ذكر
النعامة والغزلان
بقلم: طلال حسن
" 1
"
ـــــــــــــــ
أقبلت الغزلان ، عند منتصف النهار ،
يتقدمهم الغزال الكبير ، وقد شمخ بقرونه المتشابكة القوية ، وأخذوا يعبون الماء ،
بعد أن كانوا قد فرغوا من تناول طعامهم ، من الأعشاب الندية اللذيذة .
وندت حركة ، تكاد لا
تسمع ، من بين الأشجار القريبة ، فرفعت الغزلان رؤوسها خائفة ، وتأهبت للفرار ،
ورمق الغزال الكبير الغزالة العجوز بنظرة سريعة ، ثم قال : مهلاً ، لعلها الريح ،
لكن الأفضل أن نمضي من هنا ، هيا .
وقبل أن يتحرك الغزال
، تطلعت الغزالة إلى الأشجار القريبة ، وقالت: لا داعي للخوف ، إنه ذكر النعامة.
وهزّ الغزال رأسه ،
ودمدم قائلاً : مرة أخرى ؟
وأطل ذكر النعامة ،
من وراء إحدى الأشجار ، وتوقف متردداً ، يقلب النظر بين الغزلان ، ونادته الغزالة
العجوز بصوت رقيق : تعال اشرب ، إذا كنت عطشاناً.
وعلى الفور ، تقدم
ذكر النعامة ، وأخذ يعب الماء من الغدير ، وقد بدا عليه الارتياح ، وحدج الغزال ،
الغزالة العجوز، بنظرة غاضبة ، ثم مضى مبتعداً ، وهو يقول : هيا ، لنمضِ ، اتبعوني
.
وأسرعت الغزلان في أثره
، عدا الغزالة العجوز، التي بقيت تتململ في مكانها ، ورفع ذكر النعامة رأسه ،
وتطلع إلى الغزلان المبتعدة ، ثم قال : لقد ذهبت جماعتك .
وحدقت الغزالة العجوز
فيه لحظة ، ثم قالت : منذ أيام عديدة ، وأنت تتبعنا .
وتنهد ذكر النعامة ،
وقال : لقد رافقت قطيعاً من الحمير الوحشية، فترة طويلة ، وقد تركت القطيع ، حين
رأيتكم.
وصمت لحظة ، وقال
بنيرة حزينة : إنني وحيد .
ورغم تأثرها ، مضت
الغزالة العجوز في اثر الغزلان، وهي تقول: أنت ذكر نعامة ، ونحن غزلان ، هذا ما
يقوله الغزال .
" 2
"
ــــــــــــ
أوت الغزلان ، بعد غروب الشمس ، إلى بقعة
كثيفة الأشجار، وجثموا قرب الغزال، كأنهم يحتمون به مما يخبئه الليل من مخاطر .
وهدأ الجميع ، وكادوا
يغفون ، حين ارتفع من بعيد من بعيد عواء ممطوط بشع : عووووو.
وهموا بالنهوض ،
والهرب مولولين : الذئب .. الذئب.. الذئب .
فنهرهم الغزال قائلاً
، دون أن يتحرك من مكانه : كفى ، لننم ، إنه بعيد .
وهدأ الجميع ثانية ،
وجثموا في أماكنهم ، وأغمضوا عيونهم ، وسرعان ما استغرقوا في نوم عميق .
وقبيل منتصف الليل ، أفاقت
الغزالة العجوز ، على حركة بين الأشجار، وعرفت أنه ذكر النعامة ، فنهضت بهدوء من
مجثمها ، وتسللت نحوه على أطراف أقدامها .
ورغم الظلام ، رآها
تقترب منه ، فأسرع إليها ، وقال : عفواً إذا كنت قد أيقظتك .
وصمت لحظة ، ثم قال :
لقد سمعت عواء الذئب ، وخشيت أن يهاجمكم ، وأنتم نيام .
فردت الغزالة العجوز
: لا عليك ، إنه بعيد جداً .
ثم أشارت له أن
يتبعها ، وهي تتقدمه ، أن : تعال .
وسار ذكر النعامة في
أثرها ، حتى وصلا بقعة صغيرة معشبة، تحف بها الشجيرات ، فتوقفت الغزالة العجوز ،
وقالت : الجميع نيام ، لنجلس هنا .
وجلست الغزالة العجوز
على العشب ، وجلس ذكر النعامة إلى جانبها ، وقال : الوقت متأخر ، آمل أن لا أكون
قد ضايقتك .
وربتت الغزالة العجوز
على كتفه ، وابتسمت قائلة : أبداً ، إنني سعيدة بك ، فقد عشت فترة مثلك .. وحيدة .
وأطرق ذكر النعامة
لحظة ، ثم قال : منذ فترة طويلة ، وأنا وحيد ، فقد كنت صغيراً ،حين فارقت أبويّ وإخوتي ، ويبدو أنني تهت عنهم ،
لكن من يدري ، ربما أعثر عليهم يوماً ما .
وابتسمت الغزالة
العجوز ، وقالت : أو تعثر على نعامة فتية .. في عمرك .
وتطلع ذكر النعامة
إليها ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقالت ، وهي تغالب تثاؤبها : أنت متعب مثل ، لننم
الآن .
ووضعت رأسها ، فوق
قائمتيها الأماميتين ، وقالت بصوت ناعس : تصبح على خير .
وأغمض ذكر النعامة
عينيه ، وقال : تصبحين على خير.
وما إن مرت لحظات ،
حتى استغرق ذكر النعامة والغزالة العجوز ، في نوم عميق .
" 3
"
ــــــــــــــ
أفاق ذكر النعامة ، صباح اليوم التالي ، على
الغزال الكبير ، وقد أحاطت به الغزلان ، يصيح بالغزالة العجوز منفعلاُ : الويل لك
، أنت تجلسين هنا مرتاحة ، ونحن نبحث عنك في كل مكان؟هيا ، انهضي .
وهبت الغزالة العجوز
واقفة ، وحاولت أن ترد ، لكن ذكر النعامة ، سبقها قائلاً بلهجة اعتذار : إنني آسف
، فالذنب ليس ذنبها ، بل.. .
وقاطعه الغزال بحدة ،
دون أن ينظر إليه: اسكت أنت .
وهمّ ذكر النعامة أن
يرد على الغزال، لكن الغزالة العجوز، نظرت إليه مترجيه، وقالت : من فضلك ، دعِ الأمر
لي .
ولاذ ذكر النعامة
بالصمت ، مغالباً انفعاله ، والتفتت الغزالة العجوز إلى الغزلان ، وقالت : يبدو
أنني ، وبدون عمد ، تسببت في إقلاقكم.
وردت غزالة بشيء من
الانفعال : وأي إقلاق .
وقالت غزالة أخرى :
لقد ظننا أن الذئب قد اختطفك .
فردت الغزالة العجوز
قائلة : لست خشفاً ليختطفني الذئب .
وزفر الغزال متضايقاً
، وقال للغزالة ، دون أن ينظر إلى ذكر النعامة : قولي لهذا .. ألا يتبعنا ، فنحن
لسنا نعام .
وسار مبتعداً ، وقد
شمخ بقرونه المتشابكة القوية ، وعلى الفور ، أسرعت الغزلان جميعاً في إثره ، عدا
الغزالة العجوز .
والتفت ذكر النعامة
إلى الغزالة العجوز ، وقال بصوت حزين : لقد ذهبوا جميعاً ، اذهبي ، اذهبي أنت
أيضاً .
وتطلعت الغزالة
العجوز إليه بعينين دامعتين ، وقالت : لو كان الأمر بيدي ، لتمسكت بك ، وأبقيتك
معنا .
فرد ذكر النعامة
قائلاً : هذه عاطفة طيبة ، أشكرك .
واستطردت الغزالة
العجوز قائلة : في طفولتي ، رأيت العديد من النعام وطيور الرية ترافق الغزلان
لأشهر طويلة من السنة .
وأطرق ذكر النعامة
رأسه ، ثم قال : أخشى أن تبتعد الغزلان كثيراً ، اذهبي ، اذهبي إليهم .
وتراجعت الغزالة
العجوز ، وقالت بصوت تخنقه الدموع : وداعاً .
" 4 "
ـــــــــــــ
رفع ذكر النعامة رأسه مستوفزاً ، إذ عصف به
عواء ، كأنه هدير عاصفة ، ينحدر إليه من أعلى التلال : عووووو .
وتراءت له الغزلان
وبينهم الغزالة العجوز ، وفي نفس الوقت ، ترددت في أعماقه كلمات الغزال : قولي
لهذا ألا يتبعنا ، فنحن لسنا نعام .
وعصف به العواء ثانية
: عووووو ، فتساقطت كلمات الغزال ، ولم تبق في أعماقه ، سوى الغزلان والغزالة العجوز
، وعلى الفور ، وبدون تردد ، انطلق في إثر الغزلان .
ومن حسن حظ الغزلان ،
أنه وصل إليهم في الوقت المناسب ، فقد كان الذئب يندفع نحوهم ، وقد كشر عن أنيابه
الشبيهة بالخناجر ، فأسرع يتصدى له ، وبقائمتيه القويتين ، المنتهيتين بمخلبين
حادين ، رفسه رفسة صاعقة جارحة ، وصرخ الذئب ، وتهاوى منسحقاً على الأرض ، وسرعان
ما تحامل على نفسه ، ولاذ بالفرار، والدماء تسيل من جراحه .
ووقف الغزال ، تحف به
الغزلان ، أمام ذكر النعامة ، وقال بصوت يغرقه الشعور بالذنب : أشكرك ، لولاك لفتك
الذئب بالعديد منّا .
وصمت محرجاً ، فذكر
النعامة لم يكن يصغي إليه ، وكانت نظراته تحلق مبهورة ، متجاوزة الغزال ، والغزلان
، بل وحتى الغزالة العجوز ، وتململ الغزال ، ثم قال متردداً : يمكنك .. إذا شئت ..
أن ترافقنا .
واقتربت الغزالة
العجوز منه ، وهمست له قائلة : لنذهب ، فلن يرافقنا هذه المرة .
وحدق الغزال فيها
متسائلاً ، فأشارت إلى الوراء ، دون أن تتفوه بكلمة . والتفت متطلعاً بعينيه
الحائرتين ، وإذا نعامة فتية تقف على البعد ، وعيناها المبهورتان مثبتتان على ذكر
النعامة.
فالتفت إلى الغزلان ،
ثم تقدمهم هامساً : هيا ، فلنذهب .
وأسرعت الغزلان في
إثره ، عدا الغزالة العجوز . ونظر ذكر النعامة إليها ، فابتسمت ، وقالت : هذا
المكان محظوظ فسيضج بعد أشهر قليلة ، بوصوصة صغار النعام .
ابتسم ذكر النعامة ،
ثم مضى نحو النعامة الفتية ، بعد أن لوّح للغزالة العجوز ، وقال : حسن ، إلى
اللقاء .
النعام والرية طيور : لا تطير ، مثلهم في
ذلك مثل طيور الامو والشبنم والكيوي والبطريق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق