عن الوصول الى إجابات على تساؤلاته، لم يعد يوجه الى الطريق، وسار ضالا فى ممرات الجزيرة لا يعرف الى أين سيصل به الطريق، كل هذا لأن عقله يبحث عقله عن إجابة لسؤال نفسه.
أفاق الفتى على رذاذ موج البحر الثائر يداعب وجهه. جلس بجوار نخلة البلح العالية على شاطئ المحيط . تذكر قول أمه له بأنه من فصيلة مختلفة عن كل الفصائل التى هنا.. صاح متسائلا وقال:
ـ واين هذه الفصيلة، ولماذا أنا هنا وحدى؟.
مالت النخلة بجذعها ناحيته وقالت له حنان:
ـ أنت من أبناء آدم يا ولدى.
سألها متشككا وقال:
ـ وكيف تعرفين؟.
أجابت قائلة:
ـ كل الحيوانات والطيور والأشجار يعرفون.
صاح الفتى وقال:
ـ ولماذا لم يخبرنى أحد؟.
أجابت النخلة وقالت:
ـ فى البداية خاف منك الجميع .. وحين عرفت الله أحبك الجميع .
حكت النخلة الحكاية للفتى، وعرف كيف جاء أهله الى الجزيرة.. وكيف رفضت الطيور والحيوانات وجودهم فى الجزيرة وطاردتهم، وكيف نسوه وتركوه وحيدا. وكيف وجدته الغزالة وأرضعته. وحين تذكر أمه، إمتلأت عينيه بالدموع فتركها تنساب على خده.. وقام متثاقلا وأخذ طريقه الى كهفه .
ـ خاتمة ـ
لم يعرف النوم طريقه الى عين الفتى.. ظل شريط تاريخه يعرض على عقله صور حياته بالجزيرة.. تذكر كيف حبا على أربع.. وكيف إعتمد على الشجييرات القصيرة ووقف على ساقيه الخلفيتين، تذكر يوم اكتشف أنه يختلف عن كل ما حوله حين لم ينبت له قرنان فى رأسه مثل أصحابه من التيوس الذين كبروا معه.. وأتاه صوت أمه يقول له:
ـ لن ينبت لك قرون يا ولدى فأنت من فصيلة مختلفة عن كل الفصائل التى هنا .
وتذكر يوم أن خاصمه التيس الكير من أجل عشبة خضراء وقاتله معتمدا على قرنيه، وكيف هداه عقله الى اكتشاف الحربة الخشبية ذات السن المدبب والتى صارت بديلا له عن القرنين يدافع بها عن نفسه، وكيف تجنبت الحيوانات الإقتراب منه وابتعدت عن طريقه حين امتلك النار.
وانطلق عقل الفتى يبحث عن صور لأهله الذين طاردتهم الطيور والحيوانات ورفضوا وجودهم على أرضهم خوفا منهم ونسوه وحيدا ورحلوا. قد كانت الغزالة أحن عليه من أمه التى ولدته حين نسته وتركته للغزالة ترضعه بديلا عنها.
إمتلأ قلب الفتى بالحنين الى أهله.. الى صحبة من جنسه، يسبحون لله معا.. ويبحثون معا فى قدراته ومعجزاته على الأرض .
صمت العقل قليلا.. وجدتها النفس فرصة وقالت متسائلة:
ـ ومن أدراك أنهم عرفوا الله كما عرفته؟.
أجاب العقل وقال:
ـ العقل الذى إهتدى الى أن يركب موج البحر لابد أم يكون عرف الله وآمن به فسخر له البحر مركبا وطعاما.
قرر الفتى أن يركب البحر ويخرج باحثا عن عشيرته.. إذا كانوا قد سبقوه وعرفوا الله فإنه سيعرف منهم ما عرفوه.. وإذا كان قد سبقهم هو، فيعلمهم ما عرفه وما آمن به.
حين وصل الفتى الى هذا القرار.. هدأت روحه وبدأ النوم يداعب عقله فاستجاب له، ولم يعرف أن البومة والهدهد كانا شاهدين على قراره.
وحين جاء الصباح وطرد ضوء الشمس ظلام الليل من فوق الجزيرة، صحا الفتى.. وحين خرج من كهفه وأطل على الوادى الأخضر أمامه فوجئ بكل الحيوانات والطيور تقف فى إنتظار .. ولحظة أن لاح لهم صاحوا جميعا:
ـ أنت سيدنا.
بهدوء قال الفتى:
ـ سيدى وسيدكم هو الله سبحانه وتعالى.
قالت الطيور والحيوانات:
ـ إبق معنا .
قال الفتى:
ـ عندى حنين للأهل.. لابد وأن أحاول العثور عليهم.. أنا فى حاجة اليهم ، وربما كانوا هم فى حاجة إلى. ساعدونى لإعداد مركب بحر كالذى جاءوا وراحوا به.
إضطرت الحيوانات الى طاعة الفتى وقاموا بجمع جذوع الشجر الجافة الملقاة فى الجزيرة هنا وهناك.. وأسفل نخلة البلح العالية ربطها الفتى بجوار بعضها بحبال صنعها من الياف الأشجار وليف النخيل، وصنع طوفا كبيرا ولم ينس أن يصنع لنفسه حجرة صغيرة فى وسطه ليحتمى فيها.. ومن عند أحد أطرافه صنع دفة توجهه.
تعاونوا جميعا ودفعوا الطوف الى الماء.. وقبل أن يبحر به الفتى.. كانت الطيور قد حملته بكميات كبيرة من ثمار الجزيرة وفاكهتها.. ووقفوا جميعا على فروع الأشجار المطلة على البحر يشاركون الجيوانات فى وداعه. وظلوا يراقبونه حتى إختفى عن أعينهم فعادوا الى جزيرتهم وهم يدعون له بالسلامة .
ـ تمت بحمد الله ـ
ـــــــــــــــــــ
تتريب : صوت الظباء
الغلاف الأخير
ــــــــــــــــــــ
هذه الرواية
كان الشيخ الرئيس ابن سينا اول من وضع صياغة عربية لفكرة هذه الرواي وجعل اسم بطلها (حى ) ورمز به الى الإنسان وهو ابن (يقظان) الذى رمز به الى العقل اليقظ الذى يقود الإنسان الى الملكوت الأعلى .
ومن بعد ابن سينا بقرنين من الزمان جاء ابن طفيل وأعاد كتابتها فى رواية أسمها (حى ابن يقظان) ومن بعده كتبها شهاب الدين عمر السهروردى وجعل اسمها (الغربة الغريبة)، ثم كتبها السورى ابن النفيس تحت عنوان(ابن ناطق).
وترجمت رواية (حى بن يقظان) لإبن طفيل الى عدة لغات وتأثر بها الكاتب الإنجليزى دانيال ديفو الذى أعاد كتابتها تحت اسم روبنسون كروزو
وفى أكتوبر من عام 1912م أعاد صياغتها الكاتب الأمريكى إدجار رايس بوروز فى رواية تحت إسم طرزان القردة
وفى بداية القرن الواحد والعشرين جاء الكاتب المصرى شهاب سلطان ليعيد صياغة الفكرة بأسلوبه السهل الممتنع ويقدم لها رؤية جديدة تتسم بروح الطفولة التى تشتهر بها كتاباته.
فإلى كل من يستطيع القراءة نقدم هذه الرواية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق