فتاة الغدير
سعاد محمود الأمين
في واحة وسط الصحراء،تحفها أشجار النخيل الباسقة، وبساتين الفاكهة، والأعشاب تكسو الأرض بخضرة
زاهية. والمياه تتدفق من الينابيع، مكونة الغدير، الذي تؤمه فتيات الواحة، لجلب الماء. بجرار يحملنها على رؤوسهن . ويغسلن الملابس، ويسقين الحيوانات التي تدر لبنا وفيرا مكونا غذاء أساسيا للأهالي.وذلك لوفرة الماء الزلال والعشب . كان أهل الواحة سعيدين في حياتهم. بما وهبهم له الله من نعيم وزرع وضرع .متعاونون يوقرون كبيرهم ويرحمون مريضهم. ويعطفون على صغيرهم. ويحفظون غائبهم في ماله وعرضه حتى يعود. كانت واحة ود النمير مثل الفردوس.آمنة لا تخوض حروب مع القبائل وترعى العهود والمواثيق بين القبائل.
فتاة تدعى شمايل ،كانت تختلف عن فتيات الواحة ، عندما يأتين الغدير تجلس بعيدا ، تتأمل التلال الرملية المحيطة بالواحة ويلح عليها الفضول لترى خلف تلك التلال، الجاثمة بين تلك الشجيرات الجافة. وتحاول دائما الخروج من الواحة لتستكشف عوالم أخرى.
ذات يوم من الأيام تركت شمايل الفتيات وتسللت خلسة .
صارت تمشى وتمشى وتمشى.. مبتعدة، ولم تشعر بأنها قد ابتعدت عن الغدير، مسافة طويلة كان يدفعها الفضول للوصول لتلك التلال البعيدة، فقد كانت تراه قريبة يخدعها السراب، فكلما تقدمت إلى الأمام، ابتعدت عنها التلال ، ولكنها لم تتوقف إلا بعد أن بلغ بها التعب أشده.
فجلست لتستريح فنامت، عندها توارى قرص الشمس خلف التلال واختفت أشعتها الذهبية وتلون الأفق بالأحمر والأصفر والبرتقالي. استيقظت خائفة، مرعوبة، وقد حل الظلام فهرولت تسابق الريح صوب الواحة فقد يئست من الوصول للتلال.ولكنها ضلت الطريق وصارت تسرع الخطى هنا وهناك متخبطة لا تعرف الاتجاهات. وقد تملكها الخوف والصمت قد خيم على الصحراء، واكتست الصحراء بسواد الليل الحالك. جلست تحت الشجرة، وتوسدت يدها ودموعها تنهمر بغزارة.كانت الأحلام المزعجة توقظها بين الفينة والأخرى. وشاركتها الحيوانات البرية سكون الليل، الأرانب البرية والضب الخلوي والحشرات تتحرك كاسرة صمت الليل بهسيس وفحيح ومواء...
أصبح الصبح، وهى في توهانها لم تعرف لطريق العودة سبيلا.فجلست تبكى وتصرخ وتردد الصحراء صوتها لا مجيب .غير طيور تهيم نهارا، وتحط في أعششها ليلا فوق الشجرة، التي اتخذتها مسكنا لها.كلما مرت قوافل الجمال، كالأشباح تقطع الفيافي، ذهابا وإياب ،وكلابهم خلفهم .تهرول شمايل نحوهم وتصيح وتلوح لهم وتسير القافلة دون الالتفات إليها.
كانت تجلس وتبكى وتنشد قائلة لقوافل الجمال :جمالة هيى جمالة هيى.....
كلموا.. أمي.. وأبى .
قولوا ليهم شمايل الغالية
كانت تحب البادية
والحياة الهادية
والطيور الشادية
ياجمالة هيى ..هيى.... رجعوني لأمي وأبى.. ووإخوتى ومرقدى هيىهى
وتنخرط فى البكاء حتى جفت دموعها.ويئست من العودة . وندمت على مفارقتها للواحة والحياة الرغدة.
كان الطير الخدارى، يحط فوق الشجرة التى تجلس تحتها ويستمع لنشيدها، ويحنو عليها فيطير محلقا فى البوادي و الواحات ويعود ليلا ليجدها نائمة، فيضع لها ثمار النخيل، فتصحوا وتأكلها وتنظر الى الطيور شاكرة .ذات يوم جاءت القافلة، تسلك طريقا على مقربة من شمايل، فقفزت وصاحت: ياجمالة... ياجمالة فلم يلتفتوا إليها. فطار الطير الخدارى نحو القافلة وصار يصدر أصوات، وصيحات، لفتت نظر الركبان فتبعوها حتى وصلوا الشجرة التي تجلس تحتها شمايل صاح قائدهم:
ــ هل أنت من الأنس أم الجن؟
ـــ أنا إنسية اسمي شمايل من واحة الغدير
ــ ماذا أتى بك؟هل تركك أهلك هنا..
ــ كنت أتجول ولم أعرف طريق العودة فى متاهات الصحراء فقدت طريقي
حُملت شمايل على ظهر الجمل. وساروا بها نحو واحة الغدير. عندما وصلوا إلى مشارف الواحة أنزلوا ركابهم، وعقلوا جمالهم .وأرسلوا مرسالهم، إلى شيخ القبيلة يستفسروا، إن كانت لديهم فتاة مفقودة.
هرع أهل الواحة نحوهم بالترحاب.
ونحرت الذبائح وأطعم الجميع .
وغنت ورقصت الفتيات بعودتها سالمة .
ورحلت القافلة في مسيرتها.
نظر أبو شمايل إليها معاتبا لها على تهورها وابتعادها بمفردها وقال ناصحا لها :إ ن الذئاب تأكل الأغنام القاصية، فلا تفارقي الجماعة.
وتبتعدي فيسهل مهاجمتك.
لولا لطف الله بك ودعواتنا لهلكت في الصحراء.
بكت شمايل كثيرا على تصرفها وما جلبته من متاعب لأهل الواحة السعيدة، وأقسمت على نفسها ألا تفارق فتيات الغدير والحياة الرغدة.
و تنساق وراء أحلامها المستحيلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق