سؤال البرتقالة
غالية خوجة
تروي إحدى الحكايات:
أنّ علاء الدين ضيّع مصباحه في أثناء تجواله بين المدن والبلاد.. من لحظتِها، قرر علاء الدين أنْ لا يعود إلى قصّته (علاء الدين والمصباح السحري).
من لحظتِها أيضاً، لم يعدُ المصباحُ المفقودُ مسحوراً بسبب غياب صاحبه.. وبقي الماردُ مأسوراً في المصباح ينتظر من يخلّصهُ من سجنه ليعيش حياته العادية.. وفي يومٍ من الأيام، قررت أن ترتّب غرفتك، لتأخذ شكلاً آخر. نقلتَ طاولتك وكرسيَّكَ إلى الزاوية.
ووضعت صندوق ألعاب قرب المكتبة. اخترتَ دُبّاً أبيضَ وأجلسته على السرير.
ثم بدأت تعيد النظر في ترتيب الكتب. كان أبوك قد أهداك قطعةً برونزية صغيرةً بهيئة (المسجد الأقصى). تمسح القطعة بمنديلٍ نظيف، وتقول مُتحسرّاً:
-متى ستتحرر فلسطين لنزورها ونُصلّي في المسجد الأقصى؟…
يا الله، لقد مضى وقت طويل على احتلال فلسطين، منذ عام (1948م) المشهور بعام النكبة، ونحن نحلم برؤية فلسطين حُرّةً، أبيّة.
تمسح دمعاتك الطافرة من عينيك، تبعد لعبة (السنفور) الصغير من مكانها.
تنفض الغبار عن الكُتب، وإذ بك تلمح مصباحاً عتيقاً وجدته ذات يومٍ في حديقة بنايتكُم. وقتها، كنت عائداً من المدرسة، فرأيتَ شيئاً يلمع، حملتهُ، وفرحت به.. وقلت لأبويك:
-انْظُرا…
لقد وجدتُ هذا المصباح الأثريَّ في حديقة المبنى..
قالت أمُّكَ:
-أرِني..
فعلاً إنهُ جميل.
سأضعه في الصالة قرب ذاك الصحن الصيني..
فوراً قلتَ لأمك:
-أتمنى أن تتركيه لي، لأضعهُ في مكتبتي..
وكان لكَ ذلك.
وها أنتَ تخرج المصباح من رفِّ المكتبة.. تجدهُ شاحباً، فتمسحه.. بسرعةٍ تفركهُ كي يسترجع لمعته وبريقه.
وبغتةً، تسمع صوت أنين، ثم صوت حركة، ثم يخرج دخانٌ ضبابيٌ ويقف أمامك..
ماردُ المصباح يقف وبيدهِ برتقالة، وبصوتٍ جميل يقول لك:
-شُبيّكَ لُبيَّك، خادمُ مصباح علاء الدين بين يديك.
فتقول له مستغرباً:
-أحقّاً أنت هو، أم أنك لعبةٌ تمازِحُني.
المارد الذي لم يكن ضخماً، أجابك:
-حقّاً، أنا هو..
أنا ماردُ المصباح أيها الطفل الذي يحب وطنَهُ العربي.
بفرحٍ شديد تسأله:
-هل لي أن أطلب شيئاً؟
-يسعدني أن أنفّذَ كلماتك، لكنني لا أستطيع الآن.
-لماذا لا تستطيع؟
-لأنَّ وجودي فقدَ مفعولـه السحريَّ منذ ضيّعني علاء الدين..
-إذن، لماذا تقول: شبَّيْكَ لبَّيْك؟
-اعتدتُ على أن أقول ذلك حين أخرجُ من المصباح، وها أنا خرجت الآن للمرّة الأخيرة في حياتي، فقط من أجل أن أعطيك هذه الهدية.. فأنت من أنقذني، وقد عاهدتُ نفسي على أنْ أعطي هذه البرتقالةَ لمنْ سيفكُّ أسري ويُحرّرني من المصباح الذي لن أعودَ إليه بعدَ الآن أبداً..
ثم، وضع المارد البرتقالة على الطاولة، واختفى…
تدلك المصباح بسرعةٍ علَّ المارد يعود للظهور، لكنّهُ لا يفعل… كان صادقاً في ما يقول.
تُرجع المصباح إلى مكانه في المكتبة.
وتجلس على كرسيِّكَ متفحّصاً البرتقالة.
تمدّ يدكَ إلى البرتقالة اللامعة معتقداً أنها من ذهب.. تضعُها بين كفَّيْك، فتدلكها قليلاً، فتتحوّل إلى فتاةٍ فلسطينية، تلبس عباءةً، وتضع منديلاً على رأسها، تسألك:
-هل خفتْ مني؟
-خفتُ قليلاً..
ليس منك، بل، من حضورك المفاجئ.
-هل تستضيفُني مُدّةً قصيرة؟
-بالتأكيد، تفضّلي واجلسي على هذا الكرسي، وأنا سأحضر كرسيّاً آخر من الصّالة.
-أين أسرتك؟
-لا أحد في البيت غيري. فأمّي وأبي ذهبا لزيارة عمّتي.
تسألك الفتاة:
-هل لديك وقتٌ لنتحاور؟
بابتسامةٍ عذبة تُجيبها:
-نعم، فأنا مشتاقٌ لمعرفةِ كلِّ شيء عن حياتك.
تتنهّدُ الفتاة وتقول:
-أنا ابنةُ شجرةٍ وفيّة بقي جذرها في فلسطين.
رعتني والدتي شجرةُ البرتقال رعايةً كريمة، سقتني من نسغها الذي شرب من دماء الشهداء.
وتساعدت مع أوراقها في عمليّة التركيب الضوئيّ، فكبرتُ إلى أن أصبحتُ هذه البرتقالة.
تشهق الفتاةُ بألمٍ وكأنّها تبتلع دموعاً وحسراتٍ كثيرةً، ثم تتابع:
-لقد طردني الصهاينة من أرضي مع كثيرٍ من الفلسطينيين.
عبرتُ لبنان إلى سوريا حيث وجدني مارد المصباح، وأخذني إلى علاء الدين الذي قال له أدخلها معك إلى المصباح.. منذُ زمنٍ وأنا أقيم في هذا المصباح. ولم أكن أسمع غير أنينِ المارد، وهو يقول: سأُعطي هذه البرتقالة هديةً لِمَنْ سيُحرّرني..
-إذنْ، أنت هديّتي الغالية..
وستقيمين معي، ومع أسرتي..
هل تعجبك مدينتي؟
بصوت مجروح تقول الفتاة:
-كنت أتمنى أن تكون فلسطين مستقلّةً، لتكون (القدس) أو (حيفا) أو (يافا) شبيهةً بهذه المدينة الخلاَّبة.
بترحيبٍ كبير، تقول لها:
-لكِ أن تعتبريها وطنَكِ، ريثما ننجز حلمنا وتعود فلسطين
تسمعها تُنشد:
من الشامِ لبَغدانِ
بلادُ العربِ أوطاني
فتُنشدُ معها:
إلى مصرَ فتطْوانِ
ومن نَجْدٍ إلى يَمَنٍ
وعندما تصمتان، تقول لكَ:
-أنا أعتبرُ الوطن العربي كله وطني، لكنْ، ألا تشعرُ بأنَّ سماء وطنك، دائماً، هي الأجمل؟
يُحرجك السؤال، فتنهض من كرسيّكَ، وتخطو باتّجاه نافذتك، تفتحها، وترفع بصرك نحو السماء.. الشمسُ، رغم الحرارة، تبدو رائعةً.. و (الكورنيش) لا يعرف الاسترخاء ولا التعب، ومياههُ المتحركة مع النسمات تظهر مثل لوحةٍ عظيمة لن يكتشف أسرارها أكبر الرّسامين في العالم.
تستنشق نَفساً عميقاً، وتعود إلى الفتاة.
لكنك لا تجدُ أيَّ أثرٍ للفتاة.. تبحث في كلَّ غُرفِ بيتكَ، في المطبخ، على الشرفة.. تركض إلى المصباح. وتدلكه، لكنّهُ… لا يُجيب..
تغلق زجاج مكتبتك، وزجاج النافذة، وتجلس على أحد الكرسيَّيْن. تشردُ في الكرسي الفارغ الذي كانت تجلس عليه فتاةُ البرتقالة، وتتساءل:
-هل كنتُ أحلم؟…
وبينما أنتَ شاردٌ تنُقّلُ بصرك من الكتب إلى المسجد الأقصى البرونزيّ إلى المصباح، يأتيك صوتٌ من ذاكرتك، صوتُ برتقالةٍ حزينة:
ألا تشعر بأنّ سماءَ وطنك دائماً، هي الأجمل…؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق