لنشر عملك بالمدونة Ahmedtoson200@yahoo.com



السبت، 16 نوفمبر 2013

نحو استراتيجية مُقْتَرحة للعمل الثقافى مع الأطفال .. ورقة عمل يقدمها: يعقوب الشارونى



نحو استراتيجية مُقْتَرحة
للعمل الثقافى مع الأطفال




ورقة عمل يقدمها: يعقوب الشارونى
يبلغ تعداد الأطفال فى العالم العربى حوالى 40% من سُكانه ، أى حوالى                  ( 120 ) مليونــًـا من المواطنين العرب ، تقل سنــّـهم عن 15 سنة . ويُتابع عدد كبير من هؤلاء الاستماع إلى الإذاعات من مُختلف أنحاء العالم ، ويُشاهدون برامج تليفزيونية            لم يوضـَـع كثير منها لأبناء منطقتنا أصلاً ، ويقرءون كُتبًا ومجلات عدد كبير منها مُترجم دون عناية بالاختيار ، ولا يُشاهدون إلا قليلاً من المسرحيات أو الأفلام العربية الخاصة بالصغار ، ويتابعون مواقعًا على الانترنت معظمها بلغات أجنبية ، وقد يُردّدون أغانى من التـُّـراث الشعبى لا تتفق فى كثير من مضامينها مع مُتطلبات العصر أو مع حاجات   الأطفال !
هذا فى الوقت الذى تخوض فيه الأمة العربية أكثر السنوات حسمًا فى تاريخها ، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية .
إن بناء الإنسان العربى لا يُمكِن أن يبدأ إلا ببناء الطفل العربى ، وبغير الإعداد الواعى الشامل لثقافة أطفالنا ، وبغير توجيه طاقات المُجتمع كُـلّه نحو الاهتمام بهذه القضية ، لن تتمكّن الأمة العربية من أن تــُـواجه بنجاح التحديات الهائلة التى يفرضها واقع العالم اليوم ، وهو واقع يتغيّر فى سُرعة ، ويترك من الآثار أعمقها وأبقاها ، خاصة وأن التأثير على أطفالنا واقع فعلاً ، ولكن من منابع ليس لنا تأثير عليها ، نتيجة للانتشار الواسع لوسائل الاتصال الجماهيرية والرقمية ، وبسبب السعى إلى الربح الذى يدفع بعض مَنْ يعملون فى حقل الوسائل الثقافية الخاصة بالأطفال ، إلى اختيار السُّبل السهلة حتى لو كانت ضارة ، فى سبيل الوصول على الاستحواذ على اهتمام الأطفال . 
* الوسائل والمضمون :
ونحن عندما نــُـطالب بمُضاعفة الكُتب والمجلات التى تصدر للأطفال ، وعندما نــُـطالب بإنشاء العديد من دور المسرح والعرائس والسينما والنوادى وبيوت الثقافة الخاصة بالصغار ، وبإنتاج الأفلام والألعاب وبرامج الكمبيوتر لهم ، وبزيادة ساعات الإرسال الإذاعى والتليفزيونى الخاصة بهم ، وتخصيص صفحات لهم فى كل صحيفة              أو مجلة ، أو بزيـادة المحتــوى العربى فى مواقع الانترنــت .. عندمـا نــُـنادى بكل هذا ، فنحن لا نفترض إلا أن هذه مُجرّد وسائل للاتصال ، لا يعنى مُجرّد زيادة حجمها ، سلامة تأثيرها .
إن قيمــة هــذه الوسائــل فــى النهايــة ، هــى فيمــا توصّله وتـَـبْـنِـيــه وتؤكّـده عند
الأطفال من سلوك وأفكار وقيم وأسلوب حياة .
* مدى الوعى بمضمون ما يُقدَّم للأطفال :
وفى إحــدى الدراســات التـى صدرت عن مركز بحوث ودراسات أدب الأطفال ، باسم " الأطفال يقرءون " ، تـبرز حقيقة غريبة ، هى أن بعض المؤلفين العرب لا يصدرون فى كثيرًا مما يكتبون للأطفال عن وعى واضح بالأثر الذى تخلفه كتاباتهم فى الأطفال .
لقد اتضح مثلاً أن 45 % من الحالات التى قام فيها أبطال القصص محل الدراسة بعدوان ، قد تـُـركوا دون إثابة أو عقاب . وقد يُثار سؤال حول القدر الذى يجب أن نــُـعلّمه للأطفال من وجوب رد العدوان بالعدوان ، خاصة وأننا فى مواجهة مع تحدى الأطماع التوسّعية الإسرائيلية ، لكن هذه القضية لم تكن محور اهتمام عدد كبير من المؤلفين ، فأصبح معنى ترك السلوك العدوانى دون جزاء ، إغراء للصغار بتقليد هذا النمط من السلوك .
كما دلّت الدراسة على أن القصص التى يشيع الإقبال بين الأطفال على مُطالعتها ، تــُـشجّع على الخضوع وليس الاستقلال ، ولا تحظى فيها الأنماط السلوكية المستقلة بأى تقدير .
وعندما تعرَّض المؤلفون للسلوك المؤدى إلى " التحصيل " ، نجد أنه قد              أُثيب 40 % فقط ممن توافر لديهم دافع التحصيل ، بينما عوقب 11 % ، وتـُـرِكَ 49 % دون مكافأة أو تشجيع . وهذه ظاهرة تدل على عدم وعى الكُتــّـاب بضرورة إبراز فائدة التحصيل ، وأهميته لنمو شخصية الطفل وتفكيره العلمى .
ثم قال البحث ، الذى اشترك فيه ستــّـة من الباحثين : ومن الغريب أن حركة الإصلاح الاجتماعى التى بدأت فى خمسينيات القرن العشرين ، لم يظهر أثرها أو صداها فى قصص الأطفال .
ولعله مما يزيد من أهمية وخطورة هذه الحقائق التى أبرزها البحث ، أن تأليف الكُتب القصصية للأطفال ، هو أكثر الميادين التى طرقها المُهتمون بثقافة الطفل فى العالم العربى .
          كما دلّــت دراســات أخــرى ، علــى أن أدب الأطفــال العربــى ، يُقلّل مــن شــأن
المرأة ، ويُعطيها دورًا ثانويًّا فى مجال تحمّل مُختلف المسئوليات .
          وأبرزت دراسات ثالثة ، أنه لا يوجد توازن عددى بين مُختلف أصناف المعرفة التى تتناولها كُتب الأطفال ، وأن هناك نقصًا واضحًا فى موضوعات مُـعّينة ، مثل كُتب الشـِّـعر والموضوعات العامة والفنون الجميلة .
*          *          *
وهذه الحقائق هى نموذج لما سنلقاه فى مضمون ما تــُـقدِّمه بقيّة أجهزة ووسائل الاتصال ، سواء التى تستخدم الأغنية أو التمثيلية أو الفيلم أو الكمبيوتر أو مُختلف صور البرامج المسموعة أو المرئية ، لكن سيبقى الكتاب من أهمها ، لما للكتاب من صفة البقـاء
 فترات طويلة بين أيدى الأطفال والآباء والمُربين .
لكن يجب أن نــُـنبه إلى أن البحث أثبت أيضــًـا أن كثيرًا من الكُتب التى                   لا يُقبــِـل عليها الأطفال ، هى من الكُتب التى تدور حول موضوعات قومية أو علمية ، لكنها لم تــُـقدَّم بطُرق مُناسبة للأطفال .
فما هو إذن المضمون الذى يجب أن يحرص على تقديمه من يستخدمون مُختلف وسائل توصيل الثقافة للأطفال ؟
للإجابة عن هذا السـؤال ، يجب أن نُحدِّد الهدف الذى نسعى إليه من تثقيف أطفالنا :
- هل نعدُّهم ليخدموا أوطانهم سواء فى المجال الداخلى عن طريق التطوع والخدمة العامة ، أو فى المجال الخارجى عن طريق الدفاع ضد أى اعتداء ، وذلك بتنمية إحساسهم بالمسئولية الاجتماعية والقومية ، أم نعدّهم لكى يفوز كل منهم عندما ينضج بقدر من السُّلطة أو المُتعة أو المال أو الراحة أكثر من الآخرين ؟  
- هل نعدُّهم لكى يُصبح كل منهم عضوًا عاملاً نافعًا فى جماعة تسعى إلى تحسين أحوالها ، وذلك فى أمة عربية متعاونة ، يُسعده ما يُسعدها ويُشقيه ما يُشقيها ، أم أننا نسعى إلى تكوين فرد مُنعزل مُنغلق على ذاته ، لا يبحث إلا عن مكاسبه الشخصية ، وعن تجنــّـب الأذى لنفسه ولو وقع الأذى على كل من عداه ؟
- هل نــُـريده فردًا يؤمن بالقدرية ، ويُلقِى تبعة الفشل على  الحظ ، أم نــُـريده مؤمنــًـا بالجُهد والعلم والتجربة والتحصيل سبيلاً للتطوّر والتقدّم ؟
قد لا نختلف فى تحديد الصورة التى نــُـريد أن يشب عليها أطفالنا ، لكن هل القيم التى يتضمّنها ما يُقدَّم إليهم فى مُختلف وسائل التثقيف ، تــُـؤدى فعلاً أو يُمكِن أن تــُـؤدى إلى خلق المُواطن  الذى يشعر بالمسئولية عن وطنه الكبير ، والقادر فعلاً على تقديم أفضل العطاء لهذا الوطن ، مُتــّـخذًا من القيم الروحية والإيمان بالعلم                سبيلاً للتقدّم ؟
* جوانب إيجابية وجوانب سلبية فى الشخصية العربية :
إن الشخـصية المصرية فيها جوانب طيّبة من أصلها العريق ، وفيها جوانب سيّئة أتت إليها من تأثيرات تاريخية خلفتها عهود الاستعمار والتخلف .
فما الذى زرعته عهود التخلف فينا ؟
* لقد زرعت المُحافظة والتعلّق بالماضى والعمى عن احتمالات المُستقبـل ، فَغَــذَّت فى الشخصية المصرية الروح القدرية التى تؤمن بما هو مكتوب على الجبين              ولا تجد لنفسها سبيلاً إلى تغييره .
* لقد خلقت عهود التخلف شخصية غير أصيلة ، تواكُلية ، لا تميز بين الإيمان بالله والاعتقاد  فى قــُـدرته وحكمته ، وبين ضرورة الاعتماد على النفس فى تقرير المصير.
* خلقت شخصية لا تكاد ترى غير صالحها الخاص وملكها الخاص ، أما الصالح المُشترك ، والمِلك العام ، فلا اعتبار لهما .
* لقد خلقت شخصية لا تحرص على الوقت ،  تعيش فى إطار القيم الزراعية والرعوية ، لا تتشبّث إلا بقطعة من طين أو عدد من الأبقار والأغنام .
- وما نُقدِّمه لأطفالنا يجب أن يحرص على خصائص الشخصية المصرية الأصيلة ، مع تصويبها فى ضوء الأحوال الجديدة ، وهو ما أكّدت عليه حلقة بحث " أُسس التربية فى الوطن           العربى " التى عقدها المجلس الأعلى للفنون والآداب ( المجلس الأعلى للثقافة حاليًّا ) .
لقد انتهت دراسات ومناقشات هذه الحلقة ، إلى أنه يجب أن نــُـركّز أساسًا             على ثلاثة مُنطلقات رئيسية ، تؤكّد على أن تكون الركيزة القويّة لمضمون ما نــُـقدِّمه لأطفالنا ، الذين سيحملون عبء تشكيل الحياة على أرض الوطن العربى فى الغد القريب .
هذه الأُسس الـثلاث الـتى يـجب أن تكون محور مضمون ما نــُـقدّمه لأطفالنا بمُختلف الوسائل والسُّبل ، هى فى تركيز شديد :
أولاً : تنمية وتقوية الشعور بانتماء أطفالنا إلى وطن عربى واحد :      
فنحن الآن نعيش عصر الوحدة ، عصر التعاون العالمى ، العصر الذى لا حيـاة فيــه
لدول مُفكّكة مُتباعدة . لقد أصبح التفوّق السياسى والعسكرى والاقتصادى مُمكنــًـا فقط للكيانات الدولية الضخمة ، واتحاد دول أوربا نموذج ناجح فى هذا المجال .
لهذا ، كما قالت بحق توصيات الحلقة الدراسية التى دارت حول " العناية بالثقافة القومية للطفل العربى " التى عقدتها جامعة الدول العربية فى بيروت عام 1970 ، فإنه يجب أن تعمل كل الأجهزة الثقافية الموجّهة للأطفال على تنمية الشعور القومى للطفل العربى ، وتكوين ثقافته التاريخية القومية ، حتى يحس بمواطنته العربيـة .
وعلى غرس روح الاعتزاز بالأمة العربية ، وبدورها التاريخى المُستمر فــى الحفــاظ
على القيم الإنسانية ، والدفاع عنها ، وإسهامها فى تقدم الحضارة العالمية .
وعلى تنمية ولاء الطفل العربى للوطن العربى ولثقافته ، وتحصينــه ضــد النزعــات
القبلية والطائفية والإقليمية .
ثانيًا : تنمية وتقوية إحساس أطفالنا بالمسئولية نحو المجتمعات التى يعيشون فيها :
فلن تتطوّر مُجتمعاتنا ولن تتقدّم ، إلا على أيدى أبنائها ، الذين يجب أن يُصبح بناؤهم الفكرى والنفسى قائمًا على الشعور بالسعادة والفخر فى التضحية بالراحة والمُتعة والكسب المادى فى سبيل تقدُّم بلادهم ونموها ورفعتها .
لهذا لابد من تنمية شعور كل طفل بالمسئولية الاجتماعية عن كل فعل يُقدِم عليه أو يُحجــِـم عنه ، ولابد من تأكيد حقيقة كونه عضوًا فى مُجتمع مُتكامل ، يُسعده ويُشقيه               ما يُسعد هذا المُجتمع وما يُشقيه .
لابد أن يكون واضحًا فى وجدان كل طفل ، أن المُجتمع الذى يُتيح له فرص النمو والصحة والتعليم والعمل ، ينتظر منه فى المُقابل أن يؤمن أن مسئوليته الأساسية هى فى النهوض بهذا المُجتمع علميًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وحضاريًّا ، بغير أن يربط ظروف أداء هذه المسئولية بما يُمكِن أن يعود عليه من كسب أو مُتعة أو راحة .
نــُـريد تنمية رغبة كل طفل من أطفالنا فى زيادة اتصاله بالآخرين ، وفى شعوره بالمسئولية عن الآخرين ، خاصة خارج دائرة أسرته ، حتى تشمل اهتماماته المُجتمع ككل .
نــُـريد أن نــُـنشئهم على التوادِّ والوفاء والتعاطف . إنها دوافع تـُساهم فى تماسك المُجتمع وتدعيم التواصل الوجدانى بين الطفل وبين وطنه وأسرته والمُحيطين به ، بدل الاتجاه نحو الفردية والبحث عن المصلحة الخاصة .
نــُـريدهم أن يشعروا بقيمة البطولة الجماعية والقيادة الجماعية   والتعاون ، بدلاً من الأنانية وتمجيد البطولة الفردية وعبادة الفرد .
يجب أن نــُـنمى شجاعة الأطفال وثقتهم بأنفسهم . نــُـريد أن نــُـنشئ الأطفال على الاستقلال لا على الخضوع . مع تأكيد فكرة النمو والتقدم والتطوّر ، وقــُـدرة الإنسان على صُنع الواقع والتاريخ ، ومن ثم خلق الثقة فى نفوس الأطفال بقدرتهم على تحقيق الأهداف التى يصبو إليها مُجتمعهم عندما يبلغون سن النضج .
ثالثًا : تنمية طاقات الأطفال الخلاّقة ليصبحوا قادرين على تطوير  مُجتمعاتهم :
          ذلك أن القيمــة الحقيقيّــة لمــن يشعــر بالمسئوليــة هــى قــُـدرتــه على أن يــؤدى  
ما تفرضه عليه هذه المسئولية من واجبات بكفاية ونجاح .
 لقـد أصبحنا نعيش عصر العلم الذى يقوم على التجريب ويؤدى إلى الاستفادة من موارد الطبيعة ، عصر الصناعة والاختراع والاستخدام الواسع للنتائج العملية لكل اختراع ، عصر الفضاء الذى يغزو فيه العُلماء الكواكب الأُخرى ، عصر ثورة الاتصالات الكونية والكمبيوتر والانترنت والأقمار الصناعية التى قَرَّبَت بين الأفراد ، وألغت المسافات بين الدول .
          لذلك يجب العمل على تنمية قــُـدرة الأطفال على استخدام عقولهم وأيديهم ، وعلى سُرعة وسلامة استجابتهم لما يرونه وما يشعرون به وما يلمسونه . 
          نُريد أن ندفع أطفالنا إلى البحث والاستقصاء ، وما يتبعه من نشاط ذهنى ، وبذل جهد للتعرّف على العالم المُحيط بهم .
يجب أن نحوّل الأطفال إلى باحثين بدل أن نُقدّم لهم المعلومات جاهزة . وبدلاً من أن نحشو عقولهم بالبيانات الجاهزة ، نوجههم إلى أن يتعلّموا كيف يُفكّرون ، وكيف يبحثون عن المعلومات ويتأمّلونها بعين ناقدة لكى يتوصلوا إلى نتائج جديدة .
           يجب أن نوفّر لهم كل إمكانيات البحث والتجريب ، كل إمكانيات الرحلات والزيارات العلمية والفنية ، كل إمكانيات المعرفة والاطلاع ، حتى يجدوا السبيل بأنفسهم للعثور على إجابة لكل سؤال قد يثور فى أذهانهم أو يعترض خيالهم الخلاّق .
          يجب أن نُثير اهتمامهم بكل ما يُساعدهم على تنمية طاقاتهم الخلاّقة ، وبذلك نــُــعِدُّهم لمواجهة ما قد تواجههم به الحياة ، حتى يصبحوا قادرين على التغلّب على مُختلف المواقف والمُشكلات فى العالم المُحيط بهم .
          كذلك يجب أن نعمل على توسيع خيال الصغار ، فبغير الخيال الخلاّق الواسع لن يكون هناك تقدّم ولا تطوّر .
           كذلك يجب أن نُساعد الصغار على صقل تذوُّقهم للفنون ، وعلى إشاعة الذوق والجمال فى كل ما يُحيط بهم ، حتى نؤهلهم فى مُستقبل أيامهم أن يُصبحوا قادرين على تمييز الأصيل والثمين من الغث والمُزيّف ...
*          *          *
          هذه هى العناصر الثلاثة التى يجب أن تكون المُحتوى الأساسى لمضمون ما نُقدِّمه لأطفالنا ،
 سواء قدّمنا هذا المضمون فى كتاب أو مجلة أو مسرحية أو فيلم أو برنامج إذاعى                 أو تليفزيونى أو للكمبيوتر ، أو فى أغنية أو لُعبة أو برنامج ترفيهى ، أو غير هذا من وسائل  التثقيف .
ولا شك أن القيم الدينية والخلقية ستظل دائمًا أهم العوامل فى تعميق وتأكيد هذا المضمون .
          وقــد أكّــدت كثيــر من المُؤتمرات والحلقات الدراسيـة الخاصــة بثقافــة الأطفــال
 العرب ، ضرورة الحرص على أن تكون هذه العناصر أساس مضمون ما نــُـقدِّمه لأطفالنا .
فجاء فى توصيات مؤتمر وزارة الثقافة لثقافة الأطفال ، والذى عقدته الثقافة الجماهيرية فى ديسمبر 1975 ، ما يلى :
" يوصى المؤتمر أن تقوم فلسفة تثقيف أطفالنا على تأكيد القيم الأصيلة ، الروحية والإنسانية والأخلاقية ، وعلى تنمية وتقوية الشعور بانتماء أطفالنا إلى وطن عربى واحد ، وتنمية وتقوية إحساسهم بالمسئولية نحو المُجتمعات التى يعيشون فيها ، وتنمية طاقاتهم الخلاّقة لكى يشبوا مواطنين مُنتجين " .
وهو نفس ما جاء فى النداء الذى وجهه المُشتركون فى الندوة التى عقدتها لجنة ثقافة الطفل بالمجلس الأعلى للآداب والفنون فى يونيو سنة 1974 ، حول " المضمون الفنى والثقافى المُقدّم للطفل العربى " .
 * المضمون وأسلوب تقدّمه :
سنظل نــُـنادى بحاجة الأطفال العرب المُلِحَّة إلى كُتب أكثر تنوعًا وتميّزًا ، ومسارح ونوادى وألعاب أفضل فى دورها التربوى والإبداعى ، ومتاحف ورحلات وملاعب وحدائق وبرامج مسموعة ومرئية أفضل وأكثر تميّزًا .
وفى هذا نؤكّد ، بالإضافة إلى ضرورة تحقيق الأهداف التى نــُـريد أن نصل إليها من تثقيف الصغار ، إلى ضرورة أن يُقدَّم المضمون الجيّد بأفضل الطُّرق الفنية ، مع مُراعاة أطوار النمو المُختلفة للأطفال . فلا يشفع لهدف نبيل أو مضمون جيّد ، أن يُقدَّم بطريقة فجّة أو مُملّة أو سيّئــة ، أو بغير مُراعاة لمرحلة النمو التى يخاطبها .
* التسلية كمضمون :
 لكن يجب أن نــُـشير هنا إلى تحفــّـظ أساسى ، ذلك أن السوق تغمرها مواد موجّهة إلى الأطفال هدفها الوحيد أن تشدّه وتشغل وقته ، وهى بعد هذا فارغة من     أى مضمون ، إذا افترضنا حُسن النية ولم نقل إنها سيّئة المضمون .
وقد يكون هذا مقبولاً فى مُجتمعات مُتقدّمة ، مُتخمة فعلاً بما يُلبى حاجات الطفل ، وتترك للآباء والمُربين فُرصة واسعة للاختيار .
 أما فى مُجتمعاتنا النامية ، فإننا نُعانى من مُشكلة المُفاضلة بين أمور كُلّها ضرورية :                      إننا نــُـضحى لكى نــُـنتج فيلمًا  للأطفال ، ونقتطع من ميزانية فى ناحية من النواحى لنــُـقدّم للأطفال مسرحية أو مجلة أو كتابًا . إننا لسنا فى مرحلة تسمح بأن نجعل التسلية والترفيه هدفــًـا " وحيدًا " لما نــُـقدِّمه إلى أطفالنا ،  بل لابد أن تكون التسلية والترويح وسيلة فى نفس الوقت لنـُـقدِّم للطفل ما هو فى حاجة إليه لبناء شخصيته واهتماماته وسلوكه وقدراته الإبداعية ، على أن يجىء كل هذا من خلال الضرورات الفنية ، وليس مُقحمًا على الإبداع الأدبى والفنى .
* الاستعانة بالمواد الأجنبية الموجّهة للأطفال :
وفى هذا ، فإن الاعتماد علــى المــواد الأجنبيــة الموجّهــة للأطفــال ، إذا لم يتم
بمُراعاة الدقــّـة الشديدة فى الاختيار ، فإنه يُمكِن أن يؤدى إلى إغراق أطفالنا                 فيما لا يُفيد ، ومنعهم من ثــَـمَّ من البحث عما يُفيد ، أو قد يؤدى إلى تثبيت قيم ومفاهيم خاطئة بل ضارة بمُجتمعنا .
وكثير من المواد الأجنبية الموجّهة للأطفال ، حتى لو تجاوزنا عما تتضمّنه                  مما لا يُلائم أطفالنا ، فإنها لا تتبنــّـى ما يهمنا أن نــُـنميه فى أطفالنا ، ولا تؤكّد على المعلومات والقيم التى لابد للطفل العربى أن يُعايشها .
إن هذه الحقائق ليس معناها منع الاستفادة بالمواد الأجنبية المُوجّهة للأطفال ، ففيها كثير جيد ، بل تعنى فقط ضرورة التدقيق الشديد عند اختيار ما يُقدَّم منها لأطفالنا ، أو تعديلها بما يتلاءم معنا .
* كيف نصل بهذا المضمون إلى الأطفال :
ولكى يصل هذا المضمون - الذى حدّدناه فى تلك العناصر الرئيسية الثلاثة - إلى أطفالنا ، لابد من توجيه العناية إلى ثلاث فئات فى المُجتمع هم :
الراشــدون بوجــه عام ، ثم الراشــدون الذيــن ينتجــون أو يُقدّمــون أعمالاً فنيـة أو ثقافية للأطفال ، ثم من يتخصّصون فى الإشراف على مُمارسة الأطفال لمُختلف الأنشطة الثقافية :
أولاً : الراشدون بوجه عام :
من آباء وأمهات ومُربين ومُدرّسين ومسئولين فى مُختلف أجهزة الإعلام والثقافة ، وفنانين وكُـتــّـاب ، وكل من يشترك فى توجيه الرأى العام ، أو يعمل فى إحدى وزارات                       أو مؤسسات الخدمات أهلية أو حكومية . فهؤلاء جميعًا لابد أن يكون لديهم وعى واضح وفهم شامل لمُختلف جوانب قضايا تثقيف الأطفال ، سواء فيما يتعلّق باتفاقهم على الأهداف التى يعمل المُجتمع لبناء الأطفال على أساسها ، واقتناعهم بهذه الأهداف ، وعملهم بتلقائية على تحقيقها -                     أو فيما يتعلّق بقـدرتهم على حُسن اختيار مُختلف الوسائل الثقافية المُقدّمة للأطفال من كُتب                   أو مجلات ولعب وأفلام ومسرحيات وبرامج إذاعية وتليفزيونية أو للكمبيوتر ، أو فيما يتعلّق بوعيهم بالطُّرق التربوية والنفسية التى يجب أن يتعاملوا بها مع الأطفال عندما يُمارس الأطفال أحد الأنشطة الثقافية ، مثل القراءة أو الرسم أو التمثيل أو اللعب ، أو مشاهدة التليفزيون ،              أو الجلوس أمام شاشة الكمبيوتر ، أو الذهاب فى رحلة ، أو زيارة لمتحف .
إن كل مُجتمع يبنى ثقافة صغاره على النحو الذى يُحقــّـق أهدافه ومصالحه ، وإذا لم تكن واضحة ، فى وعى الكبار ، الصورة التى تــُـحقــِّـق مصلحة المُجتمع من تربية الأطفال ، فلن يتحقــّـق الشىء الكثير من أيّة خطّة مُتعلّقة بثقافة الأطفال .
 إن الأب أو الأم أو الأخ الأكبر أو المُدرّس أو أمين المكتبة ، هو الذى يشترى للطفل مجلّته وكتابه ولُعبته وبرنامجه للكمبيوتر أو فيلم الفيديو المناسب له ، وهو الذى يصطحبه إلى السينما أو المسرح أو المتحف . ولن يفعل البالغ هذا إلا إذا أدرك ضرورته لبناء الطفل بناءً سليمًا ، لكنه قد يفعله بغير فهم فيُسىء الاختيار أو يخطئ فى التعامل .
وفى هذا تقع المسئولية الأولى على أجهزة الإعلام من صحافة وإذاعة  وتليفزيون ، إذ يجب أن تقوم بدور كبير وأساسى لنشر الوعى بين البالغين حول مُختلف قضايا تثقيف الأطفال . كذلك يجب تشجيع نشر الدراسات والكُتب التى تعمل على إثارة اهتمام البالغين بقضايا ثقافة الطفل ، وتعميق هذا الاهتمام بينهم .
كما يجب أن نُراعى ، فى كل ما نــُـقدّمه للكبار ، أن الأطفال كثيرًا ما يسمعونه أو يُشاهدونه                  أو يقرءونه ، وأوضح مَثل على ذلك مُلصقات إعلانات السينما فى كل شارع وأمام كل مدرسة ، وبرامج الإذاعة والتليفزيون .
كما أن ما نُقدّمه للكبار يؤدى إلى تكوين قيم الكبار واتجاهاتهم نحو الأسلوب والصورة التى نرجو أن يشب عليها أطفالنا .
لذلك لابد أن نــُـراعى ما تتركه المواد المُقدّمة للكبار فى نفوس الأطفال من انطباعات ، ومما تــُـعمّقه فى وعى الكبار من قيم واهتمامات سيعملون بوعى أو بغير وعى على غرسها فى الصغار ، إذ يجب أن يُساهم كل ما يُقدَّم للكبار فى العمل على تحقيق أهدافنا من خطّة تثقيف رجال الغد ، وأن نمتنع ، حتى فيما نــُـقدّمه للكبار ، عن كل            ما يتعارض مع هذه الأهداف ، باعتبار أن العمل على بناء أطفالنا بالصورة التى ارتضاها مُجتمعنا ، هو هدف قومى عام ، لابد أن نوجّه كل الوسائل لتحقيقه ، خاصة وقد                  تمّ التنبّه فى العالم إلى ضرورة قيام تربية الأطفال على أساس " القدوة " باعتبارها أكثر العوامل فاعلية وتأثيرًا على قيم وسلوك ومُثــُـل الأطفال .
ثانيًا : الراشدون الذين ينتجون أو يُقدّمون أعمالاً فنية أو ثقافية للأطفال :
مثل من يكتبون ويرسمون كُتب ومجلاّت الأطفال ، من يكتبون ويُخرجون ويُمثلون برامج الأطفال فى الإذاعة والتليفزيون ، ومسرحيات وأفلام الأطفال ، وبرامج وألعاب الكمبيوتر للأطفال . فلا يكفى مع مثل هذه الفئة أن يُعايشوا الأهداف التى نبتغيها من تثقيف الأطفال ، أو أن يتفهموا كيفيّة التعامل اليومى مع الأطفال فى سبيل تحقيقها ، بل لابد هنا من تعميق معرفتهم بالخبرة الفنية ( التقنية ) الخاصة بإنتاج هذه الوسائل بالمواصفات التى تجعلها مؤثــّـرة على سلوك وقيم واتجاهات الأطفال ، وذلك بجاذبيتها وتشويقها ، بالإضافة إلى مُناسبتها للمرحلة السنية للأطفال الذين تــُـوجَّه إليهم .
لذلك لابد أن نضع فى مُقدّمة الأولويات عند التخطيط الشامــل لثقافــة أطفالنــا ،
الإعداد الجيّد لمن ينتجون أو يشتركون فى إنتاج أو تقديم مُختلف الوسائل الثقافية الخاصة بالأطفال . فهناك فى الواقع إهمال وتجاهل لهذا الإعداد ، فى الوقت الذى يجب أن تـُـوفــَّـر فيه أعداد كبيرة من المُتخصّصين والخُبراء فى هذا المجال .
ذلك أنه بقدر ما يكون إنتاج مادة جيّدة للأطفال - فى شكلها ومضمونها - مُفيدًا وبنــّـاءً ، بقدر ما يكون إنتاج مادة سيّئة مُسيئــًـا ومُضرًّا ، وليس فقط غير مُفيد .
لذلك يجب إعطاء أولوية مُطلقة لإعداد هذه الفئة ، حتى لا يتكرّر ما نجده من صدور كتاب غير مناسب للأطفال من بين كل أربعة أو خمسة كُتب ، وهو ما بيّنته تقارير لجان اختيار الكُتب لمكتبات المدارس بوزارة التربية والتعليم بمصر ، أو ما حدث مرّات من إنتاج أفلام قصيرة للأطفال حُفظت فى عُـلَبها ولم ترَ النور ، إما لأنها غير مُفيدة ، أو لأنها تدور حول قيم ضارة .
ثالثًا : من يتخصّصون فى الإشراف الثقافى المباشر على الأطفال :
مثــل مــن يُشرفون على مكتبات ونوادى الأطفال أو دور الحضانة أو الساحات الرياضية أو المُدرسين . فإننا نُلاحظ أن مُجتمعنا لا يلتفت بدرجة كافية إلى توفير الخبرة البشرية فى مجال التعامل مع الأطفال بمُختلف الوسائل والمواد الثقافية ، من كتاب وموسيقـى ومسرح وألعاب وغيرها ، ما عدا استثناءات قليلة تتمثــّـل فى بعض دورات تدربيية قصيـرة خاصة بثقافة الطفل .
ولعل المثال الواضح للإهمال فى هذا المجال ، أن كُليات التربية ومعاهد تخريج المعلمين ، تــُـعانى نقصًا واضحًا فى تدريب من سيقومون على تعليم أطفالنا ، بكيفيّة ابتكار واختيار واستعمال الوسائل الثقافية الخاصة بالطفل . مثال ذلك ، قلة خبرتهم بما نــُـسميه " مسرحة المناهج " ، وهو استخدام الأسلوب التمثيلى فى تقريب مُختلف المواد الدراسية للأطفال وجعلها مُشوّقة لهم ، وكذلك نـُـدرة خبرتهم فى مجال استخدام الكمبيوتر فى التعليم وفى البحث عن المعلومات وفى غير ذلك من الخدمات الإيجابية التى يقدمها هذا الجهاز .
           لذلك لابد أن نضع أيضــًـا ضمن الأولويات فى مجال تخطيطنا لثقافة الطفل ، هذا الإعداد الشامل الدقيق لمن يتولون أو سيتولون - على نحو مباشر - مُهمّة تثقيف الأطفال .
لقد علّمتنا الخبرة ، وبدون استثناءات ، أن كفاءة من يعمل مع الأطفال فى المجال الثقافى ، يُمكن أن تــُـعوِّض كل نقص فى الإمكانيات والوسائل ، والعكس غير صحيح إطلاقــًـا ، فكثرة الوسائل والإمكانيات قد يكون لها أثر عكسى إذا تولَّى أمر تثقيف الأطفال مَنْ كان على غير دراية بأسلوب التعامل معهم .
إن مُشرفًا مُثـقـَـفًا مُتحمّسًا يُحِب الأطفال ويحترم قيمهم ويفهم عالمهم ،           يُمكِن - بأقل الإمكانات - أن يقص القصص ويُنظــّـم الرحلات ويُثير المُناقشات ويدفع الأطفال إلى الابتكار والنشاط الخلاّق ، فى إمكانه أن يعمل على رفع مُستوى تذوّقهم للفنون وللطبيعة ، وأن يوجّههم إلى استعمال الخامات المُتوفرة فى مجال التشكيل ،  وكتابة مجلاّت الحائط ، والمُساهمة فى خدمة البيئة ، والاشتراك فى ألعاب الخلاء ، وفى ابتكار مُختلف الألعاب مما يتوفر حولهم من مواد .. هو باختصار قادر على تنمية كافة طاقاتهم الخلاّقة . هذا فى حين أن مُشرفـًـا سيّـئـًـا - حتى إذا توافرت حوله أغنى الإمكانات - قد ينفر الأطفال من كل نشاط خلاّق ، بل قد يوجّههم توجيهًا خاطئـًـا             أو فيه إحباط لهم ، وتضييع لثقتهم بأنفسهم ومُستقبلهم ومُجتمعهم .
خاتمة :
          إن الاهتمام بثقافة الطفل يُمكِن أن يكون الخطوة الكُبرى فى سبيل وحدة فكرية وعاطفية وحضارية قويّة لم تشهد لها البلاد العربية مثيلاً مُنذ وحَّدَت الحضارة العربية الإسلامية بينها . وهذا أمر تنبهت لمثله دول أوربا ، فجعلت استقبال معسكرات وأنشطة الأطفال وزياراتهم لمختلف دول الاتحاد الأوربى ، تتم بأبسط وأسرع الإجراءات ، بل وبمختلف وسائل الجذب والتشجيع ، سواء فيما يتعلق بتهيئة وسائل السفر ، أو قلة النفقات ، أو توفير أماكن الإقامة المتميزة غير المكلفة .
          إن وضوح الأهداف فيما يُقدَّم للأطفال بمُختلف الوسائل ، وتبادل زيارات جماعات الأطفال على نطاق واسع ، وتبادل الخــُـبراء فى مُختلف ميادين ثقافة الطفل ، وتركيز مُختلف وسائل الاتصال الجماهيرية على تنمية الإحساس بالمسئولية تجاه المُجتمع الذى يعيش فيه الأطفال ، وعلى بناء العقل العلمى ، والرؤية المستقبلية ، وتنمية العقلية الناقدة المستقلة ، واحترام القيم الحضارية ، وتنمية الإحساس بضرورة تعاون كل بلد مع البلاد العربية الأُخرى ، وتعريف الأطفال تعريفــًـا واسعًا وشاملاً بحقائق الحياة والناس فى مُختلف بقاع مصر والعالم العربى ، كل هذا يجعل من الاهتمام بثقافة الأطفال والعناية بمضمونها وإتقان وسائل تقديمها ، من أقوى وسائل التقدم المصرى  والتقارب العربى والقوة لكل من يعيش على أرض مصر أو المنطقة العربية.
                                                                                                 
        6 / 11 / 2013                                                                يعقوب الشارونى
                                                                                                                         كاتب الأطفال
   والرئيس السابق للمركز القومى لثقافة الطفل


ليست هناك تعليقات: